1 ـ بقي الكلام في دفع شبهات الأشاعرة القائلين بالجبر وأنّ العباد مجبورون في أفعالهم ، ولذا أنكروا التحسين والتقبيح عقلاً([1]) ، بدعوى أنّ الأفعال كلّها مخلوقة لله تعالى ، وتصرّفه يكون في ملكه وسلطانه ، والظلم إنّما هو التصرّف في سلطان الغير ، فلا موضوع للظلم في أفعاله تعالى ، وعلى هذا حملوا الآيات النافية للظلم عنه كقوله تعالى : (أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ)([2]) ، فقالوا : المراد منه أنّه لا معنى للظلم منه تعالى ، لا أنّه معقول ولا يفعله ، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا معنى لإثبات التكليف له تعالى بأن يقال : يجب أن يفعل كذا وأن لا يفعل كذا ، إذ ليس للعبد تكليف المولى وبيان الوظيفة له وإلزامه بشيء ، فلا مانع أن يدخل النبي في أسفل دركات الجحيم ويدخل المشرك العاصي في أعلى درجات الجنة إلى آخر ما يسطّروه من الخرافات .
ونقول : أمّا قولهم بأنّه ليس للعبد أن يحكم على المولى بشيء فهو حق ، إلاّ أنّ المراد من الحكم في المقام ليس هو الإلزام وجعل الوظيفة ، وإنّما المراد منه الادراك ، فالحكم بأنّه عادل كالحكم بأنّه عالم وقادر .
وأمّا قولهم بأنّ الظلم هو التصرف في سلطان الغير ولا معنى له في أفعال الباري .
ففيه : أنّه مغالطة واشتباه بالغصب ، فإنّ الغصب هو التصرّف في سلطان الغير ولا يعقل بالقياس إلى مالك الملوك ، وأمّا الظلم فهو بمعنى الاعوجاج والخروج عن العدالة والاستقامة إلى حدّ الافراط أو التفريط ولو في ملكه أو نفسه ، مثلاً: أنّ ]لـ[لإنسان على نفسه حقوقاً فلابدّ وأن يصرف مقداراً من زمانه في الاُمور الاُخرويّة ومقداراً منه في الاُمور الدنيويّة يقال إنّه ظلم نفسه ، وهكذا لو كان للإنسان عبدان وكان أحدهما مطيعاً لمولاه في تمام عمره والآخر عاصياً له ، كذلك لو أثاب المولى العبد العاصي وعاقب المطيع فهو ظالم ويعدّ عند العقلاء مجنوناً .
وأمّا قولهم يجوز أن يدخل الله نبيّه في الجحيم ويخلد عدوّه في الجنّة فهو أيضاً كالمثال المتقدّم ممّا لا يجوّزه العقل والعقلاء ولو كان تصرّفاً في ملكه وسلطانه .
هذا مضافاً إلى أنّه عليه يكون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً ، إذ لا مانع من أن يدخل جميع المؤمنين في النار ، ويسكن جميع الكفّار في الجنان ، فلا يبقى لهذا دافع إلاّ القول بأنّ الوعد والوعيد ينفي ذلك ، فإنّه لا يخلف الميعاد .
والجواب عنه واضح على مشربهم ، إذ خلف الوعد بل الكذب الذي ليس إلاّ ظلماً في الكلام لا يكون قبيحاً ، وأمّا توهّم أنّ عادة الله جارية على ذلك .
ففيه : أنّه متى عاشرنا مع الله تعالى ، وكم مدّة كنّا معه حتّى علمنا عادته في الاُمور الدنيويّة ؟ ومن رجع من الآخرة وأخبر عن عادته تعالى فيها ؟ فهذه الكلمات ممّا تضحك الثكلى([3]) .
2 ـ ما ]تقدم مفصّلاً[ عن الفخر الرازي من أنّ الأفعال كلّها معلولة للإرادة ، وهي ـ أي نفس الإرادة ـ غير إرادية ، وإلاّ لزم التسلسل ، فإذا كان علّة الفعل أمراً قهرياً جبريّاً ، فلا محالة يكون معلولها أيضاً كذلك ، وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن العلّة ، وهو بمكان من البطلان([4]) .
