akdak

المقالات

قسم التأريخ

حوادث السنة الأولى من الهجرة

217

الشيخ جعفر السبحاني

أوّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم :

حملت وجوه فتية الأنصار المستبشرة ، المبتهجة ، بمقدّم رسول الله صلّى الله عليه وآله والاستقبال العظيم الذي قام به أغلبيّة الأوسيّين والخزرجيين له حملته صلّى الله عليه وآله ، على أن يعمد قبل أيّ شيء إلى تأسيس مركز عام لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة ، وللقيام بالأعمال التربويّة والتثقيفيّة ، والسياسيّة والعسكريّة في رحابه.

كما أنّ عبادة الله الواحد تقع في طليعة البرامج التي جاء بها رسول الاسلام ولذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أيّ عمل آخر الى بناء معبد للمسلمين حتّى يتسنى لهم أن يعبدوا الله ويذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إلى مثل هذا المركز شديدة فلا بد من مكان ليجتمع اعضاء حزب الاسلام « حزب الله » كلّ اسبوع في يوم معين فيه ، ويتشاوروا في شئون الاسلام والمسلمين ومصالحهم ، وليجتمع فيه عامة المسلمين مضافاً إلى هذا اللقاء الاسبوعيّ مرّتين كلّ عام لأداء صلاة العيد ، فكان المسجد الذي بناه كأوّل عمل قام به بعد قدومه المدينة.

فلم يكن المسجد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كلّ أنواع العلوم والمعارف الاسلاميّة الشاملة للأمور التربويّة وغيرها.

لقد كان يعلّم فيه كل التعاليم والمواد الدينيّة والعلميّة ، حتّى الأمور المرتبطة بالقراءة والكتابة.

وقد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتّى مطلع القرن الرابع الهجريّ الاسلاميّ ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحوّل الى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة (2).

وربّما اتّخذ مسجد المدينة صورة المركز الأدبيّ ، عندما كان يلقي فيه كبار فصحاء العرب وبلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الأخلاقيّة والمعايير الاسلامية بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله كما فعل « كعب بن زهير » إذ ألقى قصيدته المعروفة « بانت سعاد » عند النبيّ صلّى الله عليه وآله في المسجد ، وأعطاه النبيّ الكريم صلّى الله عليه وآله صلة جيّدة ، وخلع عليه بخلعة عظيمة (3).

أو كما كان يفعل « حسان بن ثابت » الذي كان يدافع بشعره عن حوزة الاسلام والمسلمين اذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ولقد كانت مجالس الدرس والتعليم في مسجد المدينة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله تتسم بروعة كبيرة بحيث عند ما شاهد وفد ثقيف مشهداً من مشاهدها انبهروا به ، وعجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلم الأحكام واكتساب المعارف والعلوم (4).

كما انه كانت تمارس الاُمور القضائيّة والفصل بين الخصومات ، واصدار الحكم على المجرمين في المسجد ، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة « بكلّ معنى الكلمة » أيّ أنّها تقوم بكلّ ما تقوم بها المحاكم اليوم.

هذا مضافاً إلى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يلقي خطبه الحماسيّة والجهاديّة لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفّار والمشركين في المسجد.

ولعلّ من حكمة الاجتماع في المسجد لأجل تحصيل المعارف وتعلّم العلوم هو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله أراد بذلك أن يثبت عمليّاً أن العلم والدين توأمان لا ينفكان فكلّما كان هناك مركز للايمان وجب ان يكون محلا للعلم أيضا.

وأمّا ممارسة القضاء والقيام بالخدمات الاجتماعيّة ، واتّخاذ القرارات العسكريّة في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأن دينه ليس مجرّد أمر معنوي لا يتّصل بالأمور الدنيويّة ولا تهمه قضايا الحياة وشئون المعيشة المادية ، بل هو دين شامل كامل لا يحض الناس على التقوى ، ولا يدعوهم إلى الايمان إلّا ويهتم أيضاً بشئونهم المعيشيّة وإصلاح أوضاعهم الاجتماعيّة. فليس هو بالتالي يهتمّ بجانب ويغفل جانباً ، بل هو دين شامل جامع يتكفّل الأمور المادية والمعنويّة معاً.

