akdak

المقالات

القسم الولائي

مواقف حسينية رائعة

159

الدكتور مصطفى جواد

تقاس عظمة كل أُمّة عظيمة بمقدار ما لها من شهداء، فإنّ دماءَهم تكون عظمتها السابقة، وحريتها الأنوف، وعزمها المخوف، بمنزلة البلاط الذي يثبت طبقات الصروح المشيدة، فلابد في بناء الأمم من دماء لابد للحياة الحرة من شهداء ومالم يضح الشهداء سيبقى الجور مقدساً مبجلاً محفوفاً بالتجلة والتنظيم مادام (الظلم) و(الطغيان) و(الجبروت) و(التعصب الجافي) و(الاستعمار) أشباحاً ماثلة تروع الودعاء وتخيف الآمنين وتقلق المسالمين وتحفظ المصافين وترسل الشياطين.

أترى من العجز أن السماء لم تجد شيئاً للفداء أولى وأطهر من الدماء؟ لا أظن ذلك صحيحاً وإنما الدم علامة الشهادة، والشهادة شاهدة بثبوت الحق مسجلة بحقيقة العزة ناطقة بوجوب العدل، فوجود الطغاة مستلزم لوجود الشهداء في كل أُمّة حمية الأنف شماء العرنين عزيزة النفس علية الخلق رصينة الشمائل، وإذا عددنا الأمم العظيمة وهي التي تفتخر لشهدائها وجدنا الأمّة العربية في طليعتها وطالعتها، وكيف لا تكون كذلك ولها شهيد مثل سيد الشهداء على رغم الخونة والأدعياء وعلى رغم الهاطرين الذين ادعوا وهم لما ينسلخوا من هاطريتهم.

أجل إن سيد شهداء الأمة العربية هو أبو الاحرار المختار للسلّة على الذلّة والجهاد على الإلحاد والإباء على الاستخذاء ومجد الإسلام والحرية مضحياً بالنفس والذرية إنّه أبو عبد الله الحسين ابن البشير ابن النذير ذلك الشهيد الهمام الذي يحق لكل إنسان حسيني كائناً مذهبه ماكان أن ينشد عند ذكره المقدس متمثلاً:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

                اذا جمعتنا يا جرير المجامع

 

لقد ترك عليه السلام في سجل شهداء الأمة العربية مثلاً أعلى وقدوة وحيدة بجلالتها وأسوة بعيدة المنال قل المؤنسون بها فلا ترى محضر شهادتهم إلاّ في (مقاتل الطالبيين) و(الشهداء الصديقين) و(مشاهد الأحرار).

إنّ الحسين بن علي المثل الأعلى بين الشهداء المحررين، فمواقفه الحسينية رائعة بالمعنيين اللذين يعنيهما الروع فهي للأحرار والأبرار مجال وجلال وجهاد وفتوة وللسفلة والدجالين أهوال ومذلة، فهو عليه السلام كما كان فيصلاً بين الحق والباطل وحجة للمناضل على المتغافل سيبقى فطنة للخلاف بين العظماء والأبطال والأنذال الجهال أولئك الذين يعيشون كما تعيش حشرات الأرض لا يحس الإنسان بها عند لدغها إياه أو عندما تسحقها قدماه وكفاه ذلة أن لا تنال غير الأقدام ولا تقتل بغير الأقدام.

قال قائل الحق في يوم الطف: يوم عاشوراء مثيل هذا اليوم الذي تنشر فيه هذه الذكرى الدامية وتبجل عزته النامية (ما رأينا رجلاً مكسوراً قد قتل أخوته وأنصاره وأهله أشجع منه، كان كالليث المحرب يحطم الفرسان حطماً، وما ظنك برجل أبت نفسه الدنية وأن يعطي بيده فقاتل حتى قتل هو وبنوه وأخوته وبنو عمه بعد بذل الامان لهم والتوثقة بالأيمان المغلظة وهو الذي سن للعرب الإباء واقتدى بعده به أبناء الزبير وبنو المهلب وغيرهم).

وحق لبني هاشم أن يقولوا:

(ومنا الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة وأولى الناس مكرمة وأطهرهم مع النجدة والبصيرة والفقه والصبر والحلم والأنفة).

وكان الحسين في الإسلام أول من دعا إلى حلف الفضول، ذلك الحلف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن شهده وارتضاه:

(لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت له اليوم لاجبت لا يزيده الإسلام الا شدة).

تعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلاّ قاموا معه وكانوا ممن ظلمه حتى ترد عليه مظلمته أو يبلو في ذلك عذراً وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى التآسي في المعاش ذلك المبدأ الذي هو الغاية والنهاية من النظم الاجتماعية البشرية ذلك المبدأ الذي يبدو مثل (انتين) للمستأثرين الظالمين.

إنّ الحسين بن علي هو الذي قال للوليد بن عتبة بن أبي سفيان، والوليد يومئذ أمير على المدينة:

(احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول).

فقال عبد الله بن الزبير (وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن بسيفي ثم لاقومن حتى ينصف من حقه أو نموت جميعاً) وبلغت مقالتهما المسور بن حزمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التميمي فقال مثل ذلك، فاضطر الوليد بن عتبة الغشوم الظلوم إلى إنصاف الحسين من حقه حتى رضي.

هذا هو موقف العربي الذي جمع بين شرف السماء وشرف الأرض الذي كان يعلم إن السيف هو الحامي الأكبر للحق وإنّ الموت في طلب الحق وإحياء العدل عذب المورد رائق سائغ لكل مر فلا يهدد الحر بالموت إلا اللكع الجبان الفعل النذل لأنّ عاقبته محتومة لكل ذي روح، فلماذا لا يكون ثمناً لإحياء الحق والدين، ورد الحرية إلى مسلوبيها والعزة إلى مبزوزيها؟ إنها من ذلك عند الأحرار.

