akdak

المقالات

قسم الأدب و اللغة

أدوات الكتابة في الجاهلية

2138

ناصر الدين الأسد


:أدوات الكتابة في الجاهلية

سيتناول حديثنا عن أدوات الكتابة ثلاث نقط؛ الأولى: المواد التي كانوا يكتبون عليها، والثانية: المواد التي كانوا يكتبون بها، والثالثة. أنواع كتابتهم.
أما المواد التي كانوا يكتبون عليها فضروب شتى؛ منها:
الجلد: وكانوا يسمونه: "الرق" و"الأديم" و"القضيم". والفرق بينها غير واضح من النصوص والروايات نفسها، ولكن المعاجم تجعل "الرق": الجلد الرقيق الذي يسوَّى ويرقق ويكتب عليه؛ وتجعل "الأديم": الجلد الأحمر أو المدبوغ؛ وتجعل القضيم: الجلد الأبيض يكتب فيه. وقد ورد ذكرها كلها في الشعر الجاهلي.
ففي الرق: قول طرفة(1):
كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشمه
وقول معقل بن خويلد الهذلي(2):
وإني كما قال مملي الكتا ... ب في الرق إذ خطه الكاتب
وقول الأخنس بن شهاب التغلبي(3):
(1/77)

لابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب
وقول حاتم الطائي(4):
أتعرف أطلالًا ونؤيًا مهدمًا ... كخطك في رق كتابًا منمنما
وقد جاء ذكر "الرق" في القرآن الكريم، قال تعالى(5):
{وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} .
وفي "الأديم": يقول المرقش الأكبر(6):
الدار وحش والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم
وقد ورد ذكر الأديم فيما رُوي لنا من كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم: "عن رافع بن خديج ... فإن المدينة حرام، حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مكتوب عندنا في أديم خولاني"(7). وذكر ابن سعد(8) أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع العباس السلمي ركية بالدثينة، قال أبو الأزهر: وكان نائل -حفيد العباس السلمي- نازلًا بالدثينة وكان أميرهم، فأخرج إليَّ حقةً فيها كراع من أدم أحمر فكان فيه ما أقطعه. وكانوا يكتبون الوحي في زمن رسول الله على الأديم "قال عثمان: ... فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به،
(1/78)

وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن ... (9)، وذكر عمر بن الخطاب أنه انتسخ -على عهد رسول الله- كتابًا من أهل الكتاب ثم جاء به في أديم(10). وكذلك كتب سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص دينًا على نفسه في قطعة أديم ابتغاها عند خراز قريب من بيته(11).
وفي القضيم: يقول النابغة الذبياني(12):
كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع
وقد ذكر شارح الديوان الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب أن القضيم هو الأديم المحروز، ثم قال إن القتني قال: القضيمة: الصحيفة البيضاء تقطع ثم ينقش بها النطع.
ويقول امرؤ القيس(13):
وعادى عداء بين ثور ونعجة ... وبين شبوب كالقضيمة قرهب
ويقول زهير(14):
كأن دماء المؤسدات بنحرها ... أطبة صرف في قضيم مسرد
والقضيم: الجلد الأبيض، فلعله شبه طرائق الدم بنحرها بطرائق جلد أبيض مكتوب عليه أو منقوش عليه باللون الأحمر.
وقد ورد أن الوحي كان يكتب لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على
(1/79)

