akdak

المقالات

قسم التأريخ

غزوة الخندق (الأحزاب)

75

الاستاذ راشد سليم محمد

المقدمة

لمّا نقضت بنو قريظة صلحها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانضمَّت إلى صفوف المشركين، تغيَّر ميزان القوى لصالح أعداء الإسلام.
فتحزّبت قريش والقبائل الأُخرى، ومعهم اليهود على رسول الله (صلى الله عليه وآلهوعلى المسلمين، وكان يقود الأحزاب أبو سفيان، فقاموا بتطويق المدينة بعشرة آلاف مقاتل، ممَّا أدَّى إلى انتشار الرُعب بين صفوف المسلمين، وتزَلْزَلَت نفوسهم، وظَنّوا بالله الظنونا، كما قال الله تعالى: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب: 10].

حفر الخندق

استشار رسول الله (صلى الله عليه وآلهأصحابه في معالجة الهجوم المتوقّع من قبل العدو على المدينة المنوّرة، فأجمع رأيهم على البقاء في المدينة ومحاربة القوم إن جاءوا إليهم، كما توصّلوا إلى حفر خندق يحصّن المسلمين من أعدائهم.
فبدؤوا بحفر الخندق حول المدينة بإتجاه العدو، وخرج النبي (صلى الله عليه وآلهمع المسلمين ليشاركهم في حفر هذا الخندق، وتقسيم العمل بينهم، وكان يحثّهم ويقول: لا عيش إلاّ عيشُ الآخرة، اللهم اغفر للأنصار والمهاجرة.
ولم يدع المنافقون والمتقاعسون تثبيط العمل رغم الهمّة والحماس الذي أبداه المسلمون.

