من
حديقة الأخلاق
هذا
الفصل
قد
نجمع في هذا الفصل بين الحديث عن الشيء وضده، ولا قاسم ولا جامع
بينهما سوى اسم الأخلاق، وأنهما من هذه الشجرة وفروعها ومسائلها،
وقد تكلم القدامى عن الفضائل والرذائل، وجمع بينهما من ألّف في هذا
الفن في كتاب واحد، ولكنه تحدث عن كل فضيلة من الفضائل ورذيلة من
الرذائل في فصل مستقل.
وحديث
الفضائل والرذائل واحد ومطرد في كل كتاب قديم وُضع في الأخلاق، فكان
اللاحق يقتفي أثر السابق حتى كأن الأول قد بلغ الغاية والنهاية التي
لا شيء فوقها ووراءها. وقال فيلسوف معاصر ومؤلف شهير عن كتب القدامى
بوجه عام: ((اجترار من اجترار بعد اجترار.. هنالك هذه الألوف من
المجلدات التي لا تضيف حرفاً واحداً جديداً، فهي شروح، وشروح
للشروح، وتعليق، وتعليق على التعليق)).
أما
نحن فنعرض هنا ما نراه أهدى وأجدى، في فقرة خاصة، ونحاول جهد
المستطيع أن نكتفي من الحديث عنه بما يدركه القارئ مباشرة ويستجيب
له ويقتنع به تلقائياً من غير مقدمات وأقيسة منطقية تماماً كالحكمة
البديهية والحجة الواضحة البالغة، يستريح لها كل قلب وتركن اليها كل
نفس، ويؤمن بها كل عقل. وهو سبحانه المسئول أن يجعل أعمالنا موصولة
بأقوالنا.. ولا شيء أبعد من ذلك عن الإنسان إلا بمعونة الله
وتوفيقه.. وسلام على من قال: ((لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن
ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني)).
الصراحة شيمة الأقوياء
سألني
أحد طلابي في حلقة الدرس وقال: ما هي الغاية من علم الأخلاق؟ مع
العلم بأني كررتها مرات في الدروس السابقة. فقلت له: وبأسلوب أوضح
أن وظيفة هذا العلم تماماً كوظيفة (البلدية) هذه تقوم بتنظيف الأزقة
والشوارع من القذارة والزبالة، وعلم الأخلاق يهدف إلى تطهير القلب
من الرجس كالغش والحقد والحسد، وتنزيه اللسان عن الرجز كالفحش
والكذب والغيبة.. وأيضاً يسوغ لنا أن نقول: الغاية من العلوم صيانة
الآراء والمعتقدات من الجهل والخطأ، أما الغاية من الأخلاق فصيانة
السلوك والأفعال من الذنب والخطيئة.
وقد
يجمع الإنسان بين رذيلتي الخطأ والخطيئة معاً في فعل أو وصف واحد من
أفعاله أو صفاته كما لو جهل بجهله، ولم يتوقع الخطأ من نفسه، أو أصر
على ذنبه ولم يطع ناصحاً أو يستمع لعليم حكيم.. ولا دواء لأمثال هذا
إلا أن يعالج هو نفسه بنفسه، فيعرفها على حقيقتها ويعترف ويندم..
ولكن فضيلة الصراحة والاعتراف بالخطأ عن قناعة لا لمجرد الخلاص من
مشكلة ـ هي شيمة الأقوياء دون الضعفاء، ومن أخلاق العظماء دون
الصعاليك، قال فيلسوف من الغرب: ((الاعتذار هو أقصى مراتب النضوج
العقلي والعاطفي، فالعظيم يعتذر، ويشعر بأخطائه وهو في قمة النصر لا
في هوة الهزيمة)). أما العقاد فيقول: لا أحد يعترف بالنقص إلا أن
يريد التوصل للاشتهار بالكمال، أو يخشى أن يفشي أسراره عدوٌ له على
غير حقيقتها.
