akdak

المقالات

قسم الفقه

تذييل

386

---------

 

ثمّ بما ذكرناه ظهر الخلل في كثير من عبارات الكفاية في المقام ، ونحن نتعرّض إلى موردين منها :

أحدهما : ما ذكره من انقسام الإرادة إلى التكوينيّة والتشريعيّة ، فإنّ الإرادة على ما عرفت بمعنى البناء القلبي ، ولايعقل تعلّقه بفعل الغير . نعم ربّما يتعلّق الشوق بذلك ، وأمّا العزم والمشيئة والبناء فلا ، وعليه فالفاعل دائما تكون ارادته تكوينيّة ، غايته تارة تتعلّق بالفعل الخارجي التكويني ، واُخرى بالجعل وتشريع الحكم ، فالفرق في المتعلّق .

ثانيهما : ما ذكره من أنّ اختيار السعادة والشقاوة بالآخرة ينتهي إلى الذاتي ولا يسئل عنه ، فإنّ الاختيار فعل النفس ولا معنى لكونه ذاتيّاً ولذا يتخلّف ويتبدّل ، فربّما يكون الإنسان في أوّل عمره يختار المعاصي وفي أواخر عمره يختار الطاعات ، وربما ينعكس الأمر ، فالتخلّف أقوى دليل على عدم كونه ذاتيّاً .

ثم إنّ بعض أعاظم تلامذته وجّه كلامه ببيان مقدّمة ، وحاصل ما ذكره : إنّ الأعراض تارة تكون لازمة ، ]وهي[ إمّا من عوارض الماهية وإمّا من عوارض الوجود ، واُخرى تكون مفارقة اتفاقيّة كالبياض بالقياس إلى الجسم ، فما كان من قبيل الأول لايحتاج إلى جعل مستقل ، بل لا  معنى لجعله مستقلاً ، بل ينجعل بجعل ملزومه .

وأمّا القسم الثاني فجعله يكون بجعل مستقل . ثم طبّق هذه المقدّمة على المقام ، وذكر أنّ العلم بالنسبة إلى الإنسان يكون من العوارض المفارقة ، ولذا لايكون الإنسان عالماً ثمّ يعلم .

وأمّا الاختيار فهو من لوازمه ، فإنّ الإنسان الملتفت الشاعر من أوّل وجوده يكون مختاراً ، فثبوت الاختيار في الإنسان غير محتاج إلى جعل مستقل ، وعليه فحيث إنّ الاختيار فعل العبد ويكون دخيلاً في تحقّق فعله الاختياري يستند الفعل إلى العبد ، وحيث إنّ بعض أسبابه وهو العلم والإدراك يكون جعله من الله تعالى يستند الفعل إليه جلّ شأنه ، وهذا معنى أمر بين أمرين ، وفي كلامه صغرىً وكبرىً وتطبيقاً نظر .

والحاصل : أنّه تلخّص ممّا ذكر أنّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى كما ذهب إليه الأشاعرة ، ولاهي معلولة للإرادة كما ذهب إليه الفلاسفة ، بل هي فعل العبد صادرة باختياره .

نعم ، القدرة على ذلك آناً فآناً تكون من الله تعالى حتى في حال العصيان ، وهذا معنى الأمر بين أمرين ، كما ورد في الروايات ، وفي بعضها سئل من الإمام ما حاصله : أنّه هل يكون الفاعل هو الله ؟ فقال(عليه السلام) ما مضمونه : هو أعدل من ذلك  ، فقال : فالعبد هو الفاعل ، فقال(عليه السلام) : هو أعجز من ذلك([1]) .

ومنشأ ما ذهب إليه الفلاسفة إنّما هو ذهابهم إلى احتياج كلّ فعل إلى علّة تامّة يستحيل تخلّفها عن المعلول ، وقد ذكرنا أنّه لا  دليل عليه ، وإنّما الفعل يحتاج إلى الفاعل ليس إلاّ ، وبهذا ظهر ما في الكفاية من الخلل ، وذكرنا من مواردها موردين :

الأوّل : تقسيمه الإرادة إلى التكوينيّة والتشريعيّة ، فإنّ ذلك على مسلكهم ـ من أنّ الإرادة من الصفات ـ تام ، حيث لا معنى لها في الباري إلاّ العلم ، فعلمه تعالى تارة يتعلّق بما له دخل في النظام الأتمّ فيعبّر عنه بالإرادة التكوينيّة . واُخرى : بما له دخل في مصلحة شخص خاص ويسمّى بالإرادة التشريعيّة ، ولكن على ما اخترناه من أنّ الإرادة هي من أفعال النفس ، فالإرادة دائماً تكون تكوينيّة ، والفرق يكون في متعلّقها .

الثاني : ما ذكره من إنتهاء الإرادة إلى الذات ، والذاتي لا يعلّل ، فإنّ الله تعالى ما جعل المشمش مشمشاً ، بل أوجده ، فإنّه لا معنى لأن تكون الإرادة جنساً ولا فصلاً للإنسان ، وقد وجّه كلامه بعض أعاظم تلاميذه بذكر مقدّمة ، وهي : أنّ الأعراض تارة تكون من أعراض الماهيّة ، واُخرى من أعراض الوجود ، وعلى الثاني إمّا تكون دائمة وإمّا تكون مفارقة ، وجعل العرض اللاّزم مطلقاً يكون بتبع جعل معروضه وليس له جعل مستقل ، بخلاف العرض المفارق فإنّه مجعول بجعل مستقل ، ثمّ طبّق ذلك على المقام وذكر أنّ الاختيار من عوارض الإنسان الغير المفارقة بخلاف العلم والشوق ، فالاختيار غير مجعول في الإنسان مستقلاًّ بخلاف العلم ، والفعل المتوقّف على هاتين المقدّمتين من حيث دخل العلم المجعول من الله تعالى فيه يكون مستنداً إليه ، ومن حيث توقّفه على الاختيار الذي ليس بمجعول مستقلاًّ يستند إلى الفاعل ، وهذا معنى الأمر بين أمرين . وهو غير تام صغرىً وكبرىً وتطبيقاً .

أمّا كبرىً فلأنّ تقسيم العارض بمعنى اللاّحق ، لا الانتزاع إلى عارض المهيّة والوجود وإن كان من الفلاسفة إلاّ أنّه غير تام ، فإنّ الماهيّة ليست بشيء أصلاً ، فهي ليست حرف فكيف يمكن أن يلحقها أمر آخر ، بل العرض دائماً يعرض الوجود ، غايته تارة يعرض كلاّ الوجودين الخارجي والذهني كالزوجيّة للأربعة مثلاً ، ويسمّى بلازم الماهيّة أيضاً ، واُخرى يعرض أحد الوجودين دون الآخر ، كالمعقولات الثانويّة والحرارة للنار .

وأمّا ما ذكره من أنّ العرض اللاّزم يكون مجعولاً بجعل المعروض .

ففيه : أنّه لا  ريب في تغاير العارض والمعروض وتعدّدهما خارجاً ، وأنّ كلاًّ منهما موجود]و[ له وجود خاص به ، وحيث إنّ الإيجاد والوجود متّحدان ذاتاً واختلافهما يكون بالاعتبار ، فكلّ وجود إيجاد لو قيس إلى فاعله ، فلا محالة يكون هناك إيجادان ويستحيل اتّحادهما .

ومع التنزّل عن ذلك  ، نقول : ما المراد من الاعتبار الذي جعله من العوارض الدائميّة ، وماالمراد من العلم الذي جعله مفارقاً ؟ فإن كان المراد من الاختيار قابلية الاختيار ، فجميع صفات الإنسان تكون كذلك ، فإنّ الكاتب بالقوّة والعالم بالقوّة والصانع بالقوّة ، تكون من لوازم الإنسان الغير المنفكّة عنه حتى عُرّف الإنسان في المنطق بالكاتب بالقوّة ، فما وجه الفرق بينهما ؟ وإن أراد من الاختيار ، الاختيار الفعلي الذي هو محلّ كلامنا فهو مفارق بالنسبة إلى الإنسان ، فإنّه ربّما يريد شرب الماء وربّما لا يريده ، فكيف يكون لازماً له ، وهو يتخلّف عنه .

هذا مضافاً إلى أنّا نسلّم جميع ما تقدّم ، ولكن نقول : لو كان هناك فعل مترتّب على مقدّمتين :

إحداهما : تكون مجعولة بجعل المولى تبعاً ، والاُخرى : تكون مجعولة بجعله استقلالاً ، فمع ذلك كيف يمكن أن يكون الفعل اختياريّاً مع أنّ كلتا مقدّمتيه كانتا بغير اختياره ؟ وهل هذا إلاّ مجرّد تسمية واصطلاحاً ، فالشبهة لا ترتفع بهذا التوجيه ، فدافع الشبهة منحصر بما ذكرناه واستفدناه من أئمّتنا(عليهم السلام) ، وهو الأمر بين الأمرين([2]) .

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر : الاحتجاج 2 : 82 .

[2] دراسات في علم الاُصول 1 : 166 ـ 169 .