akdak

المقالات

قسم الفقه

تقرير آخر للجواب

453

---------

إنّ الأفعال الاختياريّة لا تكون متعلّقة للإرادة الأزليّة أصلاً ، فلا  تكون الإرادة الأزليّة متعلّقة بصدورها ولابعدم صدورها ليدور الأمر بين الضرورة والامتناع ، بل الإرادة الأزليّة قد تعلّقت بكون العبد مختاراً ، إن شاء فعل وإن شاء ترك ، فلو لم يكن العبد مختاراً لزم تخلّف إرادته تعالى عن مراده .

نعم ، له تعالى علم بأنّه يفعل أو يترك باختياره ، ومن المعلوم أنّ العلم لا يوجب الوجوب أو الامتناع ، فإنّه عبارة عن انكشاف الواقع عنده تعالى ، فكلّ ما يفعله العبد باختياره فهو منكشف عنده سبحانه قبل وقوعه ، فليس هناك إجبار واضطرار إلى الفعل أو الترك .

هذا ، مضافاً إلى ما يجيء التعرّض له قريباً إن شاء الله تعالى من أنّ إرادته تعالى ليست من صفاته الذاتيّة القديمة ، بل من صفاته الفعليّة التي ]هي[ عبارة عن المشيّة وإعمال القدرة ، ولذا تقع بعد أدوات الشرط ، كما في قوله تعالى : (إذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ)([1]) .

فإذاً لا يمكن تعلّق ارادته تعالى بالأفعال الاختيارية للعبد ; لأنّ الإرادة بمعنى إعمال القدرة يستحيل تعلّقها بفعل الغير ; ضرورة أنّه لا  يعقل إلاّ في الأفعال الّتي تصدر من الفاعل بالمباشرة ، وكيف يمكن التفوّه بأنّ الأفعال القبيحة من الكفر والظلم ونحوهما التي قد تصدر من العبد صادرة منه تعالى بالمباشرة وإعمال القدرة ، وكيف يمكن القول بصدور ما لا  ينبغي صدوره من العبد منه تعالى ، وكيف يمكن الالتزام بأنّه يصدر منه تعالى ما لا  يرضى بصدوره من عبده ؟ !

وبالجملة ، القول بتعلّق إرادته وإعمال قدرته تعالى بالأفعال الاختياريّة للعبد في غاية الضعف والسقوط ، فالعبد هو الّذي يفعل ويباشر العمل باختياره ، حسناً كان أو قبيحاً .

نعم ، إعطاء المقدّمات كالقدرة والحياة منه تعالى على نحو يجيء بيانه مفصّلاً إن شاء الله عند الردّ على مذهب التفويض .

نعم ، لو شاء سبحانه وتعالى عدم صدور بعض الأفعال من العبد أبدى المانع عنه أو يرفع المقتضي له ، وهذا غير تعلّق إرادته بأفعالهم بالمباشرة ، كما هو واضح([2]) .

]وأجاب المحقّق الخراساني أيضاً عن هذه الشبهة[ بأنّ الإرادة الأزليّة إنّما تعلّقت بصدور الفعل أو بعدمه عن الفاعل بالإختيار .

ونقول : هذا الجواب ليس إلاّ جواباً عن الشبهة في مقام اللفظ والاصطلاح ، ولا يرفع الاشكال واقعاً ، فإنّ تعلّق الإرادة الأزليّة بصدور الفعل عن اختيار العبد لازمه ضروريّة الصدور والاختيار . نعم، حيث إنّ الفعل حينئذ يكون مسبوقاً بالإرادة يكون اختياريّاً اصطلاحاً .

والصحيح في الجواب أنّ الإرادة بمعنى البناء والمشيئة ـ وما شئت فعبّر ـ إنّما تتعلّق بفعل نفس الإنسان ، فإذا التفت إمّا أن يريد فعل شيء أو تركه ، وإمّا الفعل الاختياري للغير فلا معنى لتعلّق إرادة الإنسان به أصلاً ، وعليه فما يصدر من العبد اضطراراً من غير اختياره كحركة النبض ـ  مثلاً  ـ لا  مانع من تعلّق الإرادة الأزليّة به وجوداً أو عدماً ، وأمّا الفعل الصادر عن إختياره فلا تتعلّق الإرادة الأزليّة به أصلاً ]فهو[ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ لم يكن مجال لتعلّقها به ، وما ورد من قبيل قوله تعالى : (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ)([3]) فالمراد منه ظاهر بعد ما بيّناه ، فإنّ معنى مشيئته بالنسبة إلى الأفعال الاختياريّة للعبد إنّما هو الإقدار آناً فآناً ، والإفاضة دائماً كالسلك الكهربائي بحيث لو انفصل أقل من آن ينطفىء الضوء ويخمد النور ،وهذا معنى كلمة (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله) . فتحصّل بحمد الله اندفاع شبهات الأشاعرة بحذافيرها([4]) .

]الوجه السادس[ إنّ تعلّق العلم الأزلي لله عزوّجل بأفعال عبيده يقتضي استحالة صدور ما هو على خلاف ما يعلمه الله تعالى ، إذ لو صدر غير ما هو المعلوم أزلاً لزم أن يكون الصادر مجهولاً لله تعالى أزلاً ، وهو محال .

والجواب عنه : أنّ علم الله تعالى لا  يرتبط بالإرادة التكوينية له وليس هو علّة للفعل ، فلا يمنع أن يتعلّق بالفعل الذي يختاره العبد ـ أي أنّ الفعل بواقعه ينكشف له وليس العلم إلاّ انكشاف الواقع من دون أن تكون له أيّة مدخليّة فيه ـ وهو بهذا المعنى لا ينافي الاختيار ، إذ لا  يتعلّق إلاّ بما يختاره العبد فيفعله .

والحاصل : أنّ الأشاعرة نفوا وجود سلطنة لدى العبد يستطيع أن يعملها في أفعاله الصادرة منه ، وأثبتوها لله سبحانه وتعالى ، واعتبروا العبد آلة بيده نظراً إلى انتهاء إرادة العبد إلى الإرادة الأزليّة ، وكيف يختار ما هو خلاف الإرادة ، وبهذا وقعوا في الالتزام بلوازم واضحة البطلان ، كنفي العدالة عنه تعالى لمعاقبته العبيد على ما ليس باختيارهم وهو ظلم ، وكادّعائهم بأنّ العقل لايستطيع أن يدرك حسن بعض الأشياء وقبحها ، بل الحسن ما أمر به المولى ، والقبح ما نهى عنه([5]) .