وقد
يرى المرء نفسه عبقرياً في مواهبه، وبحراً في علومه، ومع ذلك يمكن
أن نتقبله إلى حد محدود إذا كان عاقلاً في سلوكه، يتوقع الخطأ في
آرائه، ويتقبل النقد برحابة صدر، ولا يدعي علم ما يعجز عن إدراكه،
ولا ينكر ما يجهل.. وقد دلتنا التجارب أن العالم الحق كلما ازداد
علماً واتسعت آفاقه ازداد خوفه من أخطائه، وبالغ في التثبت من أدلة
أحكامه، وقررها على وجل من الله وعلى سبيل التقريب لا على الجزم
واليقين محتفظاً بخط الرجعة ومعتبراً بقوله تعالى: (وما أوتيتم من
العلم إلا قليلاً) (85 ـ الإسراء). وفي الخطبة 89 من خطب النهج فسر
الإمام(ع) الراسخين في العلم بأنهم الذين يميزون بين ما يعلمون وما
لا يعلمون، ويقفون عند ما حُجب عن علمهم.
وبعد،
فلا أحد أكثر حمقاً واثماً ممن يرى جهله علماً، وسفهه حلماً، وقد
وصف سبحانه هذا النوع من الناس بقوله: (ويحسبون أنهم على شيء ألا
إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب
الشيطان إلا أن حزب الشيطان هم الخاسرون) (19 ـ المجادلة). وما
أدراني وأدراك أيها القارئ أني أنا وأنت من الذين يحسبون أنهم على
شيء وهم الكاذبون والخاسرون؟ ـ دون أن نحس ذلك من أنفسنا، ألسنا من
بني الإنسان؟ وإذا ساغ هذا في حق زيد وعمرو يسوغ أيضاً في كل الناس،
وأي عاقل أو مسلم يجرأ أو يدعي أنه غير مقصود بقوله تعالى: (ان
الشيطان للإنسان عدو مبين) وبقوله: (ان النفس لأمارة
بالسوء)؟.
بين
العاقل والطائش
قد
يرجو الإنسان ويرغب من أعماقه أن يعيش ويحيا في دنياه بلا مشكلات
ومزعجات.. وصاحب هذا الرجاء هو الذي عناه الشاعر بقوله: (متطلب في
الماء جذوة نار) ولكن من المجرب والمؤكد أن العاقل الحصيف يستطيع
بحكمته أن يتفادى العديد من المتاعب والنوائب قبل حدوثها، وأيضاً
يستطيع بصبره ورويته أن يعالج ما يحدث منها، ويخفف من حدته
ووطأته.
والعكس
بالعكس، فان الطائش الأحمق يجر البلاء لنفسه بيده، ويشرب السم من
رأسه، فالمصدر الوحيد لمعرفة الحقائق عنده هو ما يدور في توهمه
وتخيله، أما عالم الخارج والواقع في نظره فهو وهم وخيال. مثلاً ـ
يتخيل الأحمق ويتصور أن فلان الفلاني يزدريه ويحتقره، وأنه يضمر له
كل سوء وشر، فيبني على خياله هذا خطوطاً للدفاع، ويعد العدة للهجوم
منصرفاً بكله لمنازلة عدوه الموهوم! كل هذا وفلان الفلاني في شغل
شاغل عنه، بل لم يخطر بباله على الاطلاق!. والخسران المبين هو مصير
الذين يحكمون بالتهمة، ويجزمون بالظنة.
ويغني
عن كل ما قيل ويقال في الأحمق، ما رواه صاحب سفينة البحار عن الإمام
السجاد وسيد العباد(ع): ((ان تكلم الأحمق فضحه حمقه، وان سكت قصّر
به عيه، وان عمل أفسد، وان استُرعي أضاع، لا عمله من نفسه يغنيه،
ولا علم غيره ينفعه، ولا يطيع ناصحه، ولا يستريح مقارنه، تود أمه لو
ثكلته، وأمرأته لو فقدته، وجاره لو بَعُد داره، وجليسه لو كان وحده.
ان كان أصغر من في المجلس أعيا من فوقه، وان كان أكبر أفسد من
دونه)).
من
التجربة والقراءة
دلتنا
التجارب أن ما يسميه الناس مشكلة وما أشبه ينقسم إلى نوعين: الأول
مشكلة ونائبة حقاً وواقعاً كالجوع والمرض، فالمعدة تطلب الطعام
والغذاء، والمرض يطلب العلاج والدواء، ولا يجدي الدعاء هنا والتسكين
مهما تكلف الإنسان وتصوف.