القضم، قال الزهري: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في العسب والقضم والكرانيف(15).
قال الزمخشري في تفسير الكلمة: القضم جمع قضيم، وهي جلود بيض، ثم استشهد ببيت النابغة الذي ذكرناه.
وربما كتبوا على جلد لم يعد للكتابة، وإنما تلجئهم الحاجة الملحة إلى أن يكتبوا عليه، قال سعيد بن جبير "كان ابن عباس يملي عليَّ في الصحيفة حتى أملأها وأكتب في نعلي حتى أملأها"(16).
-2-
القماش: وهو إما حرير وإما قطن، ويطلقون على الصحف إذا كانت من القماش: المهارق، مفردها: المهرق. قال الأصمعي(17) "هو فارسي معرب، وكان أصله خرق حرير تصقل وتكتب فيها الأعاجم، تسمى: مهركرد، فأعربته العرب وجعلته اسمًا واحدًا فقالوا: مهرق ... وقال الأصمعي أيضًا المهارق: كرابيس كانت تصقل بالخرز ويكتب فيها، فأراد: مهركرد، أي: صقل به". والكرابيس جمع كرباس -بالكسر-: ثوب من القطن الأبيض، معرب، فارسيته بالفتح(18).
وقال التبريزي(19): "المهارق: الصحف، واحدها: مهرق، فارسي معرب، خرزة يصقلون ثيابًا كان الناس يكتبون فيها قبل أن يصنع
(1/80)

القراطيس بالعراق"، وقال الزوزني(20): "المهارق: يأخذون الخرقة ويطلونها بشيء ثم يصقلونها ثم يكتبون عليها شيئًا". وقال ابن السكيت(21):
"المهرق: ثوب جديد أبيض يُسقى الصمغ ويصقل ثم يكتب فيه".
ويبدو لنا أن هذا الضرب من مواد الكتابة يحتاج إلى إعداد خاص فكان عزيزًا نادرًا غالي الثمن، ولذلك كانوا لا يكتبون فيه إلا الجليل من الأمر، قال الجاحظ(22): "لا يقال للكتب مهارق حتى تكون كتب دين أو كتب عهود وميثاق وأمان".
وقد ورد ذكر المهارق في الشعر الجاهلي، فمن ذلك ما ذكرناه من بيتي الحارث بن حلزة في معلقته:
واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدم فيه، العهود والكفلاء
حذر الجور والتعدي، وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء
وقال الحارث أيضًا(23):
لمن الديار عفون بالحبس ... آياتها كمهارق الفرس
وقال الأعشى(24):
ربي كريم لا يكدر نعمة ... وإذا يناشد بالمهارق أنشدا
وقال الأعشى أيضًا(25):
(1/81)

سلا دار ليلى: هل تبين فتنطق ... وأني ترد القول بيضاء سملق
وأني ترد القول دار كأنها ... لطول بلاها والتقادم مهرق
وقال شتيم بن خويلد الفزاري(26):
تسمع أصوات كدري الفراخ به ... مثل الأعاجم تُغشي المهرق القلما
وقال الأسود بن يعفر:
سطور يهوديين في مهرقيهما ... مجيدين من تيماء أو أهل مدين
وقال سلامة بن جندل(27):
لبس الروماس والجديد بلاهما ... فتركن مثل المهرق الأخلاق.
وقال سلامة أيضًا(28):
لمن طلل مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصليب فمطرق
أكب عليه كاتب بدواته ... وحادثه في العين جدة مهرق
-3-
النبات، وأشهر أنواعه: العسيب، وجمعه: عُسُب -بضمتين- وهو السعفة أو جريدة النخل إذا يبست وكشط خوصها، فمن الشعر الجاهلي الذي ورد فيه ذكر العسيب قول لبيد يصف كاتبًا(29):
(1/82)

متعود لحن يعيد بكفه ... قلما على عسب ذبلن وبان
وقول امرئ القيس(30):
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط الزبور في العسيب اليماني
وقريب من العسيب: الكرنافة، وجمعها: كرانيف، وهي أصول السعف الغلاظ العراض اللاصقة بالجذع(31). وقد ورد أن الوحي كان يكتب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على العسب والكرانيف(32).
ومما يتصل بهذا الكتابة على الخشب، والخشب على أنواع أيضًا، منه: الرحل: قال زيد بن ثابت: فاتبعت أجمع القرآن من الرقاع والأكتاف والأقتاب ... (33). فالأقتاب: جمع قتب -بفتحتين أو بكسر فسكون- وهو الإكاف الصغير على قدر سنام البعير.
وقد رُوي لنا أيضًا أن المرقش بن سعد بن مالك كتب على رحل أبياتًا من شعره(34). وقد استمر الرحل أداة من أدوات الكتابة في صدر الإسلام، فهذا سعد بن سعد، بن مالك -هو أنصاري شهد بدرًا- أوصى للنبي صلى الله عليه وسلم فكتب وصيته في مؤخر رحله، فأوصى له برحله وراحلته وخمسة أوسق من شعير ... (35).
بل لقد قال سعيد بن جبير(36): كنت أسمع من ابن عمر وابن عباس الحديث بالليل فأكتبه في واسطة رحلي حتى أصبح فأنسخه.
(1/83)