ولقد كان هذا التلاقي والانسجام « بين العلم والإيمان » محطّ اهتمام المسلمين ونصب أعينهم دائماً حتّى بعد ما اتّخذت المراكز التعليميّة والمؤسّسات العلميّة البحتة شكلاً مستقلاً وصار لها محل خاص تدرس فيه ، فانّهم ظلّوا يبنون الجامعات الى جانب الجوامع ويشيّدون المعاهد الى جانب المساجد ليثبتوا للعالم أنّ هذين الأمرين اللذين يكفلان إسعاد الحياة والانسان لا يمكن أن ينفصلا ، ويبتعد بعضها عن بعض.

مع عمّار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ :

لقد ابتاع رسول الله صلّى الله عليه وآله الأرض التي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة ، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. واشترك كافة المسلمين في تهيئة موادّه الانشائيّة وبناه ، وعمل رسول الله صلّى الله عليه وآله نفسه في تشييدها أيضاً. فكان صلّى الله عليه وآله ينقل معهم اللبن ، والحجارة ، وبينما هو صلّى الله عليه وآله ذات مرّة ينقل حجراً على بطنه استقبله « اسيد بن حضير » فقال : يا رسول الله أعطني أحمله عنك.

قال صلّى الله عليه وآله : لا ، اذهب فاحمل غيره (5).

وبهذا الاُسلوب العملي كشف رسول الاسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع ، إذ بيّن بعمله أنّه رجل عمل وليس رجل قول ، رجل فعل وليس رجل كلام ، وكان لهذا أثره الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول :

     
لئن قعدنا والنبيّ يعمل   فذاك منّا العمل المضلّل (6)

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يردّد وهو يبني ويعمل : لا عيش إلّا عيش الآخرة ، اللهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة.

وقد كان « عثمان بن عفان » ممّن يهتمّ بنظافة ثيابه ، ويحرص على أن يمنع عنها الغبار والتراب ، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب ، فأخذ عمّار ينشد أبياتاً تعلّمها من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، وفيها تعريض بمن لا يعمل ويحرص على ثيابه أن لا تتسخ بالغبار :

     
لا يستوي من يعمر المساجدا   يدأب فيها قائماً وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا (7)

وقد أغضب مفاد هذه الأبيات عثمان بن عفان ، فقال لعمار مهدّداً : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سميّة ، والله إنّي لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك أيّ أضربك بها ، وفي يده عصا !!

فلمّا عرف رسول الله صلّى الله عليه وآله بكلام عثمان غضب وقال :

« ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنّة ، ويدعونه إلى النار.

إنّ عمّاراً جلدة ما بين عينيّ وأنفي .. » (8).

وكان « عمّار » فتى الاسلام القوي ، يحمل قدراً كبيراً من اللبن والأحجار في بناء المسجد ولا يكتفي بحمل شيء قليل منها.

فكان البعض يستغلّ طيب قلبه واخلاصه فيثقله باللبن والأحجار.

ويروى أن أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله جعل يحمل كلّ واحد لبنة لبنة وعمّار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله محبّة منه لرسول الله صلّى الله عليه وآله (9).

وذات مرّة رآه رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد حمّلوه ثلاث لبن أو أحجار ثقيلة فشكا إليه عملهم وقال : يا رسول الله قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول الله صلّى الله عليه وآله وفرته (10) وكان رجلاً جعداً وهو يقول قولته التاريخيّة :

« ويح ابن سميّة ليسوا بالذين يقتلونك ، انما تقتلك الفئة الباغية » (11).

وقد كان هذا الخبر الغيبي من الدلائل القويّة على نبوّة الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وصدق دعواه ، وصحّة إخباراته ، فقد وقع ما أخبره كما أخبر ، فقد قتل « عمّار » وهو في التسعين من عمره في معركة صفين عند ما كان يقاتل جيش الشام بين يدي علي عليه السلام ، فقتله أنصار معاوية ، وقد أحدث هذا الخبر الغيبي أثراً عجيبا في حياة المسلمين فقد جعله المسلمون معياراً لمعرفة الحقّ ، أيّ كانوا يعرفون حقانيّة أيّ جهة من الجهات وأي طرف من الأطراف في الصراعات والنزاعات بانضمام عمّار إليه.