النوع
الثاني من المسمى بمشكلة يتكيف تبعاً لنظرة الإنسان وتصرفه، ومثال
ذلك أن يسمع كلمة خبيثة من سفيه، فإن اهتم بها السامع وثار فقد
أعطاها شأناً ووزناً، وإن تجاهلها ذهبت مع الريح كأنها لم تكن.. مر
الفيلسوف اليوناني انكساغورس بأرعن فشتمه، فأعرض عنه. فقيل له: لم
لا تمتعض من كلامه؟. قال: لأني لا أتوقع أن أسمع من الغراب تغريد
البلابل.
الرياء
لكل
فرد من بني الإنسان مزاجه وعالمه الخاص به وحده، وآراؤه ومعتقداته
التي ارتضاها لنفسه، وظروفه وقدراته التي ينفرد بها دون غيره.. هذا
إلى مخبآت يفاجأ بها كل إنسان على حين غفلة، ويستجيب لها تلقائياً
وبلا تصميم سابق.. فأي سلوك أو موقف أو قرار يصدر من الإنسان تلبية
لشيء من ذلك ـ فما هو من الرياء في شيء، لأنه يخص الفرد وحده وتجاوب
طبيعي مع حياته وظروفه الخاصة، حتى ولو بدا هذا التجاوب في صورة
الاختيار. قال أرسطو المشهور بالمعلم الأول: ((الإنسان مضطر في صورة
مختار ـ كتاب صوان الحكمة)).
وعليه
فان المراد بالرياء الذي نتحدث عنه هنا، ليس أثراً للحياة الطبيعية،
ولا للعقل والوجدان، ولا للإكراه والاضطرار، وإنما هو طلب للدنيا
باسم الدين عن قصد وتصميم ينبع من ذات المرائي، ظاهره الصدق
والإخلاص، والنزاهة والبراءة، وباطنه الكذب والنفاق، والمكر
والخداع، والتدليس والتلبيس.
قال
العقاد في كتاب خلاصة اليومية: ما رأيت مرائياً إلا وجدته مغتاباً
نماماً. والجرأة على الناس في غيبتهم كالتزلف اليهم في حضرتهم،
كلاهما علامة الجبن والصغار.
وفي
آخر المجلد الأول من كتاب المتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي ما
معناه لا أحد أخسر صفقة، وأكثر ضعة من رجل يتسم بسمة الدين والصلاح،
وهو في واقعه قد باع دينه للشيطان بالرفعة عند العوام والعيش على
فتاتهم وأوساخهم... وما تملق لهم أحد إلا وأعطاهم من نفسه ودينه،
وعلمه وعقله أكثر مما أخذ من مال واحترام.
وفي
المجلد الأول من (في ظلال نهج البلاغة) قلت في تفسير ((ومنهم من طلب
الدنيا بعمل الآخرة)): يشير الإمام(ع) بهذا إلى المرائين الذين
يحتلبون الدنيا بالدين!. ولست أشك في أن المومس التي تبيع جسدها،
وتعيش على فرجها أشرف من المرائي الذي يتاجر بالدين، وأقرب منه إلى
الله.. انها تاجرت بمخرج البول، وتاجر هو بقدس الأقداس الذي تستميت
الأنبياء والأولياء في سبيله.. وأيضاً هي لا تغش ولا تكذب في مهنتها
وتجارتها، وتظهر للناس عارية، ولا تطلب الإجلال والإحترام من أحد،
بل تشعر بضعتها واحتقار الناس لها، أما المرائي الذي يتاجر بالدين
فقد خدع ونافق في مظهره والستر على عيوبه، ومع هذا يطلب من الناس
الاحترام والتقدير!.
السكينة
السكينة صفة للنفس والقلب، قال
سبحانه (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) (4 ـ الفتح). وقال:
(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) (27 ـ الفجر).
السكينة السكون، ومعناه الهدوء والقرار إلا أن كلمة (السكينة) تُعطي
هذا المعنى، وتوحي أيضاً بالسبب الموجب للهدوء والقرار، وهو الأمن
والأمان، والرضا والاطمئنان، أما الأسباب الموجبة للسكينة فهي
كالآتي:
اليأس
1 ـ
اليأس، قال الإمام أمير المؤمنين(ع): ((اليأس احدى الراحتين)).