وواضح من هذه الأخبار أن الرحل لم يكن أداة ثابتة من أدوات الكتابة، إنما كان مما يضطر إليه المرء اضطرارًا حين لا يجد غيره يكتب عليه.
ومن أنواع الخشب التي كانوا يكتبون عليها: الروسم. وقد مر بنا أن الروسم خشبة مكتوبة بالنقر يختم بها الطعام والأكداس في الجاهلية(37).
ومن أنواع الخشب التي كانوا أحيانًا يكتبون عليها أو يخطون علامات تميزها: السهام، وقد مر بنا خبر أبي سفيان حين أراد الخروج إلى أحد فامتنعت عليه رجاله فأخذ سهمين من سهامه، فكتب على أحدهما: نعم، وعلى الآخر: لا. ثم أجالهما عند هبل، فخرج سهم الإنعام فاستجرهم بذلك(38).
وقد استمروا يكتبون أحيانًا على هذا الضرب من الخشب بعد ذلك فالحكم بن عبدل الشاعر كان يكتب حاجته على عصاه ويبعث بها مع رسله فلا يحبس له رسول، ولا تؤخر له حاجة(39).
وقد رأيت كلمة "ألواح" تتردد في بعض ما جمعت من أخبار، منها: ما ذكره عبيد الله بن أبي رافع قال: كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها(40).
ومنها ما قاله ابن أبي مليكة (41): رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول ابن عباس: اكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كله.
(1/84)

ولست أدري ما هذه الألواح؟ أمن خشب هي؟ أم من جلد؟ أم أنها من عظم عريض؟ أم لعلها من رصاص كما ذكر الفيروزآبادي عن ألواح الرقيم(42).
-4-
العظام، وأشهر أنواع العظام التي كانوا يكتبون عليها: الكتف والأضلاع وكان يكتب عليها الوحي، قال زيد بن ثابت(43) " ... فجعلت أتتبع القرآن من صدور الرجال ومن الرقاع ومن الأضلاع ... " وقال زيد أيضًا(44):
لما نزلت هذه الآية {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتف، ودعاني، وقال: اكتب ... ويُروى أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثقل دعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: ائتني بكتف حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه(45).
وكان صحابة رسول الله يكتبون كذلك على الكتف، قال عمر بن الخطاب لابنه عبد الله(46): يا عبد الله ائتني بالكتف التي كتبت فيها شأن الجد بالأمس ... وعن هانئ قال(47): كنت عند عثمان ، وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها: "لم يتسن" و"فأمهل الكافرين" و"لا تبديل للخلق". قال فدعا بالدواة
(1/85)

فمحا إحدى اللامين وكتب "لخلق الله"، ومحا "فأمهل" وكتب "فمهل"، وكتب "لم يتسنه" ألحق فيها هاء.
واستمروا أيضًا يكتبون في الكتف بعد ذلك بدهر: رُوي أن عمر بن أبي ربيعة وابن أبي عتيق كانا جالسين بفناء الكعبة إذ مرت بهما امرأة من آل أبي سفيان، فدعا عمر بكتف فكتب إليها شعرًا(48). بل لقد بقي العظم مادة من مواد الكتابة حتى العصر العباسي الأول -في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري- قال الشافعي(49) ... فكنت أجالس العلماء وأحفظ الحديث أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، وكنت أنظر إلى العظم يلوح، فأكتب فيه الحديث أو المسألة، وكانت لنا جرة قديمة، فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة.
وقال الشافعي كذلك(50): طلبت هذا الأمر عن خفة ذات يد، كنت أجالس العلماء وأتحفظ، ثم اشتهيت أن أدون، وكان لنا منزل بقرب شعب الخيف، وكنت آخذ العظام والاكتاف فأكتب فيها، حتى امتلأ في دارنا من ذلك حبان.
-5-
الحجارة: وقد مضى لنا من القول في الكتابة والنقش على الحجارة والصخور ما حسبنا أن نشير إليه هنا إشارة عابرة مذكرين به، فقد فصلنا فيه الكلام في موطنين، الأول: عند حديثنا عن نشأة الخط العربي وتطوره، والثاني: عند حديثنا عن موضوعات الكتابة. ونزيد على ما قدمنا
(1/86)

أن الكتابة والنقش على الحجر كان يسميان: الوحي، قال لبيد(51):
فمدافع الريان عري رسمها ... خلقًا كما ضمن الوحي سلامها
وقال زهير(52):
لمن الديار غشيتها بالفدفد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد
وقال أيضًا(53):
لمن طلل كالوحي عافٍ منازله ... عفا الرس منه فالرسيس فعاقله
وكانت آيات القرآن تكتب -على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- على حجارة رقيقة، قال زيد بن ثابت حينما أمره أبو بكر أن يجمع القرآن(54): فجعلت أتتبعه من الرقاع والعسب واللخاف. واللخاف: حجارة بيض رقاق، واحدته: لخفة، بفتح اللام. قال ابن النديم(55) "والعرب تكتب في أكتاف الإبل، واللخاف، وهي الحجارة الرقاق البيض، وفي العسب عسب النخل".
ومن تمام الحديث عن النقش على الحجارة أن نشير إلى النقش والكتابة على البناء. فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة يوم الفتح حتى أمر بالزخرف فمحي، وأمر بالأصنام فكسرت، أراد النقوش والتصاوير(56). وقد روي كذلك أن ابن الكلبي أخذ بعض علمه بأنساب
(1/87)

العرب مما وجده على جدران كنائس الحيرة(57).
-6-
الورق: وقد آثرنا أن نؤخر الحديث عن الورق، وكان حقه التقديم، وذلك لأن حديثنا عنه قد يطول ويتشعب. فمن المعروف المتداول عند المعنيين بمثل هذه الأبحاث أن الورق لم ينتشر استخدامه للكتابة إلا منذ أواخر القرن الثاني الهجري "الثامن الميلادي"، وذلك أن الجيوش الإسلامية انتصرت في سنة 133 هجرية "751م" بقيادة والي سمرقند على إخشيد فرغانة الذي كان يناصره ملك الصين. وقد أسر المسلمون عشرين ألف رجل فيهم صينيون كانوا يعرفون صناعة الورق. ويقال إن الصينيين عرفوا هذه الصناعة منذ مطلع القرن الثاني الميلادي. فأدخل هؤلاء الأسرى صناعة الورق إلى العالم الإسلامي بعد أسرهم بسنوات قليلة، ثم انتشرت بعد ذلك هذه الصناعة حتى دخلت أوربا بعد قرون(58).
فهذه الرواية التاريخية إذن لا تشير إلا إلى صناعة الورق، ونحن إذا سلمنا بصحتها، وليس عندنا ما يضعفها غير ما أورده ابن النديم من حديث عن الورق الخراساني يذكر فيه تاريخ معرفة العرب به، وهو حديث يشتمل على هذه الرواية التاريخية، ولكنه يذكر معها أقوالًا أخرى متناقضة تجعلنا نتوقف عن قبول أحدها، قال(59) "فأما الورق الخرساني فيعمل من الكتان،
(1/88)

