akdak

المقالات

قسم الاخلاق

التعاليم الأخلاقية في السياسة

240

طالب شبر

إن أحد الأمور المهمة التي ينبغي ملاحظتها في كتاب نهج البلاغة الشريف، المفاهيم الأخلاقية التي ضمّنها أمير المؤمنين عليه السلام في العديد من كتبه ورسائله التي تخص شؤون السياسة ولوازمها، سواء إلى عماله تلك التي أرسلها، أم إلى أعدائه، بحيث نجد أن المفاهيم الأخلاقية تمثل جوهر تلك الرسائل والكتب..

إن دراسة هذا الجانب المهم في رسائل وكتب الإمام عليه السلام يوقفنا على حقيقة مهمة في الدين الإسلامي، وهذه الحقيقة تتمثل بقيام الشريعة الإسلامية على أساس واحد تتفرع منه جميع المتطلبات التي يحتاجها الإنسان خلال مسيرة حياته، بحدودها وتفاصيلها الدقيقة.
وهذا الامر قد يكون مغفولا عنه بالنسبة للكثير من الناس، لانهم لا يجدون تلازما بين المفاهيم الاخلاقية السلوكية التي تخص الفرد، وبين الاساليب الواجب اتباعها في التعاملات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، بعدّها امورا اجتماعية عامة لادخل للسلوك الفردي فيها.

مثال
وكمثال على الحقيقة التي ذكرناها، لنقرأ عينة من رسالة أمير المؤمنين لعامله مالك الاشتر حين ولاه مصر، إذ قال عليه السلام: (لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ وَاللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ. أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ، وَتَغَابَ – أي تغافل- عَنْ كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ، وَلَاتَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ، وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَلَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ، إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ..)( نهج البلاغة 3: 86).

الساسة والحكام
إن كثيراً من الحكّام في بلدان العالم ــ وبخاصة في زماننا هذا ــ يرون أن من الضروري استخدام وسائل وأساليب تقع على العكس تماما من المفاهيم الأخلاقية التي أمر بها امير المؤمنين عليه السلام في رسالته هذه، وقد يعدّون أن استعمال مثل هذه القيم في مثل هذا المضمار ما هو إلا ضرب من الخيال.
فكثير من الساسة يرون مثلا ان الاكثر وشاية بالناس لفضح معايبهم هو الذي يصلح أن يتخذ خليلا من قبل الحاكم، وان من الحنكة تصديق السعاة والنمامين لتلافي فساد أمر الأمة، ومن الحكمة تقريب وزراء الحكام السابقين – وان كانوا ظالمين- بكونهم اكثر ممارسة لمتطلبات الحكم وادارة المجتمع.
في حين ان الإمام عليه السلام يضع ما قدمته الشريعة السماوية من تعاليم أخلاقية على طاولة السلوك الفردي والاجتماعي على حد سواء، بحيث يكون تطبيق المنهج المخصص للفرد هو عين الصواب الذي يصلح في التعامل مع شؤون الامة، بل ان تطبيق المفاهيم الاخلاقية أوكد على الحاكم بعدّ موقعه الحساس، قال عليه السلام: (لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا).
وانظر الى قوله عليه السلام: (فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ) كيف يشير بوضوح الى رجوع تعاليم الاسلام كافة الى اصل عقيدة الايمان بالله سبحانه وتوحيده، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فانه قد ضمّن النهي عن مساوئ الاخلاق في اطار سياسة العباد والبلاد.
ان وضع الصفات الإنسانية بعامة على المحور الاسلامي الاوحد ــ وهو الله سبحانه وتعالى ــ يجعل من كل التعاملات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تدور دائما حول هذا المحور المقدس، ما يجعلها تنتظم في اطار الحق والعدل والمساواة وحفظ الحقوق، وتجنب الظلم والبغي والعدوان.

حسن الظن بين الوالي والرعية
ومن اهم الاركان التي يقوم عليها نظام الحكم الاسلامي من وجهة النظر الاخلاقية التي ذكرناها، هو حسن الظن المتبادل بين الوالي ورعيته، لان إساءة الظن إذا وقعت بينهما، جرّ ذلك إلى مفاسد تتفاقم مع مرور الوقت، ولا تتوقف حتى تنتهي باقتلاع النظام او اضعافه.
لذا كان من أهم واجبات الحاكم الاسلامي هو الحفاظ على هذه الخصلة ــ حسن الظن المتبادل ــ حيّة بينه وبين الرعية.
وقد اكد الامام امير المؤمنين(عليه السلام) في مواضع عدة من النهج على هذه الحقيقة، منها قوله لمالك الاشتر: (وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَتَخْفِيفِهِ الْمؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ)( نهج البلاغة 3: 88).
وقال عليه السلام: (وَلَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ بِكَ)( نهج البلاغة 3: 92) وقال عليه السلام: (وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ)( نهج البلاغة 3: 105).

نشرت في الولاية العدد 94