ولكنه مع هذه الراحة لا يوصف من حيث هو بخير أو بشرّ، بل يختلف
تبعاً للمأيوس منه، فإن يئس المرء مما في أيدي الناس ثقةً بالله
وبالجد والسعي، يكون اليأس، وهذي هي الحال، خيراً وفضيلة، وان يئس
من روح الله ورحمته ـ نستعيذ بالله يكون ذلك شراً ورذيلة.
وفي
نهج البلاغة: ((الغنى الأكبر اليأس مما في أيدي الناس)).
واليائس من الناس هو الذي يتكل
على الله وكد اليمين وعرق الجبين. وأيضاً في نهج البلاغة: ((الفقيه
كل الفقيه من لم يُقنّط الناس من رحمة الله، ولم يوئسهم من روح
الله، ولم يؤمنهم من مكر الله). وفي سفينة البحار عن النبي(ص) أن
رجلاً أقسم بأن الله سبحانه لا يغفر لفلان!. فقال الله، عظمت كلمته:
لقد غفرت لفلان، وأحبطت عملك بقولك: لا أغفر لفلان.
ولا
أدري كيف تجرأ هذا وأمثاله أن يخلعوا ما فيهم من لؤم ورجز على إرادة
الله ـ تعالى علواً كبيراً ـ وأي فرق بين هؤلاء وبين الذين جعلوا
لله صاحبة وولداً!.
القناعة
2 ـ
القناعة، قال الإمام(ع): ((كفى بالقناعة ملكاً... القناعة مال لا
يفنى)). والمراد بالملك هنا الرضا بما قسم وحصل.. ورُوي أن رجلاً من
خدمة الملك قال لسقراط حين رآه يأكل الحشيش: لو خدمت الملك ما احتجت
هذا الحشيش. فقال له سقراط: وأنت لو أكلت الحشيش ما احتجت إلى خدمة
الملك. وكتب إليه آخر يعيبه بمأكله، فكتب في جوابه: أنت تعيش لتأكل،
وأنا آكل لأعيش.
وما من
شك أن القانع أبعد الناس عن الحسد والمطامع كما هو المفروض من خُلقه
وإلا لم يكن من القانعين، والوقاية من داء الحسد والطمع سكينة
وعافية، قال الإمام(ع): ((صحة الجسد من قلة الحسد)) أما الطمع
فصاحبه طول حياته هائم وحائر: كيف يجمع ويدخر.
وقالوا
في الفرق بين الغبطة والحسد: ان الغبطة أن تتمنى لنفسك مثل ما عند
صاحبك من نعمة دون أن تزول عنه، والحسد أن تتمنى زوال النعمة عنه
وإن لم يصل إليك منها شيء.. ومعنى هذا أن الحاسد لا يطمع في أن
يساوي الرفيع في مكانته، والغني في ثروته، والعالم في معرفته، وإنما
يريد أن يهوي الرفيع إلى ضعته، والغني إلى بؤسه، والعارف إلى
جهله!.
وهنا
معدن اللؤم والخسة، والخبث والدناءة. وهناك رجل وادع ومسالم للناس،
كل الناس، يتمنى الخير لك ولهم، تود هلاكه والتنكيل به لا لشيء إلا
لأن الله آتاه من فضله جزاء لجهده وشكره!. نافسه في الخير ان كنت
رجلاً، فان التسابق والتنافس في الخير خير، قال رسول الله(ص):
((المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط)). وقال سبحانه:
(وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) (26 ـ المطففين).
ومن
الدروس التي ألقيت علينا في النجف الأشرف قول المبعوث لتتميم مكارم
الأخلاق: ((إذا حسدت فلا تبغ)).
وسمعنا
وقرأنا في شرحه أن الله سبحانه لا ينهى عما يدور في خاطر الإنسان من
ميول هوجاء وأفكار سوداء لأن ذلك تكليف بما لا يطاق، وأنما ينهاه عن
الاسترسال مع هذه الميول والافكار، ويأمره بالكف عن آثارها، وأن
يتكلف الصبر عليها، ويتجاهلها حتى كأنها لم تكن.