وعندما قتل عمّار في ساحة القتال بصفين ، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

فالذين كانوا في شك في حقانيّة « عليّ » عليه السلام وموقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادة التي كان يقوم بها معاوية ومساعده عمرو بن العاص ضدّ الامام قد انتبهوا على خطائهم وعرفوا بمقتل « عمّار » على أيدي أنصار معاوية بأنّ عليّاً على حقّ وأنّ معاوية وجماعته هي الفئة الباغية التي أخبر عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ومن هؤلاء « خزيمة بن ثابت » الأنصاريّ الذي خرج مع الإمام عليّ عليه السلام لقتال معاوية ، ولكنّه كان متردّداً في مقاتلته ، بيد أنّه جرد سيفه بعد مقتل « عمّار » على أيدي أهل الشام ، وحمل عليهم (12).

ومنهم « ذو الكلاع » الحميري الذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل وهم تمام رجال قبيلته ، مع معاوية لمحاربة الامام عليّ عليه السلام وكان معاوية يعتمد على نصرته اعتماداً كبيراً ، حتّى أنّه لم يقدم على اتّخاذ قرار الحرب إلّا بعد أن اطمأنّ إلى تأييده له ، ومشاركته في قتال علي عليه السلام.

فقد صدم القائد المخدوع بشدّة عند ما سمع بوجود « عمّار » في معسكر الامام « علي ».

فأراد رجال معاوية أن يموهوا الأمر ، ويشوشوه عليه فقالوا : ما لعمّار ولصفين ؟ فذلك ما يقوله أهل العراق وما يبالون من الكذب.

ولكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص : يا أبا عبد الله أما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « إن عمّاراً تقتله الفئة الباغية » ؟

فقال عمرو : أجل ، ولكن ليس عمّار في رجال علي.

فقال ذو الكلاع : فلا بدّ اذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ثمّ أمر رجالاً بأن يتحقّقوا من الأمر. وفي هذه اللحظة الحساسة أدرك معاوية وعمرو خطورة الموقف إذ لو تحقّق ذو الكلاع من وجود عمّار في معسكر « علي » أو عرف بمقتله بين يديه عليه السلام إذن لأحدث ذلك شرخا كبيراً وتمزّقاً فضيعاً في جيش الشام ، من هنا تمّت تصفية ذو الكلاع فوراً إذ قتل بصورة غامضة (13).

إن اشتهار هذا الحديث لدى محدّثي السنّة والشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره ، واسناده.

فقد روى الإمام أحمد بن حنبل أنّه لما قتل عمّار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قتل عمّار وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : تقتله الفئة الباغية فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع ـ أيّ يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ـ حتّى دخل على معاوية ، فقال معاوية : ما شأنك ؟ قال : قتل عمّار فقال معاوية : قد قتل عمّار فماذا ؟ قال عمرو : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : تقتله الفئة الباغية ، فقال له معاوية : أو نحن قتلناه انّما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتّى القوه بين رماحنا ـ وسيوفنا ـ (14).

ولكن لا يخفى أن هذا التأويل الباطل الذي لجأ إليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام ، ليس مقبولاً عند الله تعالى قطّ ، كما لا يقبل به أيّ عاقل لبيب.

فإنّ هذا هو الاجتهاد في مقابلة النصّ ، وهو ممّا لا قيمة له أبداً ، فان هذا النوع من الاجتهاد في مقابلة الآيات والروايات الصريحة هو الذي سبّب في أن يعمد فريق من المجرمين والجناة إلى تبرير جرائمهم وفضائعهم بحجّة « الاجتهاد » ، وتحت غطائه.

وإليك نموذجاً من هذا الأمر :

ضئر أرأف من والدة !!

لا يجد المرء عبارة أفضل من هذه تعرّف حقيقة مؤرّخ القرن الثامن الهجري ـ ابن كثير الشامي مؤلّف البداية والنهاية ـ.