مبارزة الإمام علي (عليه السلاملعمرو بن عبد ود

لقد استطاعت مجموعة من العدو عبور الخندق، وكان من بينهم عمرو بن عبد ودٍّ، فراح يصول ويجول، ويتوعَّد ويتفاخر ببطولته، وينادي: هل من مبارز؟ فلم يجبه أحد حتّى قال:
ولَقَدْ بُحِحْتُ من النداء * بجمعكم هَلْ مِنْ مُبارزْ
وَوَقفْتُ إذ جَبنَ المُشَجَّعُ * مَـوقفَ البَطَل المناجِزْ
إنّـي كـذلك لـم أزلْ * متسرّعاً نحو الهزاهز
إنّ السماحة والشجاعة * في الفتى خيْرُ الغرائز
فقام الإمام علي (عليه السلاموقال: أنَا لَهُ يا رَسولَ الله، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): اجلس، إنّه عمرو فقال الإمام علي (عليه السلام): وإن كان عمرواً.
فعند ذلك أذن (صلى الله عليه وآله) له، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وألبسه دِرعه، وعمَّمه بعمامَتِه.
ثمّ قال (صلى الله عليه وآله): إلهي أخذت عبيدة منّي يوم بدر، وحمزة يوم أُحد، وهذا أخي، وابن عمّي، فلا تَذَرني فرداً، وأنت خيرُ الوارثين.
وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: برز الإيمانُ كلّه إلى الشركِ كلّه.
ومضى الإمام علي (عليه السلامإلى الميدان، وكلّه ثقة بالله ونصره له، وهو يقول:
لا تـعجلنَّ فـقد أتاك * مجيبُ صوتكَ غير عاجزْ
ذُونــيـة وَبـصـيرة * والصدقُ مُنجي كلّ فائز
إنّـي لأرجـو أن أُقـيمَ * عـليكَ نـائحة الـجنائزْ
مِـنْ ضَرْبَة نَجلاء يَبقى * ذكـرُها عِـندَ الـهَزاهِزْ
ثمّ خاطب ابن عبد ودٍّ بقوله: يا عمرو!، إنّك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلاّ قبلتها.
قال عمرو: أجل.
فقال الإمام علي (عليه السلام): فإنّي أدعوك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وتسلم لربّ العالمين.
فقال: يا ابن أخي أخّر عنّي هذه.
فقال له: أما أنّها خير لك لو أخذتها.
ثمّ قال (عليه السلام): وأُخرى ترجع إلى بلادك، فإن يك محمّد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذباً كان الذي تريد.
قال: هذا ما لا تتحدّث به نساء قريش أبداً.
ثمّ قال (عليه السلام): فالثالثة، أدعوكَ إلى البراز.
فقال عمرو: إنّ هذه الخصلة ما كنت أظنّ أن أحداً من العرب يرومني عليها، ولم يا ابن أخي؟ إنّي لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك لي نديماً.
فردَّ الإمام علي (عليه السلامعليه قائلاً: لكنِّي والله أحِبّ أن أقتلَكَ، فغضب عمرو، فقال (عليه السلام) له: كيف أقاتلك وأنت فارس، ولكن انزل معي، فاقتحم عن فرسه فعقره، وسلّ سيفه كأنّه شعلة نار، وأقبل على الإمام علي (عليه السلام)، فصدَّه برباطة جأش، وأرداه قتيلاً، فعلا التكبير والتهليل في صفوف المسلمين.
ولمّا قتل الإمام علي (عليه السلامعمرواً أقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه وآلهووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطّاب: هلاّ سلبته يا علي درعه؟، فإنّه ليس في العرب درع مثلها!.
فقال (عليه السلام): إنّي استحييت أن أكشف سوءة ابن عمّي.
وقال (عليه السلام) أبياتاً في قتل عمرو، منها:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونـصرت دين محمّد بضرابِ
فـصددتُ حـين تركتُه متجدّلاً * كـالجذع بـين دكادة وروابي
وعـففتُ عـن أثوابه وَلَوأنَّني * كـنتُ الـمقطَّر بَـزّني أثوابي
لا تـحسبنّ الله خـاذل ديـنه * ونـبيّه يـا معشر الأحزابِ
ولمَّا عاد الإمام (عليه السلام) ظافراً، استقبله رسول الله (صلى الله عليه وآلهوهو يقول: لَمُبَارَزَة عَلي بن أبي طالب لِعَمرو بن عبد ودٍّ أفضلُ من عَمل أُمَّتي إلى يوم القيامة.
وفي رواية: ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين.
فلولا الموقف البطولي للإمام (عليه السلام)، لاقتحم جيش المشركين المدينة على المسلمين بذلك العدد الهائل، وهكذا كانت بطولة الإمام علي (عليه السلامفي غزوة الخندق، فكانت أهمّ عناصر النصر لمعسكر الإيمان على معسكر الكفر والضلال.
وقال أبو الحسن المدائني: لمّا قتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ود نعي إلى أخته ـ واسمها عمرة وكنيتها أُمّ كلثوم ـ فقالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟.
فقالوا: ابن أبي طالب، فقالت: لم يعد موته إن كان على يد كفء كريم، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيته على يد كفء كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثمّ أنشأت تقول:
لـو كانَ قاتِلُ عمرو غير قاتِلِه * لـكنتُ أبـكي عليه آخرَ الأَبدِ
لـكنَّ قاتلَ عمرو لا يُعابُ بِه * مَن كانَ يُدعى قديماً بيضة البلد
مـن هاشم ذراها وهي صاعدة * إلى السماء تميت الناس بالحسد
قـوم أبى الله إلاّ أن يكون لهم * كـرامة الـدين والدنيا بلا لدد
يـا أُمّ كـلثوم ابكيه ولا تدعي * بـكاء مـعولة حرى على ولد

وقت الانتصار

أقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة، لم يكن بينهم وبين المسلمين حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصى، ولكن بعد عبور أحد أبطال الشرك والكفر، وهو عمرو بن عبد ودٍّ العامري الخندق، ومبارزة الإمام علي (عليه السلامله وقتله، تحقّق النصر للإسلام والمسلمين في الثالث من شوال 5 هـ.