الايمان
3 ـ
الإيمان، وقبل الإشارة إلى ثمره وأثره نمهد بالفرق بين المؤمن
والملحد بلا تطويل وتحليل.. يعتقد الملحد بأن الطبيعة العمياء ألقت
به في هذا الوجود من غير قصد أو هدف، وأنه غير مسئول عن شيء أمام
أية قوة أو سلطة فوق الكون والبشر، بل لا مبرر لوجوده على الإطلاق،
وأن قائده ورائده معدته وكسوته، وبيته وزوجته، لا يقع عليه أي عبء
إلا أن يعمل من أجل ذلك، ويترك الناس وما يشتهون.. وبكلمة إن
الإنسان في نظر الملحد هو الحيوان الملزم بالعمل لحياته في هذه
الدنيا ومعاشه ولا واجبات وراء ذلك ومسئوليات حيث يذهب بالموت إلى
فناء أبدي، لا بعث ولا ثواب على حسنة ولا عقاب على سيئة!.
أما
المؤمن فيعتقد بأن الله القدير العليم والغني الحكيم هو الذي خلقه
وأوجده لغاية تسمو به عن اللغو والعبث، وهي أن يعطي الإنسان لهذا
الكون قيمته، ويظهر حقيقته، واودع فيه كل الطاقات المؤهلات لهذه
المهمة، وبها كرّمه سبحانه وفضّله على كثير من خلقه، وخصه بشريعة
كاملة وافية، يعمل في ضوئها لبلوغ الغاية من وجوده، وتُعدّه لعالم
الأبد والخلود، للملك الدائم، والنعيم القائم إن هو امتثل وأطاع،
ولعذاب الحميم ان تمرد وعاند. وبكلمة إن المؤمن يعتصم بقائد أعلى لا
يحيد به عن صراط الخير والنجاة إن أسلس القياد والزمام لمولاه، ومن
هنا كان المؤمن على بصيرة من أمره وبينة من مصيره، لا قلق ولا ضياع،
بل هدوء وسكينة في كل حالاته وأطواره بنص القرآن الكريم: (أولئك كتب
في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) (22 ـ المجادلة). (ان الإنسان
خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين)
(22 ـ المعارج) والمراد بالمصلين هنا المؤمنون المعتصمون بالله
أبداً ودائماً في السراء والضراء.
أما
الملحد فهو في غربة وحيرة، لأنه ـ كما هو الفرض عنده ـ قد انتهى
بتفكيره إلى أن الوجود لا معنى له، وان الإنسان قُذف فيه صدفة
وعبثاً!. وعليه فإلى أي شيء يطمئن الملحد ويلجأ؟.
وقرأت
الكثير عن صفات التائه الحائر، وأول ما تبادر إلى ذهني أنها صفات من
كفر وألحد، ومن تلك الصفات (أنه سجين نفسه يبحث عن مكان في هذه
الحياة فلا يجده، فيحز الألم في نفسه، ويتعاطى المخدرات أو الانتحار
ـ مجلة عالم الفكر، العدد الأول من المجلد الأول ص 16). وفي صفحة 36
وما بعدها من هذه المجلة قال البير كامي: ((أن الانتحار يعني بكل
بساطة الاعتراف بأن الحياة لا تستحق أن تعاش)). وفي مجلة العربي
العدد 191 ص 20: ((ذهب كثير من علماء النفس والاجتماع إلى أن أغلب
المشكلات التي يعانيها الناس أفراداً وجماعات ـ ترجع إلى احساس
الفرد بعدم الإنتماء (أي إلى دين وعقيدة) وشعوره بالحيرة
والضياع)).
هذي هي
بالذات حياة الملحد في احساسه وبينه وبين نفسه: اهتزار واضطراب،
وغربة وحيرة، وفراغ وضياع، والعلاج الوحيد سموم تخدّر أو انتحار
يدمّر، أما حياة المؤمن مع نفسه فسلم وانسجام، وراحة
واطمئنان.
من
أصول المناظرة
من
أصول المناظرة
للمناظرة أصول، منها أن يلتزم
المناظر صفة التجرد، ويقف موقف الحياد، لا يتعصب ولا يتحامل أو
يبالغ ويهوّل، ولا يغش ويضلل أو يستجيب لميل أو هوى، ولا يتقصد
المباهاة وعرض العضلات أو يتخذ من نفسه معصوماً (الراد عليه راد على
الله) أو أستاذاً يلقي الدروس على تلاميذه.