واُجيب عنه : بأنّ الأفعال حيث إنّها مسبوقة بالإرادة فهي اختياريّة في مقابل الفعل القسري الذي صدر عن قهر وقسر كسقوط الحجر ، والطبعي الذي يصدر بالطبع كحركة النبض ، ويكفي في الفعل الاختياري أن يكون إراديّاً ، ولا يلزم أن تكون الإرادة إراديّة أيضاً .
وأنت خبير بأنّ هذا الجواب لايسمن ولا يغني من جوع ; إذ المعلول لأمر غير اختياري غير اختياري ، فهو جبر بصورة الأمر بين الأمرين .
والتحقيق في الجواب : أنّ الإرادة تستعمل تارة ويراد منها تلك الصفة النفسانيّة التي هي الشوق ضعيفاً أو قويّاً ، وتستعمل اُخرى ويراد منها الاختيار الذي هو فعل من أفعال النفس ، والمحذور المذكور لازم على تقدير أن تكون علّة الأفعال الإرادة بالمعنى الأوّل لا هي بالمعنى الثاني ، ونرى بالوجدان أنّه ليس مجرّد الشوق علّة تامّة للفعل ; بداهة أنّ النفس في إعمال قدرتها وسلطنتها فيما اشتاقت إليه وما تكرهه على حدّ سواء ، بل ما ارتكز في أذهاننا ونرى من وجداننا أنّ العلّة التامّة للفعل هي الإرادة بالمعنى الثاني التي قيامها بالنفس قيام الفعل بفاعله . وإن شئت فسمّها بالاختيار أو المشيئة أو إعمال القدرة أو حملة النفس .
وبالجملة علّة الأفعال ـ وهي الإرادة بمعنى الاختيار وإعمال القدرة ـ اختياريّة ; إذ للنفس أن تعمل قدرتها نحو الفعل وتفعل وأن لاتعمل قدرتها ولا تفعل ، فإذا كانت العلّة اختياريّة فلا محالة يكون المعلول أيضاً اختياريّاً .
إن قلت: إعمال القدرة وحملة النفس واختيارها أيضاً فعل من الأفعال، وبالضرورة لا يكون واجب الوجود، فيكون ممكناً محتاجاً إلى العلّة، فهي إمّا إراديّة أو اضطراريّة، فهو على الثاني يكون اضطراريّاً، ويعود المحذور، وعلى الأوّل ننقل الكلام فيها، فإن كانت إراديّةً، يتسلسل، وإلاّ يعود المحذور، فلا أثر لهذا الجواب أصلاً.
قلت: يكفي في كون الفعل اختياريّاً أمران:
الأوّل: مقدوريّته للفاعل بحيث يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل.
الثاني: استناده إليه بحيث يصدر من الفاعل لا عن قهر وقَسْر، ولا يلزم في ذلك أزيد من هذين الأمرين.
وما اشتهر في الألسنة من أنّ الممكن لابدّ لوجوده في الخارج من علّة ممّا لا أصل له لو كان المراد ظاهره من عدم الانفكاك بينهما، ولكنّ الظاهر أنّ مرادهم بذلك أنّ الممكن حيث إنّ نسبته إلى الوجود والعدم على حدٍّ سواء وككفّتَي الميزان لا يوجد بالذات، وإلاّ خرج الممكن بالذات عن كونه ممكناً بالذات، بل لابدّ له من موجد يوجده، أمّا كونه علّةً تامّةً له بحيث لا ينفكّ عنه فلا، فحينئذ فعل النفس الذي سمّيناه بالاختيار أو إعمال القدرة أو حملة النفس أو المشيئة أو غير ذلك من الألفاظ ـ
عباراتنا شتّى وحسنك واحد***وكلٌّ إلى ذاك الجمال يشيرُ
ـ فعل اختياري صادر عن النفس بلا واسطة في البين، وهو مقدور لها بحيث يمكنها أن تُعمِل قدرتها وأن لا تُعمِل، بخلاف سائر الأفعال; فإنّها صادرة عن النفس بواسطة هذا الفعل الاختياري، وهذا معنى قوله(عليه السلام): «خلق الله الأشياء بالمشيئة ، والمشيئة بنفسها»([5]).