]الوجه السابع[ ما نسب في شرح المواقف([6])إلى أبي الحسن الأشعري ، وإليك نصّه :

«إنّ أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً ، ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاًّ له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري» .

ووجه الغرابة أمّا أوّلاً ـ فلا دليل على ثبوت هذه العادة لله تعالى .

وأمّا ثانياً ـ فقد قام البرهان القطعي على عدم واقع موضوعي لها أصلاً .

توضيح ذلك : أنّ الكلام من هذه الناحية تارة يقع في المعاليل الطبيعية المترتّبة على عللها ، واُخرى في الأفعال الاختياريّة .

أمّا الاُولى : فلأنـّها تخضع لقوانين طبيعية ونظم خاصة أودعها الله تعالى في كمون ذاتها وطبائعها ضمن إطار معيّن وهي مبدأ السنخيّة والتناسب ، والسرّ في ذلك أنّ العلل تملك معاليلها في ذواتها وكمون طبائعها بنحو الأتمّ والأكمل ، وليست المعاليل موجودات اُخر في قبال وجوداتها ، بل هي تتولّد منها ومن مراتب وجودها النازلة ، وعليه فبطبيعة الحال تتناسب معها ، مثلاً معنى كون الحرارة معلولة للنار هو أنّ النار تملك الحرارة في صميم ذاتها وتتولّد منها وتكون من مراتب وجودها ، وهذا هو التفسير الصحيح لإعتبار السنخيّة والتناسب بينهما .

فالنتيجة : أنّ الكائنات الطبيعية بعللها ومعاليلها جميعاً خاضعة لقانون التناسب والتسانخ ، ولا تتخلّف عن السير على طبقه أبداً .

وعلى ضوء هذا فلا يمكن القول بأنّ ترتّب المعاليل على عللها بمجرّد جريان عادة الله تعالى بذلك من دون علاقة ارتباط ومناسبة بينهما رغم أنّ العادة لا تحصل إلاّ بالتكرار ، وعليه فما هو المبرر لصدور أول معلول عن علّته مع عدم ثبوت العادة هناك ، وما هو الموجب لتأثيرها فيه ووجوده عقيب وجودها ؟

ومن الطبيعي أنّه ليس ذلك إلاّ من ناحية ارتباطه معه ذاتاً ووجوداً ، فإذا كان المعلول الأوّل خاضعاً لقانون العلّية ، فكذلك المعلول الثاني وهكذا ، بداهة عدم الفرق بينهما من هذه الناحية أبداً ، وكيف يمكن أن يقال أنّ وجود الحرارة مثلاً عقيب وجود النار في أول سلسلتهما الطولية مستند إلى مبدأ السنخيّة والمناسبة وخاضع له ، وأمّا بعده فهو من جهة جريان عادة الله تعالى بذلك ، لا من جهة خضوعه لذلك المبدأ ؟

فالنتيجة أنّ مردّ هذه المقالة إلى إنكار واقع مبدأ العلّيّة وهو لا  يمكن .

وأمّا الثانية : وهي الأفعال الاختياريّة فقد تقدّم أنّها تصدر بالإختيار وإعمال القدرة ، فمتى شاء الفاعل إيجادها أوجدها في الخارج ، وليس الفاعل بمنزلة الآلة كما سيأتي بيانه بصورة مفصّلة .

على أنّه كيف يمكن أن تثبت العادة في أول فعل صادر عن العبد ، فإذن ما هو المؤثّر في وجوده ؟ فلا مناص من أن يقول : إنّ المؤثّر فيه هو إعمال القدرة والسلطنة ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق بينه وبين غيره من هذه الناحية .

فالنتيجة أنّ ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري لا يرجع إلى معنى محصّل أصلاً... .

]الوجه الثامن : ومجمل الكلام فيه أنّ الفلاسفة[ ذهبوا إلى أنّ الأفعال الاختياريّة معلولة للإرادة تترتّب عليها كترتّب الصفرة على الوحل ، لا  فرق بينهما إلاّ في أنّ الأوّل مسبوق بالإرادة ولذا يسمّى بالاختياري دون الثاني ، زعماً منهم أنّ كلّ فعل لابدّ له من علّة تامّة موجبة ; لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد([7]) ، وهذا هو الوجه الذي يستلزم الجبر والقول بقدم العالم لجريان هذا الكلام هناك أيضاً ، وقد ذكر العلاّمة(قدس سره)في منهجه أنّ الفرق بين الفلسفة والإسلام هو ذلك ، فإنّ الفلاسفة يقولون بأنّ كلّ فعل متوقّف على موجب ; لأنّه ما لم يجب لم يوجد ، بخلاف الإسلام إذ ليس من هذه العناوين كعنوان العلّيّة والمعلولية في الأخبار عين ولا  أثر ، والمذكور فيها إنّما هو احتياج الفعل إلى الفاعل وإلى الصانع ، واحتياج الخلق إلى الخالق .

وبالجملة ، الفارق المذكور في كلامهم لا  يكون مؤثّراً في دفع شبهة الجبر وقِدم العالم مثقال ذرّة ، وإنّما هو فرق اصطلاحي لمجرّد التعبير .

فالجواب الصحيح عن كلامهم هو ما تقدّم من أنّ ما يتوقّف عليه الفعل إنّما هو الفاعل ولو كان مختاراً ، فإن شاء يعمل قدرته ويجعلها فعلها أي بفعله ، وإن لم يشأ لم يفعله . نعم ، لابدّ وأن يكون ذلك لفائدة مترتّبة عليه ، إمّا راجعة إلى نفسه أو إلى غيره ، وأمّا الموجب فلم يدلّ دليل على اعتباره لا شرعاً ولا عقلاً . وبهذا تندفع شبهة الجبر وشبهة قِدم العالم .