وان
قال قائل: هذا محال ومجرد خيال. ومن الذي يستطيع أن ينسلخ من ذاته
وعاطفته، وحبه وكراهيته؟. قلنا في جوابه أجل، لا أحد يستطيع أن لا
يحب ولا يكره، وإن حرص وبالغ،
ولكن
في مقدوره وطاقته أن يزم عطفه وهواه، ولا ينطلق معه من غير فكر
وروية تماماً كمن يقهر طبعه على ترك الأكل أو الجنس ـ وهو أقدر
الناس عليه وأحوجهم إليه ـ لغاية تدعو إلى ذلك، وكالذي يبتلع غيظه
تحلماً لا حلماً أو يخمد حسده بدينه وعقله.
ومنها
أن يكون المناظر على علم بالقضية التي يناقشها ويناظرها لأن الجهل
لا يكون مصدراً للعلم، قال فيلسوف يوناني قديم: مناظرة العالم
بالجهل كمناظرة الجاهل بالعلم. وقال قوم نوح لنبيهم وهو يحاورهم:
(إنا لنراك في ظلال مبين) (60 ـ الأعراف) وقال قوم هود لهود (إنا
لنراك في سفاهة) (66 ـ الأعراف) وقال مشركو مكة لنبي العقل والعدل
والرحمة: (يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون) (6 ـ الحجر).
ولا برهان بعد هذا الكلام إلا الصواعق أو الحسام.
أنا
والمناظرة
ومنذ
أكثر من خمسين عاماً ـ وبالضبط من سنة 1925م ـ وأنا مع المجادلات
والمناظرات دراسة وتدريساً وقراءة وكتابة ومذاكرة.. درست النحو
والمنطق والمعاني والبيان في الكتب القديمة، ثم الفقه وأصول الفقه،
وكلها متخمة بـ (ان قلت قلت) وكان الأستاذ، ألبسه الله من ثياب
الجنان، لا يكتفي بنقاش الماتن والشارح والمحشي والمعلق حتى يجهد
نفسه، ويعصر فكره، ويضيف إلى نقاشهم كل ما يمر بخياله لا لشيء إلا
ليدلي بدلوه بين دلاء العلماء.. ووعاء العلم لا يضيق بما جعل فيه
خاصة علم النجفيين والأزهريين.
ثم
تركت الأستاذ والنجف إلى لبنان، ولكن بقيت في دنيا النقاش والحوار
في الكتب والأسفار فقهاً وأصولاً وفلسفة وكلاماً، مطالعة وتأليفاً،
ووقفت طويلاً مع المشككين من شباب العصر، والمتعصبين من خصوم
الشيعة، والخائنين من عملاء الصهيونية والاستعمار.. وانتهى المطاف
بشعوري وإحساسي إلى التقدير والاحترام لمن يجادلني ويناظرني إذا
تجاوب عقلي مع حجته ودليله، أو تجاوب عقله مع حجتي ودليلي، أو
اضطرني إلى المراجعة واعادة النظر فيما كنت قد ارتضيته وآمنت به،
وإلا شفيت غيظي منه بتجاهلي له.
ومن لا
يبتغي من النقاش إلا الظهور وعرض العضلات فهو بالوحش أشبه، ومن يقطع
الطريق على صاحبه بكلام تافه وباهت مثل هذا فهو أحمق، ولماذا هو
مخطئ وغيره مصيب، وكل ما يجري على أحدهما يجري على الآخر مع العلم
بأن كلاً منهما من أولاد الذي أكل من الشجرة المعلومة؟. قيل
لأينشتين: إن الفيلسوف الفلاني يرفض نظريتك. قال: هو على حق لأن
النسبية العامة لا تعرف على حقيقتها إلا بعد سنوات. وهذا هو منطق
العلماء حقاً وصدقاً، وشأن الأقوياء الواثقين من أنفسهم.
وكفى
بربك عالماً وهادياً، فلقد قال سبحانه للذين اتخذوا مع الله إلهاً
آخر: هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين. وقال عن الذين يعبدون العديد من
الآلهة: لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن.. وهذا هو الأسلوب العلمي
والوحيد في كل المناقشات التي تهدف إلى تسوية الخلافات بصورة سلمية،
أما فلتات اللسان أثناء الجدال والنقاش فهي تماماً كتناطح
الثيران.