والحاصل : أنّ علّة الفعل ليست هي الشوق بل هي الاختيار ، والشوق ليس إلاّ باعثاً ومحرّكاً للنفس وداعياً للإختيار ، وهو فعل من أفعال النفس يصدر عنها بلا واسطة ، ولها أن تختار وأن لا تختار ، فهو مقدور لها وفعلها .
ونظيره علم النفس بالأشياء ; فإنّه بواسطة الصورة الحاصلة منها في النفس ، وأمّا علمها بهذه الصورة فهو بنفسها لا بواسطة صورة اُخرى .
ولو قلنا بقهريّة الأفعال المعلولة للاختيار ولم نكتف في اختياريّة الاختيار بمقدوريّته للنفس وصدوره عنها ، وجب أن نقول بذلك في أفعال الله حيث إنّه تعالى أيضاً خلق الأشياء بالمشيئة والاختيار ، ولا فارق في البين ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، ولا يقول به الأشعري .
3 ـ إنّ الأفعال بين واجب وممتنع ; إذ الإرادة الأزليّة له تعالى إمّا تعلّقت بها فهي واجبة ، أو لم تتعلّق بها فهي ممتنعة ، وإلاّ لزم أن تكون إرادة العبد غالبة على إرادة الله ، وهو باطل بالضرورة .
وهذه الشبهة نشأت من جعل إرادته تعالى من صفات الذات ، وهو المعروف بين جملة من الفلاسفة ، وهو باطل ، بل هي من صفات الفعل .
بيان ذلك : أنّ صفات الذات ـ كما عرفت([6]) ـ هي ما لا يمكن نفيها عنه تعالى بوجه من الوجوه ، كالقدرة والعلم حيث إنّهما لايمكن نفيهما عنه تعالى ; إذ هو تعالى قادر إذ لا مقدور ، وعالم إذ لا معلوم .
وأمّا الإرادة فيمكن نفيها عنه تعالى ، كما في التنزيل: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)([7]) .
وقد تطابقت وتظافرت الأخبار بأنّ الإرادة من صفات الفعل ، وليس شيء غير العلم والقدرة من صفات الذات ، والحياة صفة تنتزع عنهما ، وبقيّة الصفات كلّها من صفات الفعل ، ومنها الإرادة ، فهي على هذا ليست بأزليّة ، بل هي كسائر الأفعال ربما تصدر منه تعالى ، وربما لا تصدر بحسب المصالح والمفاسد ، فالإرادة ليست بأزليّة حتّى يقال : إمّا تعلّقت بالأفعال أو لم تتعلّق ، ويلزم ما ذكر ، والأفعال ليست أفعال الله حتّى تكون معلولة لإرادته واختياره ، بل هي معلولة لاختيار العباد حيث إنّها أفعالهم ، فالقضية سالبة بانتفاء الموضوع .
وبالجملة : لمّا جعلوا الإرادة من صفات الذات ، وقعوا في هذه الشبهة ، وقالوا بمجبوريّة العباد في أفعالهم ، وأنت بعد ما عرفت أنّ الإرادة ليست من صفات الذات لا يبقى لك إشكال من هذه الجهة ، فتأمّل .
4 ـ أنّه تعالى حيث إنّ إرادته عين علمه ، فإن علم بفعل العبد يجب ، وإن علم بعدمه فيمتنع ، فهو إمّا واجب صدوره من العبد أو ممتنع ، وإلاّ يلزم تخلّف العلم عن المعلوم ، وهو محال في حقّه تعالى ، وبذلك أشار شاعرهم حيث قال :
…***گرمى نخورم علم خدا جهل بود([8])
والجواب ـ مضافاً إلى أنّ هذه الشبهة أيضاً مبتنية على جعل الإرادة من صفات الذات ، وقد عرفت بطلانه ـ أنّ علمه تعالى تابع لوقوع الفعل بمعنى أنّه حيث كان العبد يصدر منه الفعل علم هو به ، لا أنّه حيث علم به يصدر الفعل من العبد .