وما تخيّلوه من ترتّب]الـ [عقول ]الـ[ عشرة وأنّ المخلوق الأول هو العقل الأوّل ، ثمّ بقيّة العقول بحسب الترتيب إلى أن ينتهي الأمر إلى النفوس الفلكيّة ، ثمّ إلى عالم الطبيعة ، فإنّ كلّ ذلك مبني على الجبر وأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وإلاّ فالبارىء فاعل مختار إذا رأى المصلحة في إيجاد شيء قبل ألف سنة يوجده في ذلك الظرف ، وإذا رأى المصلحة في إيجاده بعد ألف سنة يوجده في ذلك الزمان ، فلا يلزم القِدم ،وهذا هو الذي يستفاد من الأخبار ويراه الإنسان وجداناً ، ولذا ذكر الشيخ في الرسائل([8]) أنّ ضرورة الأديان قد دلّت على حدوث العالم ، فإن كانت هناك شبهة كاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة ، فهي شبهة في مقابل البديهية([9]) .

]وتفصيل الكلام فيه أنّ[ المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديماً وحديثاً أنّ الأفعال الاختياريّة بشتّى أنواعها مسبوقة بالإرادة ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّها إذا بلغت حدها التام تكون علّة تامّة لها ، وتبعهم في ذلك جماعة من الاُصوليين منهم المحقّق صاحب الكفاية وشيخنا المحقّق(قدس سرهما) .

فالنتيجة على ضوء ذلك هي وجوب صدور الفعل عند تحقّق الإرادة واستحالة تخلّفه عنها ، بداهة استحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، وإلى هذا أشار شيخنا المحقّق(قدس سره) بقوله : «الإرادة ما لم تبلغ حداً يستحيل تخلّف المراد عنها لايمكن وجود الفعل ; لأن معناه صدور الفعل بلا  علّة تامّة ، وإذا بلغت ذلك الحدّ امتنع تخلّفه عنها ، وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن علّته التامّة»([10]) .

وقال : صدر المتألّهين : «إنّ إرادتك مادامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه لم تكن صالحة لأحد ذينك الطرفين على الآخر ، وأمّا إذا صارت حدّ الوجوب لزم منه وقوع الفعل»([11]) ، ومراده من التساوي بعض مراتب الإرادة كما صرّح بصحّة إطلاق الإرادة عليه ، كما أنّ مراده من صيرورتها حدّ الوجوب بلوغها إلى حدّها التام ، فإذا بلغت ذلك الحدّ تحقّق المراد في الخارج ، وقد صرّح بذلك في غير واحد من الموارد .

وكيف كان ، فتتفق كلمات الفلاسفة على ذلك رغم أنّ الوجدان لايقبله ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ الإرادة بكافّة مبادئها من التصوّر والتصديق بالفائدة والميل وما شاكلها غير اختياريّة ، وتحصل في اُفق النفس قهراً من دون أن تنقاد لها . نعم ، قد يمكن للإنسان أن يحدث الإرادة والشوق في نفسه إلى إيجاد شيء بالتأمّل فيما يترتّب عليه من الفوائد والمصالح . ولكن ننقل الكلام إلى ذلك الشوق المحرّك للتأمّل فيه ، ومن الطبيعي أنّ حصوله للنفس ينتهي بالآخرة إلى ما هو خارج عن اختيارها ، وإلاّ لذهب إلى ما لا نهاية له .

وعلى ضوء ذلك ، إنّ الإرادة لابدّ أن تنتهي إمّا إلى ذات المريد الذي هو بذاته وذاتياته وصفاته وأفعاله منته إلى الذات الواجبة ، وإمّا إلى الإرادة الأزليّة .

وقد صرّح بذلك المحقّق الاصفهاني(قدس سره) بقوله : «إن كان المراد من انتهاء الفعل إلى إرادة الباري تعالى بملاحظة انتهاء إرادة العبد إلى إرادته تعالى ، لفرض إمكانها المقتضي للانتهاء إلى الواجب ، فهذا غير ضائر بالفاعلية التي هي شأن الممكنات ، فإنّ العبد بذاته وبصفاته وأفعاله لا  وجود له إلاّ بإفاضة الوجود من الباري تعالى ، ويستحيل أن يكون الممكن مفيضاً للوجود»([12]) .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أنّه لا مناص من الالتزام بالجبر وعدم السلطنة والاختيار للإنسان على الأفعال الصادرة منه في الخارج .

ولنأخذ بنقد هذه النظرية على ضوء درس نقطتين :

الاُولى : أنّ الإرادة لا تعقل أن تكون علّة تامّة للفعل .

الثانية : أنّ الأفعال الاختيارية بكافة أنواعها مسبوقة بإعمال القدرة والسلطنة .

أمّا النقطة الاُولى : فلا  ريب في أنّ كلّ أحد إذا راجع وجدانه وفطرته في صميم ذاته حتى الأشعري يدرك الفرق بين حركة يد المرتعش وحركة يد غيره ، وبين حركة النبض وحركة الأصابع ، وبين حركة الدم في العروق وحركة اليد يمنة ويسرة ، وهكذا .

ومن الطبيعي أنّه لا يتمكّن أحد ولن يتمكّن من إنكار ذلك الفرق بين هذه الحركات، كيف؟ حيث إنّ إنكاره بمثابة إنكار البديهي كالواحد نصف الإثنين ، والكلّ أعظم من الجزء وما شاكلهما ، ولو كانت الإرادة علّة تامّة وكانت حركة العضلات معلولة لها كان حالها عند وجودها حال حركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق ونحوهما ، مع أنّ ذلك ـ مضافاً إلى أنّه خلاف الوجدان والضمير ـ خاطىء جداً ولا واقع له أبداً .

والسبب في ذلك : أنّ الإرادة مهما بلغت ذروتها لا يترتّب عليها الفعل كترتّب المعلول على علّته التامّة ، بل الفعل ـ على الرغم من وجودها وتحقّقها ـ كذلك يكون تحت اختيار النفس وسلطانها ، فلها أن تفعل ولها أن لا  تفعل .