وضمني
مجلس مع جماعة من الاخوان، فطرح أحدهم للبحث مسألة فقهية، وما إن
أبدى شيخ من الشيوخ رأيه حتى تصدى له شيخ آخر وقال: هذا خطأ!.
فأجابه صاحب الرأي: لو كنت
من أهل
العلم بكتاب الله لقلت كما قال سبحانه: (هاتوا برهانكم إن كنتم
صادقين) (11 ـ البقرة).
وجرت
مذاكرة علمية في مجلس ثان، وأصر أحدنا على رأيه، فقال له عالم
متمكن: المرجو أن تراجع المسألة من جديد، وتعيد فيها النظر. فقال له
صاحبه: سأفعل لأن قولك هذا هو قول الحق والفصل.
وبعد،
فان الجدال والنقاش محك للإنسان في جبلته وأخلاقه كما أنه المختبر
لعلمه وعقله.. ولكن العالم أحوج إلى الأخلاق من الجاهل إلى العلم،
فمهما انحرف أهل الجهل في سلوكهم فهم أيسر وأهون على الإنسانية
مليون مرة من أصحاب الأدمغة الذين اخترعوا ويخترعون أسلحة الفناء
والإبادة.
الصفح
كل
إنسان يشعر بالمقت والكراهية لمن أساء إليه بطبيعة الحال، ولكن
الغيظ إذا استمر تفاقم وارتد أثره على صاحبه المعتدى عليه لا على
المعتدي حيث يقلق راحته، وينغّص عيشه، ويذهب بتوازنه، ومعنى هذا أنه
قد أساء إلى نفسه بنفسه.. ولا سبيل للخلاص من هذا الشعور المدمر إلا
التناسي والصفح، لأنه إن أعلن الحرب على المسيء ولم ينتصف منه
لعجزه، عظم الخطب، واتسع الخرق، وشاع الفشل، وتشجع المسيء، وشمت
العدو، وعتب الصديق.
وان
انتصر عليه فاتته فضيلة الصفح والحلم، بعد أن سنحت الفرصة لها ولم
ينتهزها. وروي أن فيثاغورس الفيلسوف الكبير أساء إليه خادمه فضحك،
ولما سئل عن ذلك قال: لقد مهد لي السبيل إلى الصبر والحلم. وقال
الإمام أمير المؤمنين(ع): ((متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن
الانتقام؟ فيقال لي: لو صبرت، أو حين أقدر فيقال لي: لو غفرت)).
وأيضاً قال: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة
عليه.
وقال
سبحانه: (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فان الله غفور رحيم) (4 ـ
التغابن) والمراد واحد من العفو والصفح والمغفرة، والقصد من هذا
الترادف، التوكيد والترغيب والتنبيه إلى أن الله تعالى يرحم من رحم
ويعفو عمن عفا.. وليس الصفح عن المسيء بالأمر اليسير على أبناء آدم
إلا أن يكون ذا عقل كبير، وخلق عظيم.. والعديد من الفلاسفة وعلماء
النفس يعتبرون الصفح والتسامح أساساً من أسس الحياة الاجتماعية
تماماً كالتضامن والتعاون. والبديهة تشهد بهذه الحقيقة.
المعاملة
اشتهر
عن الرسول الأعظم(ص) أنه قال: ((الدين المعاملة)) وإذا عطفنا على
قوله هذا حديث (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ساغ لنا أن نقول: مكارم
الأخلاق هي المعاملة، ويكون معنى الحديثين معاً أنه لا دين ولا
أخلاق لمن أساء أو يسيء في معاملته مع أي إنسان كان ويكون.
وقد
شاهدنا بالحس والعيان أن الصدق والوفاء رصيد ضخم وثروة كبرى في
الحياة الدنيا قبل الآخرة، فكم من صادق مخلص سعت إليه الرياسة دون
ان يسعى اليها، وتغلب على أنداده وحساده، وأصبح له صوت مسموع بطيب
السريرة وحسن السيرة والعديد من تجار الشرق
والغرب
يتجنبون الغش والخيانة، ويلتزمون النصح والأمانة لا لشيء إلا لأنهما
متجر رابح.