فقد انبرى هذا الرجل الى الدفاع عن معاوية في كتابه إذ قال : لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم ، لأنّهم وان كانوا بغاة في نفس الأمر فانّهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كلّ مجتهد مصيباً ، بل المصيب له أجران ، والمخطئ له أجر واحد ـ ثمّ يقول ـ وأمّا قوله : يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار فان عمّارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة ، وأهل الشام يريدون ان يستأثروا بالأمر دون من هو أحقّ به ، وان يكون الناس أوزاعاً على كلّ قطر امام برأسه ، وهذا يؤدّي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمّة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم وان كانوا لا يقصدونه !! (15)

ونحن لم نجد اسماً يناسب هذا العمل إلّا التحريف للحقائق.

فان مؤيّدي الفئة الباغية مع كلّ ما اوتوا من قدرة على إخفاء الحقائق وطمسها لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة ، ولكن مؤرّخاً مثل ابن كثير عمد ـ رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة ـ الى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه !!

يقول أحمد بن حنبل : دخل رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول كلّ واحد منهما أنا قتلته ، فقال عبد الله بن عمرو : ليطيب به أحدكما نفساً لصاحبه فانّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : تقتله الفئة الباغية ، قال معاوية : فما بالك معنا ؟ قال : ان أبي شكاني إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال : اطع أباك ما دام حيّا ، ولا تعصه ، فأنا معكم ولست اقاتل (16).

إن اعتذار « عبد الله بن عمرو بن العاص » يشبه تأويل ابن كثير الشامي الذي يقول : إن معاوية قاتل « عليّاً » في صفين اجتهاداً وايماناً ، وإن أخطأ في اجتهاده ، وذلك لأن إطاعة الوالد واجبة ما لم تجر إلى مخالفة الشرع ، فهذا هو القرآن الكريم يقول :

( وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) (17).

كما انّ الاجتهاد إنّما يصحّ إذا لم يكن في المقام نصّ صريح ، ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ، ولهذا كان اجتهاد معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما باطلاً مرفوضاً ، لكونه في مقابلة النصّ النبويّ.

ولو أنّنا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أيّة ضوابط لكان جميع المشركين والمنافقين معذورين في معارضتهم ، ومحاربتهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله ، كما لا بدّ ـ حينئذ ـ أن نقول : إن يزيد والحجّاج وأشباههما كانوا معذورين في سيفكهم لدماء الأئمّة المعصومين ، والصالحين من المسلمين ، بل ومأجورين في عملهم هذا.

انتهى النبيّ صلّى الله عليه وآله والمسلمون من بناء المسجد ، وظل يوسّع فيه كلّ عام شيئاً فشيئاً.

وقد بني الى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون.

وكلّف « عبادة بن الصامت » بأن يعلّمهم الكتابة ، وقراءة القرآن.

التآخي ؛ أو أعظم معطيات الايمان :

لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلاً جديداً في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فقد كان صلّى الله عليه وآله قبل دخوله المدينة لا يهمّه إلّا جذب القلوب والدعوة إلى دينه ، ولكنّه اليوم عليه أن يعمل ـ كصاحب دولة محنّك ـ على حفظ كيانه وكيان جماعته ، ولا يسمح للأعداء الداخليين والخارجيين بالتسلّل والنفوذ في صفوفهم ، ولكنّه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى :

١ ـ خطر قريش وعامة الوثنيين في شبه الجزيرة العربية.

٢ ـ خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة ويمتلكون ثروة كبيرة.

٣ ـ الاختلاف الذي كان بين أتباعه من المهاجرين وبين الأوس والخزرج.

وحيث إن المهاجرين والأنصار قد نشئوا في بيئتين مختلفتين ، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة ، وآداب السلوك ، واُسلوب التفكير اختلافاً كبيراً.

هذا مضافاً إلى أن الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداء قديم وبقايا ضغائن نشأت خلال حروب موية طويلة استغرقت مائة وعشرين سنة بلا انقطاع.

ومع وجود مثل هذه التناقضات والأخطار المحتملة لم يكن مواصلة الحياة الدينيّة ، والسياسيّة المستقرّة أمراً ممكنا قط.

ولكن رسول الله صلّى الله عليه وآله تغلّب على كلّ هذه المشكلات بطريقة حكيمة ، غاية في الحنكة والابداع.

فبالنسبة إلى المشكلتين الأوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.