وإن شئت قلت : إنّه لا شبهة في سلطنة النفس على مملكة البدن وقواه الباطنة والظاهرة ، وتلك القوى بكافة أنواعها تحت تصرّفها واختيارها . وعليه فبطبيعة الحال تنقاد حركة العضلات لها وهي مؤثّرة فيها تمام التأثير من غير مزاحم لها في ذلك ، ولو كانت الإرادة علّة تامّة لحركة العضلات ومؤثّرة فيها تمام التأثير لم يكن للنفس تلك السلطنة ، ولكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها ، وهو خاطىء وجداناً وبرهاناً .

أمّا الأوّل : فلما عرفت من أنّ الإرادة ـ مهما بلغت من القوّة والشدّة ـ لا تترتّب عليها حركة العضلات كترتّب المعلول على العلّة التامّة ، ليكون الإنسان مقهوراً في حركاته وأفعاله .

وأمّا الثاني : فلأنّ الصفات التي توجد في اُفق النفس غير منحصرة بصفة الإرادة بل لها صفات اُخرى كصفة الخوف ونحوها ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : إنّ صفة الخوف إذا حصلت في النفس تترتّب عليها آثار قهراً وبغير اختيار وانقياد للنفس كارتعاش البدن واصفرار الوجه ونحوهما .

ومن المعلوم أنّ تلك الأفعال خارجة عن الاختيار حيث كان ترتّبها عليها كترتّب المعلول على العلّة التامّة ، فلو كانت الإرادة أيضاً علّة تامّة لوجود الأفعال فإذن ما ]هي[ نقطة الفرق بين الأفعال المترتّبة على صفة الإرادة والأفعال المترتّبة على صفة الخوف ؟ إذ على ضوء هذه النظرية فهما في إطار واحد ، فلا فرق بينهما إلاّ بالتسمية فحسب من دون واقع موضوعي لها أصلاً ، مع أنّ الفرق بين الطائفتين من الأفعال من الواضحات الأوّليّة . ومن هنا يحكم العقلاء باتّصاف الطائفة الاُولى بالحسن والقبح العقليين واستحقاق فاعلها المدح والذم دون الطائفة الثانية .

ومن الطبيعي أنّ هذا الفرق يرتكز على نقطة موضوعيّة ، وهي اختياريّة الطائفة الاُولى دون الطائفة الثانية لا على مجرّد تسمية الاُولى بالأفعال الاختياريّة والثانية بالأفعال الاضطراريّة ، مع عدم واقع موضوعي لها .

ومن ذلك يظهر : أنّ الإرادة تستحيل أن تكون علّة تامّة للفعل ، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين :

الأول : أنّنا إذا افترضنا شخصاً تردّد بين طريقين : أحدهما مأمون من كلّ خطر على النفس والمال والعرض وفيه جميع متطلبّاته الحيويّة وما تشتهيه نفسه . والآخر غير مأمون من الخطر ، وفيه ما ينافي طبعه ولا  يلائم إحدى قواه ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال تحدث في نفسه إرادة واشتياق إلى اختيار الطريق الأوّل واتخاذه مسلكاً له دون الطريق الثاني ، ولكن معه ذلك نرى بالوجدان أنّ اختياره هذا ليس قهراً عليه ، بل حسب اختياره وإعمال قدرته . حيث إنّ له ـ والحال هذه ـ أن يختار الطريق الثاني .

الثاني : إذا فرضنا أن شخصاً سقط من شاهق ودار أمره بين أن يقع على ولده الأكبر المؤدّي إلى هلاكه وبين أن يقع على ولده الأصغر ، ولا  يتمكّن من التحفّظ على نفس كليهما معاً ، فعندئذ بطبيعة الحال يختار سقوطه على ابنه الأصغر ـ مثلاً ، من جهة شدة علاقته بابنه الأكبر حيث إنّه بلغ حدّ الرشد والكمال من جهة ، وارتضى سلوكه من جهة اُخرى ، ومن البديهي أنّ اختياره السقوط على الأول ليس من جهة شوقه إلى هلاكه وموته وإرادته له ، بل هو يكره ذلك كراهة شديدة ومع ذلك يصدر منه هذا الفعل بالاختيار وإعمال القدرة ، ولو كانت الإرادة علّة تامّة للفعل لكان صدوره منه محالاً لعدم وجود علّته وهي الإرادة . ومن المعلوم استحالة تحقّق المعلول بدون علّته .

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه أمران :

الأول : أنّ الإرادة في أيّة مرتبة افترضت بحيث لا  يتصوّر فوقها مرتبة اُخرى لا  تكون علّة تامّة للفعل ولا توجب خروجه عن تحت سلطان الإنسان وإختياره .

الثاني : على فرض تسليم أنّ الإرادة علّة تامّة للفعل إلاّ أنّ من الواضح جداً أنّ العلّة غير منحصرة بها ، بل له علّة اُخرى أيضاً وهي إعمال القدرة والسلطنة للنفس ; ضرورة أنّها لو كانت منحصرة بها لكان وجوده محالاً عند عدمها ، وقد عرفت أنّ الأمر ليس كذلك .

ومن هنا يظهر أن ما ذكره الفلاسفة وجماعة من الاُصوليين منهم شيخنا المحقّق (قدس سره) من امتناع وجود الفعل عند عدم وجود الإرادة خاطىء جداً .

ولعلّ السبب المبرّر لالتزامهم بذلك ـ أي بكون الإرادة علّة تامّة للفعل مع مخالفته للوجدان الصريح ومكابرته للعقل السليم ، واستلزامه التوالي الباطلة :

منها: كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواًـ هو التزامهم بصورة موضوعيّة بقاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، حيث إنّهم قد عمّموا هذه القاعدة في كافّة الممكنات بشتّى أنواعها وأشكالها ، ولم يفرّقوا بين الأفعال الإراديّة والمعاليل الطبيعية من هذه الناحية ، وقالوا : سرّ عموم هذه القاعدة حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلّة ; ومن الطبيعي أنّه لا  فرق في ذلك بين ممكن وممكن آخر ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى ، حيث إنّهم لم يجدوا في الصفات النفسانية صفة تصلح لأن تكون علّة للفعل غير الإرادة فلذلك التزموا بترتّب الفعل عليها ترتّب المعلول على العلّة التامّة .