وبعبارة اُخرى : ليس العلم بالصدور علّة للصدور ، بل الأمر بالعكس ، والصدور علّة للعلم به ; ضرورة أنّ طلوع الشمس غداً ليس معلولاً لعلمنا به ، بل علّته أمر آخر لا ربط له بعلمنا به ، وهكذا لا ربط له بعلم الباري به ; إذ ليس العلم بالشيء إلاّ انكشافه لدى العالم من غير فرق بيننا وبين الباري في هذا المعنى ، والانكشاف كيف يمكن أن يكون مؤثّراً و علّة للشيء ؟ ولو كان كذلك ، للزم أن يكون الباري تعالى أيضاً مجبوراً في أفعاله ; إذ هو تعالى عالم بأفعال نفسه ، فأفعاله أيضاً ضروريّة له ، وإلاّ يلزم تخلّف العلم عن المعلوم المحال في حقّه تعالى ، وهذا ممّا لايمكن الإلتزام به([9]) .
هذا تمام الكلام في الجبر ، والجواب عن شبهات الأشعري([10]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الظاهر أنّ إنكارهم للحسن والقبح ليس منحصراً بفعل العباد ، بل أنكروهما مطلقاً حتّى في أفعال الله تعالى ، حيث إنّ موضوعهما الفعل الاختياري لا الجبري ، وتحفّظوا بذلك قدرته وسلطنته تعالى ، وأنّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يسأل وهم يسألون ، ويدخل من يشاء في نعيمه وإن كان من الفجّار، ويدخل من يشاء فى جحيمه وإن كان من الأبرار بلا قبح في نظر العقل أصلاً ، ووقعوا في شبهة إسناد الظلم إليه ـ تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ـ في قبال المعتزلة القائلين بالتفويض وأنّ يد الله مغلولة ، وأنّ العباد مختارون في أفعالهم اختياراً تامّاً بحيث لا يقدر هو تعالى على سلبه عنهم ، فتحفّظوا بذلك عدله تعالى والتحسين والتقبيح العقليّين ، ووقعوا في شبهة سلب السلطنة والقدرة عنه تعالى ، فكل تنحّى عن طريق الاستقامة ، ووقع في طرف الافراط والتفريط ، خلافاً للفرقة المحقّة الاثني عشرية القائلين بالأمر بين الأمرين وأخذوا وتعلّموا من أئمّتهم صلوات الله عليهم أجمعين ، فتحفّظوا بذلك عدله وقدرته تعالى .الهداية في الاُصول 1 : 205 .
[2] آل عمران : 182 .
[3] دراسات في علم الاُصول 1 : 156 ـ 157. هذا ما جعله جواباً ثانياً عن إشكال الظلم ، أي إنكارهم الحسن والقبح في الأفعال ، وأنّه على هذا المبنى يكون العقاب والثواب ظلماً وقبيحاً .
[4] راجع تلخيص المحصّل المعروف بنقد المحصّل ـ للخواجة نصير الدين الطوسي : 325 .
[5] الكافي 1: 110، ح4 بتقديم وتأخير.
[6] تقدّم في مطاوي البحث وسيأتي بحثه مفصّلاً في بحث الإرادة الإلهيّة.
[7] البقرة : 185 .
[8] مضمون العجز من الشعر بالفارسية: أنّ الشاعر يقول: لو لم أتناول كأس الخمر لكان علم الله بذلك جهلاً.
[9] تقدّمت هذه الشبهة مع جوابها مفصّلاً في الوجه الخامس من الوجوه العقليّة التي استدلّ بها الأشاعرة على الجبر ، فراجع .
[10] الهداية في الاُصول 1 : 205 - 211 .
اكثر قراءة