وأيّ موقف عظيم من المواقف الحسينية ذلك الذي نزل فيه الحسين بن علي عليه السلام بزي جثث من غربي العراق؟ فقد أدركه أعداؤه وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي اليربوعي، ووقفوا مقابلة في حر الظهيرة تكاد تتقد من حرارة الشمس وتحرق من يمشي فيها من دابة وإنسان وقفوا مقابله وهم وخيلهم عطاش تكاد تتخشب أمعائهم وتجبس ألسنتهم وتتحجر لهواتهم أنها فرصة سنحت للحسين لو كان الحسين ينتهز من الفرائس الفرص فلو تركهم عطاشى لعجزوا عن القتال ولو أراق الماء الذي عنده لكان له قوة الروي على الصدى ولكن الفتوة الهاشمية الحسينية لم تكن تأنف مثل تلك الدنية التي يسميها وحوش البشر وأبناء الجناة (القدرة على العدو) ولم يكن من الحسين إلاّ ما قال لفتيانه:

(اسقوا القوم وردوهم ورشفوا الخيل ترشيفاً).

فسقوا القوم ورشفوا الخيل كلها لم يتركوا منها فرساً عطشان، قال علي بن الطعان المحاربي كنت مع الحر بن يزيد فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال (انخ الراوية)، والراوية عندي السقاء، ثم قال (يا ابن اخي انخ الجمل) فانخته فقال (اشرب) فجعلت افعل فقام الحسين فحثه فشربت وسقيت فرسي.

هذا هو المثل العالي بل الأعلى لمن رام المثل العوالي في تاريخ العرب وهذا هو الخلق العربي الذي هذبه الإسلام وصفاه السمو الذاتي، أفليس في هذا الكريم حجة قائمة تجيس الليالي وأبد الأبيد على خبث تلك النفوس التي خبثت ذكر العرب في منعها الحسين بن علي من ورود ماء الفرات وإعطاشها النساء والأطفال والفتيات؟ لو بقي لأولئك الجناة الجفاة الطغاة البغاة من عمر بن سعد وجيشه الطغام من الخلق العربي خلق الوفاء لتركوه هو ومن معه من المقاتلة يموتون رواء لا عطاش ولكن القدر قد مكن الحجة وسجل للحسين عليهم بالعظمة والجلالة والرحمة والنبالة وأقام البرهان الأبدي على صلتهم وانعزالتهم وقسوتهم وحطتهم وإنّ الإسلام ما لابس قلوبهم ولا نفى عيوبهم وإنّ صلاة النبوة المحمدية عندهم لا تغني عن درهم ودينار يكاد يلتمع منها سعير النار.

كان الحسين بن علي يعلم إنّ مجدد الإسلام ومؤدب سفهاء الأحلام وابن وحي الرسول وسبطه من البتول ولم يكن متآمراً جبارياً ولا خارجياً كفاراً فإنّ الأمر إذن سماوي نبوي محمدي علوي فلا لمقاييس السياسة فيه ولا لتنطعات أرباب الكياسة إنّه عقيدة وإيمان مستمد من النبوة وما ينبغي لأمر أوله وحي من السماء أن يكون من سذاجات الأمور ومضاد الشؤون وعامي المآرب أجل إن الحسين بن علي كان يرى نفسه مكلفاً تكليفاً نبوياً أنْ يجدد الإسلام ويرفع من الأعلام أفلا ترى ذلك قوله لعبيد الله بن الحر - وهو ممن شهد القادسية- حين دعاه إلى نصرته وهو نازل في قصر بني مقاتل بين الكوفة وكربلاء.

(إني سأنصح لك كما نصحت لي أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا فوالله لا يسمع واعيتنا أحد لا ينصرنا إلاّ أكبهُ الله في نار جهنم).

أولا تحس في هذا القول نفس النبوة؟ وروح الإسلام واختصاص السماء؟ إنّه يعلم منطق النبوة إنّ السامع لواعية ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعويلهم عند قتلهم، غير ناصر لهم إنما هو خارج عن الإسلام مستحق لأشد العذاب، قال عبيد الله بن الحر (دخل عليَّ الحسين عليه السلام ولحيته كأنها جناح غراب وما رأيت أحداً قط أحسن ولا أملأ للعين منه ولا رققت على أحد قط رقتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حوله) ولما بلغه قتل الحسين قال يرثيه وهو أول الراثين له.

تقول أمير جائر حق جائر

                ألا؟ قاتلت الشهيد ابن فاطمة؟

 

ولا نفسي على خذله واعتزاله

                وبيعة هذا الناكث العهد لائمه

 

فوا ندمي ألاّ أكون نصرته

                ألا كل نفس لا تسدد نادمه

 

وإني لأني لم أكن من حماته

                لذو حسرة ما أن تفارق لازمه

 

سقى الله أرواح الذين تأزروا

                على نصره سقياً من الغيث دائمه

 

وقفت على أجداثهم ومجالهم

                فكاد أخشى ينقض والعين حاجمه

 

في أبيات أُخَر جياد بعثها الحزن الأصيل والطبع العربي النبيل وهكذا تكون الشخصيات العظيمة كالمرايا تتراءى فيها الشخصيات الأُخَر فيظهر جمال الجميلة منها على الضد ([1]).


[1])) مجلة النجف -النجف- العدد -36- السنة الرابعة- 1962/ص2.