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أنّ كلّ ممكن مالم يجب وجوده من قبل وجود علّته يستحيل تحقّقه ووجوده في الخارج ، ومن هنا يقولون : إنّ كلّ ممكن محفوف بوجوبين :

وجوب سابق : وهو الوجوب في مرتبة وجود علّته .

ووجوب لاحق : وهو الوجوب بشرط وجوده خارجاً . . .([13]) .

وأمّا النقطة الثانية : وهي أنّ الفعل الاختياري ما أوجده الإنسان باختياره وإعمال قدرته فقد تبيّن وجهها على ضوء ما حقّقناه في النقطة الاُولى من أنّ الإرادة مهما بلغت ذروتها من القوّة لن تكون علّة تامّة للفعل ، وعليه فبطبيعة الحال يستند وجود الفعل في الخارج إلى أمر آخر ، وهذا الأمر هو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنهما بالاختيار ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى ، إنّ الله عزّ وجلّ قد خلق النفس للإنسان واجدة لهذه السلطنة والقدرة ، وهي ذاتيّة لها وثابتة في صميم ذاتها ، ولأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها وتنقاد في حركاتها ، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة وقدرة اُخرى .

ومن هنا يظهر فساد ما قيل من أنّ الاختيار ممكن ، والمفروض أنّ كلّ ممكن يفتقر إلى علّة ، فإذن ما ]هي[ علّة الاختيار ؟

ووجه الظهور ما عرفت من أنّ الفعل الاختياري يحتاج إلى فاعل وخالق لا إلى علّة ، والفاعل لهذه الصفة ـ أي صفة الاختيار ـ هو النفس ، غاية الأمر أنّها تصدر منها بنفسها ـ أي بلا توسّط مقدّمة اُخرى ـ وسائر الأفعال تصدر منها بواسطتها .

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ الفعل الاختياري إنّما يصدر عن الفاعل بإعمال قدرته لا  بالإرادة. نعم ، الإرادة قد تكون مرجّحة لإختياره .

الثاني : أنّ اختيار النفس للفعل وإن كان يفتقر غالباً إلى وجود مرجّح إلاّ أنّه ليس من ناحية استحالة صدوره منها بدونه ، بل من ناحية خروجه عن اللّغوية .

ولشيخنا المحقّق(قدس سره) في هذا الموضوع كلام حيث إنّه(قدس سره) بعد ما أصرّ على أنّ الإرادة علّة تامّة للفعل أورد على ما ذكرناه ـ من أنّ الفعل الاختياري ما أوجده الفاعل بالإختيار وإعمال القدرة ، وليس معلولاً للإرادة ـ بعدّة وجوه ]كلّها غير تامة[([14])([15]) .

]الوجه التاسع[ أنّ أفعال العباد لا  تخلو من أن تكون متعلّقة لإرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته أو ، لا  تكون متعلّقة لها ولا  ثالث لهما ، فعلى الأوّل لابدّ من وقوعها في الخارج ; لاستحالة تخلّف إرادته سبحانه عن مراده ، وعلى الثاني يستحيل وقوعها ، فإنّ وقوع الممكن في الخارج بدون إرادته تعالى محال حيث لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله ، ونتيجة ذلك أنّ العبد مقهور في إرادته ولا  اختيار له أصلاً .

والجواب عن ذلك : أنّ أفعال العباد لاتقع تحت إرادته سبحانه وتعالى ومشيئته ، والوجه فيه ما تقدّم بشكل مفصّل من أنّ إرادته تعالى ليست من الصفات العليا الذاتيّة ، بل هي من الصفات الفعليّة التي هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة ، وعليه فبطبيعة الحال لا  يمكن تعلّق إرادته تعالى بها لسببين :

الأوّل : أنّ الأفعال القبيحة كالظلم والكفر وما شاكلهما التي قد تصدر من العباد لا يمكن صدورها منه تعالى بإعمال قدرته وإرادته ، كيف ! حيث إنّ صدورها لا ينبغي من العباد فما ظنّك بالحكيم تعالى ؟ !

الثاني : أنّ الإرادة بمعنى إعمال القدرة والسلطنة يستحيل أن تتعلّق بفعل الغير ، بداهة أنّها لا تعقل إلاّ في الأفعال التي تصدر من الفاعل بالمباشرة ، وحيث إنّ افعال العباد تصدر منهم كذلك فلا يعقل كونها متعلّقة لإرادته تعالى وإعمال قدرته . نعم تكون مبادىء هذه الأفعال كالحياة والعلم والقدرة وما شاكلها تحت إرادته سبحانه ومشيئته . نعم ، لو شاء سبحانه وتعالى عدم صدور بعض الأفعال من العبيد فيبدي المانع عنه أو يرفع المقتضي له . ولكن هذا غير تعلّق مشيئته بأفعالهم مباشرة ومن دون واسطة .

]الوجه العاشر :[ أنّ الله تعالى عالم بأفعال العباد بكافّة خصوصياتها من كمّها وكيفها ومتاها وأينها ووضعها ونحو ذلك  ، ومن الطبيعي أنّه لابدّ من وقوعها منهم كذلك في الخارج ، وإلاّ لكان علمه تعالى جهلاً ، تعالى الله عن ذلك علّواً كبيراً . وعليه فلابدّ من الالتزام بوقوعها خارجاً على وفق إطار علمه سبحانه ، ولا يمكن تخلّفه عنه ، فلو كانوا مختارين في أفعالهم فلا محالة وقع التخلّف في غير مورد ، وهو محال . وقد صرّح بذلك صدر المتألهين بقوله : «وممّا يدلّ على ما ذكرناه من أنّه ليس من شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا  يفعل ، حيث إنّ الله تعالى إذا علم أنـّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني ، فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً ، وذلك محال ، والمؤدّي إلى المحال محال ، فعدم وقوع ذلك الفعل محال ، فوقوعه واجب ; لاستحالة خروجه من طرفي النقيض»([16]) .