وقد
يقول معترض: ان هذا ليس من الأخلاق في شيء لأن صاحب الاخلاق الكريمة
يتصرف بوحي من قلبه وضميره لا بدافع من جيبه ومعدته.
الجواب:
أجل،
ليس ذلك من الأخلاق بالنسبة إلى هذا التاجر بالخصوص، ولكن النصح في
المعاملة حسن وراجح في ذاته، والغش قبيح ومكروه بالطبع، والمفروض أن
هذا التاجر صدق ولم يخدع، فيخرج، وهذي حاله، عن العهدة والمسئولية،
ولذا لا يجد في صدره أي حرج من قول قائل: أنت تتاجر بالصدق، بل قد
يعلن ذلك صراحة عن نفسه ولا يستحي منه.
وبعد،
فان المعاملة الحسنة هي كل شيء ديناً وأخلاقاً، ودنيا وآخرة، أما من
يعامل الناس بالغش والكذب والخداع فهو أخزى من الخزي لأنه في صورة
إنسان وهو في سلوكه وتصرفه ضد الله والإنسانية، هو مزيج من الغدر
والاغتيال، والمكر والاحتيال، ومن كانت هذه حقيقته فعاقبته إلى وبال
لا محالة.
التفكير في الرأس واليد
قال
الإمام أمير المؤمنين(ع) في وصيته لولده الإمام الحسن (ع): ((من
كانت مطيته الليل والنهار فانه يسار به وان كان وافقاً، ويقطع
المسافة وان كان مقيماً وادعاً)) وفي الخطبة 186 من خطب النهج: ((ما
أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في
السنة، وأسرع السنين في العمر)).
ومعنى
هذا أن العمر هو الساعات، وما من شك أنه لا شيء أغلى من العمر
وأثمن، ولو كان يباع لاشتراه أهل الثراء بكل ثمن.. ولا غرابة في ذلك
فكلنا يحب الحياة، ومكان الغرابة أن يفرط أحدنا في ساعات عمره، ثم
يحرص على فلسه وقرشه!.. ومن الحكم البالغة: ((الليل والنهار يعملان
فيك فاعمل فيهما)). لو بحثنا عن السر لفشل الفاشلين في هذه الحياة
لألفيناه الكسل وعدم الصبر على الأتعاب والصعاب.
ان
الحياة تتطلب الحركة بطبيعتها، والإنسان الحي بعزمه وثباته أقوى
مخلوق على الحركة والعمل، يقهر الصعاب بارادته وعقله، ويبني
الحضارات بنشاطه وعضلاته، ويتقبل القيم والمثل الإنسانية بضميره
وفطرته، أما الرجل الساكن الجامد فيتخاذل ويتكاسل، ويتكلف الثرثرة
في انتحال الأعذار، ويلقي التبعة والمسئولية على الحظ
والأقدار.
وبعد،
فلا جدوى من العلم والعقل ما لم تتحرك اليد وتعمل، ومتى عملت شقت
الطريق إلى الفوز والنجاح، والعمل يفتح آفاقاً جديدة إلى علوم كثيرة
ومفيدة. وقرأت من جملة ما قرأت: ((ان التجربة لتشهد بأن اليد ذاتها
عاقلة حاسة ملهمة، وليس من النادر أن يقال عن بعض أصحاب المهارات
انهم يملكون الذكاء في أطراف أصابعهم.. إن ثمة أناساً كثيرين قادرون
على التفكير في أيديهم)(1).
وقيل:
ان هذا يختص بالفن والرسم فقط.. وما من شك أنه أكثر انطباقاً على
الفن وخاصة الرسم، ولكن يصح أيضاً أن يكون كناية أو اشارة إلى الصلة
الوثيقة ين العلم والعمل، وانها تماماً كالصلة بين العين والرؤية
(أنظر فصل حول الأخلاق فقرة علم الأخلاق منه نظري ومنه عملي من هذا
الكتاب).
وعلى
أية حال ومقال فان الحجر الجامد خير من العاطل المهمل، لأن الحجر لا
يستهلك شيئاً، وقد ينتفع به، أما الكسول المخنث فانه يستهلك ولا
ينتج، وينتفع ولا ينفع اطلاقاً، ومن كان كذلك فموته خير من حياته،
وعدمه خير من وجوده.
من
أخلاق أهل البيت(عليهم السلام)