ويقال إنه حدث أيام بني أمية، وقيل في الدولة العباسية، وقيل إنه قديم العمل، وقيل إنه حديث، وقيل إن صناعًا من الصين عملوه بخراسان على مثال الورق الصيني ... "، نقول إن هذه الرواية التاريخية عن الورق الخراساني والصيني -على فرض صحتها- لا تشير إلا صناعة الورق، ولا تعني أن الورق لم يكن معروفًا قبل هذا التاريخ في بلاد العرب وإن لم يكن يُصنع فيها. فإذا كانت بعض البلاد المجاورة للصين كالهند وجارتها بلاد فارس قد عرفتا الورق الصيني -سواء أكانت صنعته في بلادها أم أجتلبته مصنوعًا من الصين- فليس ثمة ما يمنع أن يعرفه العرب في جاهليتهم، وقد كانت صلاتهم التجارية وثيقة بفارس والهند بل بالصين نفسها. على أن هذا ليس فرضًا عقليًّا مجردًا حسب بل إننا عثرنا على ما نستروح منه أنه يدعم هذا الفرض:
فابن النديم يذكر أنه رأى أوراقًا يحسبها من ورق الصين بخط يحيى بن يعمر(60)، ويحيى بن يعمر توفي في سنة 90 للهجرة، وقد يكون كتب هذه الأوراق قبل وفاته بسنوات، وبذلك يكون العرب قد عرفوا الورق الصيني -على ما يروي ابن النديم- قبل أسر هؤلاء الصينيين بنحو نصف قرن على الأقل.
وليس عندنا ما نزيده على ما قدمناه عن الورق الصيني، وإن كان لنا حديث طويل عن الورق بعامة. فكلمة "الورق" تتردد في الشعر الجاهلي وأخبار صدر الإسلام، وقد ذهب بعضهم إلى أنها تعني الجلد الرقيق الذي يشبه في رقته ورق الشجر، وليس عندنا ما يدعم هذا المذهب، وهو في رأينا لا يعدو أن يكون استنتاجًا استنتجه من ذهب إليه بعد أن فرض أن العرب في جاهليتهم لم يعرفوا الورق. وهذا -كما نرى- فرض على فرض، واستنتاج مبني على استنتاج.
وسأعرض بعض ما عثرت عليه من أخبار الصدر الأول ومن الشعر الجاهلي
(1/89)

مما فيه ذكر للورق، وسأبدأ برواية تتصل بعهد عثمان بن عفان يُفرق فيها بين الورق والأديم، وبذلك يقوى ما ذكرناه آنفًا من أنهما شيئان لا شيء واحد. وذلك أن عثمان بن عفان عزم على كل رجل معه من كتاب الله شيء أن يذهب به إليه "وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن(61)".
وقال عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب(62) "كنت أكتب المصاحف في عهد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فاستكتبتني حفصة بنت عمر مصحفًا لها ... فلما بلغت إليها حملت الورقة والدواة". وسئل ابن الحنفية عن بيع المصاحف فقال(63) "لا بأس إنما تبيع الورق". وكان مطر بن طهمان مولى علي بن أبي طالب يُعرف بمطر الورَّاق(64). وقال أبو عبيدة إن المهلب قال لبنيه في وصيته(65) "يا بني لا تقوموا في الأسواق إلا على زراد أو وراق".
وهذه أحاديث قد تطول، ولا غناء في سردها، وأهمها عندنا هو الخبر الأول الذي فُرِّق فيه بين الورق والأديم؛ وسنذكر ثلاثة شواهد فيها ما يقوي الخبر الأول في التفريق بين الجلد والورق. أما الأول فقول عبد الله بن عامر لمعاوية بن أبي سفيان حينما طلق هند بنت معاوية، قال له(66): "فرأيت أن أردها إليك لتزوجها فتى من فتيانك كأن وجهه ورقة مصحف". وأما الثاني فقول حسان بن ثابت(67):
عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحي في الورق القشيب
(1/90)