والجواب عنه أنّ علمه سبحانه وتعالى بوقوع تلك الأفعال منهم خارجاً في زمان خاص ومكان معيّن لا  يكون منشأً لاضطرارهم إلى إيقاعها في الخارج في هذا الزمان وذاك المكان ، والسبب في ذلك هو أنّ علمه تعالى قد تعلّق بوقوعها كذلك منهم بالإختيار وإعمال القدرة ، ومن الطبيعي أنّ هذا العلم لا يستلزم وقوعها بغير اختيار وإلاّ لزم التخلّف والانقلاب .

والسرّ فيه : أنّ حقيقة العلم هو انكشاف الواقع على ما هو عليه لدى العالم من دون أن يوجب التغيير فيه أصلاً ، ونظير ذلك ما إذا علم الإنسان بأنّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني من جهة إخبار المعصوم(عليه السلام) أو نحوه ، فكما أنّه لا  يوجب اضطراره إلى ايجاده في ذلك الوقت فكذلك علمه سبحانه .

وبكلمة اُخرى : إنّ الاضطرار الناشىء من قبل العلم الأزلي يمكن تفسيره بأحد تفسيرين :

الأوّل : تفسيره على ضوء مبدأ العلّيّة ، بدعوى أنّ العلم الأزلي علّة تامّة للأشياء ، منها أفعال العباد .

الثاني : تفسيره على ضوء مبدأ الانقلاب ، أي انقلاب علمه تعالى جهلاً من دون وجود علاقة العلّيّة والمناسبة بينهما . ولكن كلا التفسيرين خاطىء جداً :

أمّا الأوّل : فلايعقل كون العلم من حيث هو علّة تامّة لوجود معلومه ، بداهة أنّ واقع العلم وحقيقته هو انكشاف الأشياء على ما هي عليه لدى العالم . ومن الطبيعي أنّ الانكشاف لايعقل أن يكون مؤثّراً في المنكشف على ضوء مبدأ السنخيّة والمناسبة ; ضرورة انتفاء هذا المبدأ بينهما . وأضف إلى ذلك : أنّ العلم الأزلي لو كان علّة تامّة لأفعال العباد فبطبيعة الحال ترتبط تلك الأفعال به ذاتاً وتعاصره زماناً . وهذا غير معقول .

وأمّا الثاني : فلفرض أنّ العلم لا يقتضي ضرورة وجود الفعل في الخارج ، حيث إنّه لا علاقة بينهما ما عدا كونه كاشفاً عنه . ومن الطبيعي أنّ وقوع المنكشف في الخارج ليس تابعاً للكاشف بل هو تابع لوجود سببه وعلّته ، سواء أكان هناك انكشاف أم لم يكن ، وعليه فلا موجب لضرورة وقوع الفعل إلاّ دعوى الانقلاب ، ولكن قد عرفت خطأها وعدم واقع موضوعي لها .

ونزيد على هذا أنّ علمه سبحانه بوقوع أفعال العباد لو كان موجباً لاضطرارهم إليها وخروجها عن اختيارهم لكان علمه سبحانه بأفعاله أيضاً موجباً لذلك . فالنتيجة أنّ هذا التوهّم خاطئ جداً .

]الوجه الحادي عشر :[ ما عن الفلاسفة من أنّ الذات الأزليّة علّة تامّة للأشياء ، وتصدر منها على ضوء مبدأ السنخيّة والمناسبة ، حيث إنّ الحقيقة الإلهيّة بوحدتها وأحديّتها جامعة لجميع حقائق تلك الأشياء وطبقاتها الطولية والعرضية ومنها أفعال العباد ، فإنّها داخلة في تلك السلسلة التي لاتملك الاختيار ولا  الحرّيّة .

والجواب عنه أنّ هذه النظرية خاطئة من وجوه :

الأوّل : ما تقدّم بشكل موسّع من أنّ هذه النظرية تستلزم نفي القدرة والسلطنة عن الذات الأزليّة ، أعاذنا الله من ذلك .

الثاني : إنّه لا يمكن تفسير اختلاف الكائنات بشتّى أنواعها وأشكالها ذاتاً وسنخاً على ضوء هذه النظرية ; وذلك لأنّ العلّة التامّة إذا كانت واحدة ذاتاً ووجوداً ، وفاردة سنخاً ، فلايعقل أن تختلف آثارها وتتباين أفعالها ; ضرورة استحالة صدور الآثار المتناقضة المختلفة والأفعال المتباينة من علّة واحدة بسيطة ، فإنّ للعلّة الواحدة أفعالاً ونواميساً معيّنة لا  تختلف ولا  تتخلّف عن إطارها المعيّن ، كيف ؟ ! حيث إنّ في ذلك القضاء الحاسم على مبدأ السنخية والمناسبة بين العلّة والمعلول ، ومن الطبيعي أنّ القضاء على هذا المبدأ يستلزم انهيار جميع العلوم والاُسس القائمة على ضوئه ، فلا يمكن عندئذ تفسير أيّة ظاهرة كونية ووضع قانون عام لها .

ودعوى الفرق بين الذات الأزليّة والعلّة الطبيعية ـ هو أنّ الذات الأزليّة وإن كانت علّة تامّة للأشياء إلاّ أنّها عالمة بها دون العلّة الطبيعية فإنّها فاقدة للشعور والعلم  ـ وإن كانت صحيحة إلاّ أنّ علم العلّة بالمعلول إن كان مانعاً عن تأثيرها فيه على شكل الحتم والوجوب بقانون التناسب فهذا خلف ، حيث إنّ في ذلك القضاء الحاسم على علّيّة الذات الأزليّة ، وأنّ تأثيرها في الأشياء ليس كتأثير العلّة التامّة في معلولها ، بل كتأثير الفاعل المختار في فعله ، وإن لم يكن مانعاً عنه كما هو الصحيح ، حيث إنّ العلم لا  يؤثّر في واقع العلّيّة وإطار تأثيرها ، كما درسنا ذلك سابقاً ، فلا فرق بينهما عندئذ أصلاً ، فإذن ما هو منشأ هذه الاختلافات والتناقضات بين الأشياء ، وما هو المبرّر لها ؟ وبطبيعة الحال لايمكن تفسيرها تفسيراً يطابق الواقع الموضوعي إلاّ على ضوء ما درسناه سابقاً بشكل موسّع من أنّ صدور الأشياء من الله سبحانه بمشيئته وإعمال سلطنته وقدرته . وقد وضعنا هناك الحجر الأساس للفرق بين زاوية الأفعال الاختياريّة ، وزاوية المعاليل الطبيعية ، وعلى أساس هذا الفرق تحلّ المشكلة .

الثالث : أنّه لا  يمكن على ضوء هذه النظرية إثبات علّة اُولى للعالم التي لم تنبثق عن علّة سابقة ، والسبب في ذلك : أنّ سلسلة المعاليل والحلقات المتصاعدة التي ينبثق بعضها من بعض لا  تخلو من أن تتصاعد تصاعداً لا  نهائياً ، أو تكون لها نهاية ولا  ثالث لهما ، فعلى الأوّل : هو التسلسل الباطل ; ضرورة أنّ هذه الحلقات جميعاً معلولات وارتباطات فتحتاج في وجودها إلى علّة أزليّة واجبة الوجود كي تنبثق منها ، وإلاّ استحال تحقّقها .

وعلى الثاني : لزم وجود المعلول بلا علّة ، وذلك لأنّ للسلسلة إذا كانت نهاية فبطبيعة الحال تكون مسبوقة بالعدم ، ومن الطبيعي أنّ ما يكون مسبوقاً به ممكن فلايصلح أن يكون علّة للعالم ومبدأً له ، هذا من ناحية . ومن ناحية اُخرى : إنّه لا علّة له ، فالنتيجة على ضوئهما هي وجود الممكن بلا علّة وسبب ، وهو محال ، كيف ؟ حيث إنّ في ذلك القضاء المبرم على مبدأ العلّية ، فإذن على القائلين بهذه النظرية أن يلتزموا بأحد أمرين : إمّا بالقضاء على مبدأ العلّيّة أو بالتسلسل ، وكلاهما محال .

الرابع : أنّ لازم هذه النظرية انتفاء العلّة بانتفاء شيء من تلك السلسلة .

بيان ذلك : أنّ هذه السلسلة والحلقات حيث إنّها جميعاً معاليل لعلّة واحدة ، ونواميس خاصة لها ، ترتبط بها ارتباطاً ذاتياً وتنبثق من صميم ذاتها ووجودها فيستحيل أن تتخلّف عنها ، كما يستحيل أن تختلف . وعلى هذا الضوء إذا انتفى شيء من تلك السلسلة فبطبيعة الحال يكشف عن انتفاء العلّة ; ضرورة استحالة انتفاء المعلول مع بقاء علّته وتخلّفه عنها . هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّه لا  شبهة في انتفاء الأعراض في هذا الكون ، ومن الطبيعي أنّ انتفائها من ناحية انتفاء علّتها وإلاّ فلا يعقل انتفاؤها ، فالتحليل العلمي في ذلك أدّى في نهاية المطاف إلى انتفاء علّة العلل . وعلى هذا الأساس فلا يمكن تفسير انتفاء بعض الأشياء في هذا الكون تفسيراً يتلائم مع هذه النظرية . فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ تلك النظرية خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً([17]) .

]وكيف كان ، لعلّ أهم ما استدلّ به للدليل العقلي أمران :[

الأوّل : أنّ الله تعالى عالم بأفعال العباد ، وإلاّ لزم الجهل في ذاته المقدّسة ، وهو محال ، فإذا تعلّق علمه بأنّ زيداً يفعل العمل الكذائي وعمراً يتركه ، فبالضرورة لابدّ وأن يتحقّق ذلك  ، وإلاّ لانقلب علمه جهلاً ، وهو محال .

وهذا الوجه ذكره «الفخر الرازي» ، وأرعد بذلك حيث قال ما حاصله : «إنّه لو أجمع أهل العالم والعلماء لما أجابوا عن هذه الشبهة» ، وافترى على هشام وقال : «إلاّ أن يختار ما ذهب إليه هشام من نسبة الجهل إليه تعالى» .

وقد أضاف إلى الشبهة بعضهم ما مضمونه : أنّ الله تعالى أخبر عن دخول أبي لهب النار بقوله تعالى : (سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَب)([18]) ، فلو لم يكن كفر أبي لهب ضرورياً وأمكن إيمانه ، والإيمان يجبّ ما قبله ، يلزم الكذب والجهل في ذاته المقدّسة .

وفيه : أنّ العلم عبارة عن الانكشاف ، والانكشاف يتعلّق ]بـ[ ـالواقع المنكشف على ما هو عليه واقعاً ، فالعلم تابع للمعلوم ، لا أنّ المنكشف تابع للعلم ، نظير من وقف أمام المرآة ; فإنّ ما يرتسم في المرآة يكون تابعاً لصاحب الرسم لا العكس ، فالرسم يكون رسم إنسان يتبع كون الواقف أمام المرآة إنساناً ، لا أنّ الإنسان إنسان ; لأنّ رسمه رسم إنسان .

وبالجملة ، لا فرق بين علمه تعالى وعلمنا بالأشياء في ذلك  ، فكما أنّا لو علمنا بأنّ زيداً يصلّي غداً لا يؤثّر ذلك في فعله ، وكلّنا نعلم بأنّه في الغد تطلع الشمس ولكن لايؤثّر علمنا في طلوعها ، كذلك علمه تعالى بأفعال عباده لا يؤثّر في تحقّقها ، فهو عزّ شأنه يعلم بصدور الفعل أو الترك من العبد بقدرته واختياره ; لأنّه يصدر منه كذلك .

وأمّا ما ذكروه من قياس علمه تعالى بعلم البنّاء والخيّاط بعمله ، وتأثير ذلك فيه ، ففيه : أنّ هذا العلم هو العلم الفعلي باصطلاح بعضهم ، أي ما يكون في طريق للفعل ، وهو عبارة عن تصوّر ]محض[ ، فتحقّق كلّ فعل اختياري يكشف عن تعلّق علم الفاعل به كشف المعلول عن علّته ، فهذا العلم مؤثّر في الفعل ، ولكن لا ربط له بالعلم بمعنى انكشاف الواقع .

والذي يؤيّد ما ذكرناه هو أنّه تعالى عالم بالملازمات وباستحالة الاُمور المستحيلة كاجتماع النقيضين مع أنّه لا دخل لعلمه في شيء من ذلك ، فاستحالة اجتماع النقيضين ثابتة لا من جهة علمه تعالى بذلك ، هذا في الحلّ .