وأمّا بالنسبة إلى مشكلة التناقضات بين فئات وأصناف جماعته فقد عالج تلك المشكلة بحذق كبير ، وتدبير رائع جدّا.

فقد أمر من جانب الله تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

فجمعهم رسول الله صلّى الله عليه وآله ذات يوم وقال لهم :

« تآخوا في الله أخوين أخوين ».

وقد ذكرت المصادر التاريخيّة الاسلاميّة ، مثل « السيرة النبويّة » لابن هشام (18) أسماء كلّ متآخيين من المهاجرين والأنصار.

وبهذا الأسلوب كرّس رسول الله صلّى الله عليه وآله الوحدة السياسيّة والمعنويّة بين المسلمين وقوّى اُسسها ودعائمها.

وقد سببت هذه الوحدة ، وهذا التآخي الواسع في أن يقرّر حلّا للمشكلتين الأوليين بسرعة وسهولة.

منقبتان عظيمتان :

ولقد ذكر أكثر مؤرّخي السنّة والشيعة ومحدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين ، نذكرهما نحن هنا أيضاً : لقد آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله بين ثلاثمائة من أصحابه من المهاجرين والأنصار وهو يقول : يا فلان أنت أخ لفلان.

ولما فرغ من المؤاخاة ، قال له علي عليه السلام ، وهو يبكي :

« يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد » ؟

فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد أخذ بيده :

« أنت أخي في الدنيا والآخرة » (19).

وقد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضيّة بنحو أكثر تفصيلاً إذ قال :

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلي :

« والذي بعثني بالحق نبيّاً ما أخّرتك إلّا لنفسي ، فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي » (20).

غير ان ابن كثير شكّك في صحّة هذا الرواية (21) ، وحيث إن هذه التشكيك نابع من نفسيّته الخاصّة ، ولا يقلّ تفاهة وبطلاناً من اعتذاره ودفاعه عن معاوية وزمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمّار بن ياسر لهذا نرجح أن نصرف النظر عن النقاش فيه ، ونترك القضاء والحكم عليه للقارئ المنصف ، والمتتبّع العدل.

منقبة أخرى لعليّ عليه السلام :

فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله من بناء المسجد ، وقد بنيت منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وكلّ شرع منه باباً إلى المسجد ، وخطّ لحمزة خطا فبنى منزله فيه ، وشرع بابه إلى المسجد وخط لعليّ بن أبي طالب مثل ما خط لهم فبنى منزله فيه وشرع بابه إلى المسجد ، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الأبواب.

وفجأة نزل جبرئيل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال :

« يا محمّد إنّ الله يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد أن يسدّه ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلّا لك ولعليّ عليه السلام ».

يقول ابن الجوزي : فأوجد هذا الأمر ضجّة عند البعض ، وظنّوا أنّ هذا الاستثناء قد نشأ عن سبب عاطفي ، فخطب رسول الله صلّى الله عليه وآله في الناس وقال فيما قال :

« والله ما أنا أمرت بذلك ، ولكنّ الله أمر بسدّ أبوابكم وترك باب عليّ » (22).

وخلاصة القول أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قضى عن طريق المؤاخاة الاسلاميّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين على الاختلافات القديمة التي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم ، وبذلك حلّ مشكلة من المشاكل الثلاث التي مرّ ذكرها.

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب :

كانت المشكلة الثانية التي يواجهها رسول الله صلّى الله عليه وآله في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة وخارجها وكانوا يمسكون بأزمة التجارة والاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يدرك جيّداً أنّه ما لم تصلح الأوضاع الداخليّة في المدينة وما لم يضمّ إلى صفوفه يهود يثرب ، وبالتالي ما لم يقم وحدة سياسية عريضة في مركز حكومته ، لم تتهيّأ لشجرة الاسلام أن تنمو ، ولن يتهيّأ له صلّى الله عليه وآله أن يفكر في أمر الوثنيين والوثنيّة في شبه الجزيرة العربيّة ولا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة أعني قريش بخاصّة.

وبكلمة واحدة ما لم يستتبّ الأمن والاستقرار في مقرّ القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

ولقد قام بين يهود المدينة والمسلمين في بداية هجرتهم إليها نوع من التفاهم لأسباب خاصّة ، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدي