لا ريب في أنّ العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته ، وأنّ وجود أيّ شيء في الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى ، فإن شاء أوجده وإن لم يشأ لم يوجده .
ولا ريب أيضاً في أنّ علم الله سبحانه قد تعلّق بالأشياء كلّها منذ الأزل ، وأنّ الأشياء بأجمعها كان لها تعيّن علمي([1]) في علم الله الأزلي ، وهذا التعيّن يعبّر عنه بـ «تقدير الله» تارة ، وبـ «قضائه» تارة اُخرى ، ولكنّ تقدير الله وعلمه سبحانه بالأشياء منذ الأزل لا يزاحم ولا ينافي قدرته تعالى عليها حين إيجادها ، فإنّ الممكن لا يزال منوطاً بتعلّق مشيئة الله بوجوده التي قد يعبّر عنها بالإختيار ، وقد يعبّر عنها بالإرادة ، فإن تعلّقت المشيئة به وجد وإلاّ لم يوجد .
والعلم الإلهي يتعلّق بالأشياء على واقعها من الإناطة بالمشيئة الإلهيّة ; لأنّ انكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء ، فإذا كان الواقع منوطاً بمشيئة الله تعالى كان العلم متعلّقاً به على هذه الحالة ، وإلاّ لم يكن العلم علماً به على وجهه ، وانكشافاً له على واقعه([2]) .
]و بعبارة اُخرى[ : لا شبهة في أنّ العالم بشتّى ألوانه وأشكاله تحت قدرة الله تعالى وسلطانه المطلق ، وأنّ وجود أي ممكن من الممكنات فيه منوط بمشيئته تعالى وإعمال قدرته ، فإن شاء أوجده وإن لم يشأ لم يوجده ، هذا من ناحية .
ومن ناحية اُخرى : إنّ الله سبحانه عالم بالأشياء بشتّى أنواعها وأشكالها من الأزل ، وأنّ لها بجميع أشكالها تعييناً علميّاً في علم الله الأزلي ، ويعبّر عن هذا التعيين بتقدير الله مرّة وبقضائه مرّة اُخرى .
ومن ناحية ثالثة : أنّ علمه تعالى بالأشياء منذ الأزل لا يوجب سلب قدرة الله تعالى واختياره عنها ; ضرورة أنّ حقيقة العلم بشيء الكشف عنه على واقعه الموضوعي ، من دون أن يوجب حدوث شيء فيه ، فالعلم الأزلي بالأشياء هو كشفها لديه تعالى على واقعها من الإناطة بمشيئة الله واختياره ، فلا يزيد انكشاف الشيء على واقع ذلك الشيء ، وقد فصّلنا الحديث من هذه الناحية في مبحث الجبر والتفويض بشكل موسّع ]كما سوف يأتي[ .
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث : هي أنّ معنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها أنّ الأشياء بجميع ضروبها كانت متعيّنة في العلم الإلهي منذ الأزل على ماهي عليه ، من أنّ وجودها معلّق على أن تتعلّق المشيئة الإلهيّة بها حسب اقتضاء الحكم والمصالح التي تختلف باختلاف الظروف والّتي يحيط بها العلم الإلهي([3]) .
]ثمّ[ إنّ علمه الذاتي وانكشاف أفعال العباد لديه جلّ شأنه قبل وجودها ـ وإن لم نعرف حقيقته بعد علمنا بأنّه ليس من قبيل الأعراض ـ لا ينافي صدورها عنهم باختيارهم خلافاً للمجبرة ; لأنّ العلم بالفعل ليس من مبادىء صدوره ، وإنّما يتعلّق به على واقعه ، فلو فرضنا ـ محالاً ـ عدم علمه بأفعالنا كيف كانت تصدر عنّا بعد علمه أيضاً كذلك ; لأنّه متعلّق بها على ما هي عليه واقعاً ، نظير المرآة، ونظير علمنا بصدور بعض الأفعال عن أنفسنا ، فليس للعلم أيّ دخل وتأثير في تحقّق الفعل أصلاً ، وكما لا يوجب علمه بأفعال العباد سلب قدرتهم واختيارهم ، كذلك لا يوجب علمه بأفعال نفسه سلب قدرته عنها ، كما قال عزّ شأنه (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)([4])([5]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تعيّن جميع الأشياء في العلم الأزلي الذي هو بمعنى تقدير الله لها وقضائه بها لا يوجب سلب قدرته عنها في ظرف وجودها وتعلّق مشيئته بها ; لأنّ انكشاف الشيء لايزيد على واقع ذلك الشيء ، ولا يغيّره عمّا عليه من كون وجوده منوطاً بالمشيئة والإرادة ، وإلاّ لزم الخُلف ، وأن لا يكون العلم بذلك الشيء علماً به على ما هو عليه ، فقدرة الله عزّ وجلّ وإناطة وجود الممكن بتعلّق مشيئته به لا تنقلب إلى العجز، واستغناء الممكن في وجوده بعلم الله في الأزل بما تتعلّق به مشيئته فيما بعدُ . أجود التقريرات 2 : 404 .
[2] البيان : 385 ـ 386 . أجود التقريرات 2 : 404 الهامش بألفاظ قريبة منه .
[3] مصباح الاُصول ج1 / القسم 2 : 554 ـ 555 ، المحاضرات 5 : 333 ـ 334 البيان : 386 .
[4] المائدة : 64 .
[5] دراسات في علم الاُصول 2 : 318 .
اكثر قراءة