و]أمّا[ النقض : ]فهو[ أنّه تعالى كما هو عالم بأفعال العباد عالم بأفعال نفسه من إنزال المطر في الوقت الخاص ، وإرسال الريح في الزمان المعيّن ، وخلق زيد في الساعة الفلانية إلى غير ذلك  ، فيلزم أن يكون تحقّقها ضروريّاً ، وأن يكون جلّ شأنه مضطرّاً في أفعال نفسه ، ولا يلتزم به الأشعري .

وبالجملة : بعد فرض تحقّق الفعل من العبد وتعلّق علم الباري به بهذا العنوان يكون صدوره منه ضروريّاً لكن من قبيل الضرورة بشرط المحمول ، وأمّا في حدّ نفسه فصدور الفعل الاختياري وعدمه من العبد يكون بالنسبة إليه على حدٍّ سواء .

وأمّا ما ذكروه من أنّه بعد تعلّق علمه بصدور الفعل عن الشخص لو لم يكن ضرورياً ينقلب علمه إلى الجهل فهو فاسد ، إذ لو فرضنا تعلّق علمه بصدور الفعل من العبد اختياريّاً فصدوره عنه بالاضطرار مستلزم لانقلاب علمه جهلاً .

الثاني : ]كما ذكرنا سابقاً[ أنّ نسبة الفعل والترك في كلّ فعل اختياري إلى الفاعل يكون على حدٍّ سواء ; لأنّ المفروض أنّ الفعل ممكن ، فلابدّ في تحقّق أحد طرفيه من ثبوت مرجّح لذلك وإلاّ لزم الترجيح بلا  مرجّح ، فإن ثبت مرجّح لأحد الطرفين وأوجب تحقّقه فقد خرج إلى حدّ الوجوب فيجب تحقّقه ، وهذا هو المطلوب ، وإلاّ فهو باق على حدّ الإمكان وداخلاً تحت قدرة الفاعل ، ولابدّ في تحقّق أحد طرفي الممكن من مرجّح ، فإن كان ذلك المرجّح الثاني أيضاً موجباً فقد ثبت المطلوب وإلاّ فالفعل باق على إمكانه إلى أن يتسلسل أو يتحقّق مرجّح موجب([19]) .

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] يس : 82 .

[2] مصباح الاُصول ج1 / القسم 1 : 264 ـ 265 .

[3] الإنسان : 30 .

[4] دراسات في علم الاُصول 1: 163 ـ 164.

[5] مصابيح الاُصول : 194 ـ 195 .

[6] شرح المواقف : 515 ، المرصد السادس .

[7] تقدّم الكلام عن هذه القاعدة في الوجه الثالث من وجوه الاستدلال على الجبر ، فراجع .

[8] الرسائل: 10.

[9] دراسات في علم الاُصول 1 : 164 ـ 165 .

[10] انظر : نهاية الدراية 1 : 169 .

[11] انظر الأسفار 6 : 317 ، الفصل الثاني الموقف الرابع .

[12] نهاية الدراية 1 : 171 .

[13] ذكر قدس سره هنا كلاماً يرتبط بالجواب عن قاعدة « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » المتقدّمة في التقريب الأوّل من تقريبات الجواب عن القاعدة المذكورة في الوجه الثالث من وجوه استدلال الأشعري على الجبر لم نورده هنا خشية التكرار ، فراجع .

[14] تعرّض قدس سره لتلك الوجوه ونقدها جميعاً ، وقد أعرضنا عن ذكرها خشية التشويش على القارئ ، لكنّنا سوف نلخّص ما أفاده من النقض والإبرام في عدّة نقاط هي حصيلة البحث :

            1 ـ أنّ للنفس قوى ، وهذه القوى كلّها جنود للنفس وتعمل بقيادتها ، فالأفعال الصادرة منها في الحقيقة تصدر عن النفس .

            2 ـ أنّ هذه الأفعال التي تصدر منها بواسطة تلك القوى جميعاً مسبوقة بإعمال قدرتها واختيارها ، ولا فرق من هذه الناحية بين الأفعال التي تصدر منها بالقوة العضلانية وبين الأفعال الداخليّة التي تصدر منها بإحدى تلك القوى .

            3 ـ أنّ الفعل وإن كان مترتّباً على الاختيار وإعمال القدرة في الخارج إلاّ أنّ هذا الترتب بالاختيار . ومن المعلوم أنّ وجوب وجود الفعل الناشيء من الاختيار لا  ينافي الاختيار بل يؤكّده .

            4 ـ أنّ الممكن وإن كان بكافة أنواعه وأشكاله يفتقر من صميم ذاته إلى علّة تامّة له ، إلاّ أنّ العلّة التامّة في الأفعال الاختياريّة ـ حيث إنّها الاختيار وإعمال القدرة فبطبيعة الحال تكون ضرورتها من الضرورة بشرط الاختيار .

            5 ـ أنّ الضابط لكون الفعل في إطار الاختيار هو صدوره عن الفاعل بالمشيئة وإعمال القدرة لا  بالإرادة والشوق المؤكّد .

            6 ـ أنّ الاختيار يشترك مع بقيّة الأفعال الاختياريّة في نقطة ، ويمتاز عنها في نقطة اُخرى ، أما نقطة الاشتراك فهي أنّ قيام كليهما بالفاعل قيام صدور وإيجاد لا قيام صفة المقتضي دون الشرائط وإن كان له ترتّب على المقتضي وشرائطه أو حال . وأمّا نقطة الامتياز فهي أنّ الاختيار صادر عن ذات المختار بنفسه وبلا اختيار آخر ، وأمّا بقية الأفعال فهي صادرة عنها بالإختيار لا بنفسها . راجع المحاضرات 2 :60 ـ 71 .

[15] المحاضرات 2 : 50 ـ 57، 59 ـ 60 .

[16] الحكمة المتعالية الأسفار الأربعة 8 : 318 .

[17] المحاضرات 2 : 71 ـ 76 .

[18] المسد : 3 .

[19] دراسات في علم الاُصول 1 : 158 ـ 160 .