akdak

المقالات

قسم الادعية والزيارات

حراك الإمام علي بن الحسين عليه السلام في الدَفْعِ والتَغييرِ الأخلاقي

202

مرتضى علي الحلي

لَقَد اعتَمَدَ الإمامُ عَليُّ بن الحُسَين, زَينُ العَابِدِين, عَلَيه السَلامُ, سِيَاقَ الدَفْعِ, والإبدَالِ والتَبدِّيلِ الأخلاقي في تَعاطيه مَع عَمليَّةِ التَغييرِ الاجتماعِي آنَذَاك, ومَا يُقَدِّمُه هَذا المَنهَجُ مِن بُنَى وأُسسٍ صَالِحَةٍ وقَويمَةٍ، تُسهِمُ في إنـجاحِ التَغييرِ في وقتِنَا المُعَاصِرِ, لو أُخِذَ بها مَنهَجَاً وسُلُوكاً، وذلك بمُقابلةِ الرَذيلَةِ بالفَضيلَةِ والسَيءِ بالحَسنِ, فِعْلاً وتَطبيقا, والتي هي مِنْ شؤونِ ومُقتَضَيَاتِ الحِكْمَةِ العَمَليّةِ, والمَسؤوليّةِ الأخلاقيّةِ, ولِمَا لذلِك مِنْ تأثيرٍ بَليغٍ في المُقابلِ واقعاً، كَمَا وجّه القُرآنُ الكَريمُ بقولِه تَعَالى: ((وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))( فُصلتْ 34).

وهذا ما تَمَثّلَ بقوله، عَليه السَلامُ, في دُعَاءِ مَكَارِمِ الأخلاقِ في الصَحيفَةِ السَجّادِيّةِ: (اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأبْدِلْني مِنْ بِغْضَةِ أهْلِ الشَّنآنِ المَحبَّة، وَمِنْ حَسَدِ أهْلِ البَغْيِ المَوَدَّةَ، وَمِنْ ظِنَّهِ أهْلِ الصَّلاح الثّقَةَ، وَمِنْ عَداوَة الأدْنَينَ الوَلايَةَ، وَمِنْ عُقُوقِ ذَوِي الأرْحامِ المبرَّةَ، وَمِنْ خِذْلانِ الأقْرَبينَ النُّصْرَةَ، وَمِنْ حُبِّ المُدارينَ تَصْحيحَ المِقَةِ، وَمِنْ رَدِّ المُلابِسينَ كَرَمَ العِشْرَة، وَمِنْ مَرارَةِ خَوْفِ الظَّالِمينَ حَلاوَةَ الأمَنَةِ)), وقَد جَسّدَ الإمَامُ عَليُّ بن الحُسَين, عليه السَلامُ, ذلك واقعاً في حَياته الشَريفة, وفي المُجتمعِ الذي عَاشَه، ليكونَ أسوةً حَسَنَةً، قَادِرَةً على التأثيرِ الفِعْلِي, بِمَنْ يَتعَاطَى مَعَهم، وجَاذبةً للمُتأسي بها, خُلُقَاً, وسُلُوكَا.
وقد أثبَتَ سَدَادُ مَنهَجِه في سِيَاقِ الدَفْعِ والإبدَالِ الأخلاقي، ثَمَرَاتِه عَمَلاً، كَمَا في المَأثورِ الروائي عنه، عَليه السَلامُ، مِنْ أنّه: (شَتَمَ بَعضُهم زَينَ العَابدين، صَلواتُ اللهِ عليه، فَقَصَده غُلمَانُه، فقال: عليه السَلامُ: دَعوه، فإنَّ ما خَفَي مِنَا أكثَرُ, مِمّا قالوا، ثُمّ قَالَ له: ألَكَ حَاجَةٌ يا رَجلُ ؟ فخَجَلَ الرَجلُ، فأعطَاه ثَوبَه, وأمَرَ له بألفِ درهم، فانصَرَفَ الرَجِلُ صَارخاَ يقولُ: أشهَدُ أنّكَ ابن رسولِ اللهِ).
وفي صِفَةِ العَفوِ عَمَّنْ يَتَجَاوَزُ حتى مع الأعدَاءِ نَجِدُ الإمَامَ، عليه السَلامُ، يُجِسّدُهَا عَمَليّاً، وقد وَرَدَ هذا المَعنى القيّمُ في روايةٍ مُعتبرةٍ عن الإمامِ مُحَمّدٍ الباقر، عليه السَلامُ،( الراوي، حدثني مُحَمّد بن علي الباقرُ، عليهما السَلامُ, وغيره قالوا: وَقَفَ عَلى عَليِّ بن الحُسَين عليهما السَلام رَجلٌ مِنْ أهلِ بيته فأسمَعَه وشَتَمه فلم يُكلّمه، فلما انصرَفَ قال عليه السَلامُ لجلسائهِ: قد سَمعتم ما قالَ هذا الرَجلُ وأنا أحبُّ أنْ تبلغوا معي إليه، حتى تَسمعوا رَدِّي عليه، قال: فقالوا له: نَفعَلُ ولقد كُنّا نحبُّ أنْ تقولَ له ونَقولُ، قال: فأخذَ نعلَيه ومَشَى وهو يَقولُ: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) (آل عمران 134)، فعَلمنا أنّه لا يَقولُ له شَيئاً، قال: فَخرَجَ حتى أتى مَنزِلَ الرَجلِ فصَرَخَ به، فقال: قولوا له: هذا عليُّ بن الحُسَين، قال: فَخَرجَ إلينا مُتوثباً للشَرِ، وهو لا يشكُ أنه إنّما جاءَه مُكافئاً له على بعضِ ما كان منه، فقال له عليُّ بن الحُسَين: يا أخي إنّكَ كُنتَ قد وَقَفتَ عليَّ آنفا، فقُلتَ وقُلت، فإنْ كُنتَ ماقُلتَ فيَّّ، فأستَغفرُ اللهَ منه، وإنْ كُنتَ قُلتَ ما ليس فيَّ، فغفرَ اللهُ لكَ، قال: فَقبَّلَ الرَجلُ ما بين عينيه، وقال: (بل قُلتُ فيكَ ما ليس فيكَ، وأنا أحَقُّ به).
ولم يقتصر حَرَاكُ الإمَامِ زَينِ العَابدين عَليه السَلامُ, في مُعالجاتِه للواقعِ الاجتماعي على سياقِ الدَفْعِ والإبدَالِ الأخلاقي، بل كان يَتَرقى إلى الأفقِ الأعلَى في المُسارَعةِ سَّبقَاً إلى الفضيلةِ وإلى بَذلِ الخُلِقِ فِعْلاً وسُلُوكَاً مع الفقراءِ واليتَامَى والمَساكين، وذوي الأمرَاضِ المُزمِنةِ حِرصَاً منه على بَثِّ روحِ الألفَةِ والشَفقةِ والرَحمَةِ والتكافلِ بين طبقاتِ الناسِ ورعايةً لحَالِهم وحِفظاً لكراماتهم وإشعَاراً لهم بوجودِ مَنْ يَحْفِظُ لَهم حُقوقَهم.
(
عَن أبي جعفر، الإمَامِ، مُحَمّد الباقِر, عليه السَلامُ أنّه كان يَعولُ مِئَةَ بيتٍ، مِن فقراءِ المَدينةِ, وكان يَعجبه أنْ يَحْضَرَ طعامَه اليتامَى والاضرّاءُ والمَساكينُ، الذين لا حِيلَةَ لهم، وكان يُناولهم بيده، ومَنْ كان منهم، له عِيالٌ حَمّلَه إلى عيَالِه مِنْ طعامِه، وكان لا يَأكلُ طعامَاً حتى يَبدأَ، فَيتَصَدّقُ به).
ثمَّ أنَّ الإمَامَ عليه السَلامُ كان يُركِّزُ في مِنهَاجِه في الدَفْعِ والإبدالِ الأخلاقي، على البُعدِ المَدني ومُقتضياتِه الإنسانيةِ حياتياً في مُنتَظمِ التعايش الاجتماعي، بحيث تَحَرّكَ حَرَاكَاً حَسَنَاً ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) ولطيفاً بين الناسِ, قَريبُهم وبَعيدُهم، والصَديقُ والعَدو حتى تَوسّعَ في ذلك الحَرَاكِ إلى مَنتَظمِ العَقيدةِ وتصحيحها بالوجهةِ الحقّةِ والمُستقيمةِ، بِمَا يَكفلُ أسسَ التعايشِ الاجتماعي والديني والأخلاقي القويم والصَالِحِ.
فَقَدْ رَأى الإمَامُ زينُ العَابدين عَليه السَلامُ, أنّ مِنْ ضرورَاتِ التعايشِ الاجتماعي والمَدني هو إعمَالُ سيَاقِ الدفعِ الأخلاقي بالإبدَالِ، سُلُوكَاً ودَعوةً وعِلاجَاً لأنَّ ذلك يَقتضي الإصلاحَ والصَلاحَ واقعاً، في هذه الحياةِ الدُنيا، القائمةِ على الحَاجةِ الفطريةِ للناسِ، بعضهم لبعضٍ صالحهم وطالحهم والمُحسِن والمُسيء فمن الضروري أنْ يكونَ التعايشُ الإنساني تعايشاً أليفاً وبعيداً عن التنازعِ والخصومةِ، والتي تفضي إلى فَكِّ وتَفكيكِ المُجتمعِ بوحداتِه وأفرادِه، وإلاّ إذا لم يَكُن ثَمَة عِلاجٍ كالدَفْعِ والإبدالِ الأخلاقي، فلم يَكُن بمقدورِ أحَدٍ أنْ يَعيشَ مع غيره، أو قد يَقَعَ في الحَرجِ الشَديدِ بمُجردِ ردّةِ الفِعلِ المُمَاثِلةِ في حَالِ التنازعِ والمُخالفةِ.
وإنَّ إعمالِ سياقِ الدَفْعِ والإبدَالِ الأخلاقي في المُجتمعِ، لا يعني هَدرَ كرامةِ مَنْ يَتَبنّى ذلك، ولا ضَعفَ حَالِه، بل على العَكسِ، إنّمَا يكونُ ذلك صدوراً مِنْ جهةِ القوةِ والاقتدارِ، بوجهةِ العفو والصفحِ والتجاوزِ، والإحسَانِ، والإرشادِ، وإلقاءِ الحُجّةِ الأخلاقيّةِ سُلُوكَاً وأخذَا، وقد تَجَلّى ذلك التَحَفّظُ القيمي الأصيلُ والمَكنونُ في روحِ سياقِ الأخلاقِ دَفعَاً وإبدالاً ومُعَارَضةً وبَذلاً في قَولِ الإمامِ عليه السلامُ قُبيلَ تأسيسه لمَقولَةِ الدَفْعِ والإبدالِ بلونها الاجتماعي والمَدني إنسانياً: (اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ لي يَدا عَلى مَنْ ظَلَمني، وَلِسانا عَلى مَنْ خاصَمَني، وَظَفَرا بِمَنْ عانَدَني، وَهَبْ لي مَكْرا عَلى مَنْ كايَدَني، وَقُدْرَةً عَلى مَنِ اضْطَهَدَني، وَتَكْذِيبا لِمَنْ قَصَبَني، وَسَلامَةً مِمَّنْ تَوَعَّدَني، وَوَفِّقْني لِطاعَةِ مَنْ سَدَّدَني، وَمُتابَعَةِ مَنْ أرْشَدَني).
ثمَّ بيّنَ عليه السَلامُ، نظامَ الدَفْعِ والإبدَالِ والمُعارَضَةِ في سياقِ الأخلاقِ، فَضيلةً وقيمةً وثَمَراتٍ، وذلك لتحقيقِ الغَرضِ الاجتماعي والديني، بإبقَاءٍ لنوعِ الاجتماعِ الإنساني، تحتَ مَظلّةِ الوحدَةِ والجَمَاعَةِ الحَقّةِ، عَقيدةً وشَريعةً ومِنهاجَا، والسلامِ والبرِ والتقوى والتَعَارفِ والتعاونِ والمَحبّةِ.
فضلاً عن إبقائه بعقيدةٍ سديدةٍ وسليمةٍ في أصولها وبعيدةٍ عن أهواءِ أهل البُدعِ والقياسِ والاستحسانِ، مِنْ الذين يعتمدون العَقلَ لوحده دون الأخذِ بحُكمِ الدينِ تطبيقاً.
هذا ما أرداه، عليه السَلامُ، في مُعالجاتِه الأخلاقيّةِ للظواهرِ المُتذبذبةِ في المُجتمعِ والتي تتَطلبُ المُباشَرةَ والسَعيَّ إليها, بنظامٍ وحِكْمَةٍ عَمَليةٍ فَاعِلَةٍ ومُثمِرَةٍ: (اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَسَدِّدْني لأنْ أعارِضْ مَنْ غَشَّني بِالنُّصْح، وَأجْزيَ مَنْ هَجَرَني بِالبِرِّ، وَأثِيبَ مَنْ حَرَمَني بِالبَذْل، وَأكافئ مَنْ قَطَعَني بِالصِّلَةِ وَأخالِفَ مَنِ اغْتابَني إلى حُسْن الذِّكْرِ، وَأنْ أشْكُرَ الحَسَنَةَ، وَأغْضِيَ عَن السَيَّئةِ، اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَلِّني بِحِلْيَةِ الصّالِحينَ، وَالْبِسْني زينَةَ المُتَّقينَ، في بَسْطِ العَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإطْفَاءِ النّائِرَةِ، وَضَمّ أهْلِ الفُرْقَةِ، وَإصْلاحِ ذاتِ البَين، وَإفْشاءِ العارِفَةِ، وَسَتْرِ العائِبَةِ وَلينِ العَريكَةِ، وَخَفْضِ الجَناح، وَحُسْنِ السِّيرَة، وَسُكُونِ الرّيح، وَطيبِ المُخالَفَةِ، وَالسَّبْقِ إلى الفضِيلَةِ، وَإيثارِ التّفضُّل، وَتَرْكِ التّعيير، والإفضالِ عَلى غَيْرِ الْمُسْتَحِقّ، وَالقَوْلِ بِالحَقِّ وَإنْ عَزَّ وَاسْتِقْلالِ الْخَيْرِ وَإنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلي وَفِعْلي، وَاسْتِكْثارِ الشَّرِّ وَإنْ قَلَّ مِنْ قَوْلي وَفِعْلي وَأكمِلْ ذَلِكَ لي بِدَوامِ الطَّاعةِ، وَلُزُومِ الجَماعةِ، وَرَفْضِ أهْلِ البِدَعِ، وَمُسْتَعْمِلِ الرَّأيِ المُخْتَرَعِ).
المَصَادِرُ:
1.
الصَحيفَةُ السَجّادِيّةُ.
2.
بحارُ الأنوار،المَجلسي،ج46,ص95,ط2,بيروت.
3.
الإرشادُ، المُفيدُ، ج2, ص146،ط2، بيروت.
4.
مَناقبُ آلِ أبي طالبٍ, ابن شهر آشوب،ج3،ص293, المَطبعةُ الحيدريةُ في النَجَفِ.

نشرت في الولاية العدد 106