والثالث قول أبي ذؤيب(68):
فنمنم في صحف كالريا ... ط فيهن إرث كتابٍ محي
فما نحسب أن ابن عامر كان يقصد إلى تشبيه وجه ذلك الفتى بالجلد، وإلا لكان وجهًا صفيقًا متينًا!! ولكنه -في رأينا- قصد إلى أن ذلك الوجه في نضارته ورونقه وبهائه وصفائه ومائه، وما شئت من هذه الأوصاف يشبه الورقة، ولا بد أن تكون هذه الورقة التي يشبه بها هذا الوجه فيها من هذه الصفات النضرة الصافية الرقيقة ما يصح معه التشبيه. ونرى كذلك في وصف حسان للورق بأنه "ورق قشيب"، وتشبيه أبي ذؤيب الصحف بأنها "كالرياط" ما يتسق مع ما قدمناه عن قول ابن عامر.
فقد استقام عندنا إذن أن الورق في هذه الأمثلة كلها شيء آخر غير الجلد أو الأديم، شيء أرق وأصفى، فما عسى هذا الورق أن يكون؟ إذا كنا ما زلنا في شك من أمر معرفة الجاهليين بالورق الصيني أو الخراساني بعد الذي قدمناه من حديث عنه، فإننا نكاد نظن أن عرب الجاهلية قد عرفوا ورق البردي. فقد رُوي أن خالد بن الوليد كتب كتاب الأمان لأهل الشام في سنة 635م على القرطاس(69). ويسمي ابن النديم ورق البردي القرطاس المصري والطومار المصري(70). والقرطاس وارد في الشعر الجاهلي وأخبار الصحابة، ولكننا لا نستطيع أن نقطع بأن المقصود بالقرطاس فيها كلها هو ورق البردي؛ لأن من معاني القرطاس: قطعة من أديم تنصب للنضال فإذا أصابه الرامي قيل: قرطس(71).
(1/91)

فالقرطاس، في رأينا، كلمة عامة تطلق على كثير من مواد الكتابة ومنها ورق البردي. ولعل من الأمثلة التي يرد فيها القرطاس بمعنى ورق البردي خاصة قول طرفة يصف ناقته(72):
وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يجرد
قال الأعلم في شرحه الديوان "وقوله: وخد كقرطاس الشآمي، شبه بياض خدها ببياض القرطاس، ويقال: أراد أنه عتيق لا شعر فيه، وإنما قال: الشآمي، لأنهم نصارى أهل كتاب". وقال أبو زيد القرشي(73): "شبه خدها بالقرطاس وهو الورق من جهة الشام".
ونحن نرجح أنه أراد بالقرطاس هنا ورق البردي -لا الجلد- لأنه ذكره في مقابل "السبت" وهو جلد البقر المدبوغ بالقرظ، فحينما أراد تشبيه خدها شبهه في نقائه وبياضه بالورق، ثم شبه مشافرها بالجلد المدبوغ بالقرظ.
ولعل من الأمثلة التي يرد فيها القرطاس بمعنى الورق ما ذُكر من أن أبا بكر الصديق "كان جمع القرآن في قراطيس".
فنحن نرجح إذن أن المقصود بالورق وبالقرطاس -في بعض أنواعه- ورق البردي. وحسبنا هذا القدر من الحديث عن الورق.
فها نحن نرى أن العرب لم يغادروا وسيلة يكتبون عليها إلا التمسوها، سواء عندهم أن تكون قد أعدت للكتابة وأن تكون عارضة طارئة. فكتبوا على ورق البردي، والحرير الناعم، والقطن المصقول، والجلد الرقيق، وكتبوا على السعف والخشب والعظام والحجارة، بل لقد كتبوا حين ألجأتهم
(1/92)

الضرورة على أكفهم ونعالهم، قال سعيد بن جبير(74) "كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها، ثم أكتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كفي". وعن عبد الله بن حنش قال(75) "رأيتهم يكتبون على أكفهم بالقصب عند البراء" وقال معمر(76) إن الزهري ربما كتب الحديث في ظهر نعله مخافة أن يفوته.
-7-
ولقد كانت لهذه المواد المكتوبة أسماء عامة يطلقونها عليها ليدلوا على المكتوب وما كتب عليه معًا، لا يخصصون بذلك نوعًا بعينه، ولا يقصدون إلى ضرب منها بذاته. ومن أشهر هذه الألفاظ وأكثرها ورودًا:
 1-الصحيفة: فنحن نعثر على هذه الكلمة في القرآن الكريم، وفي كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبار صحابته رضوان الله عليهم، وفي الشعر الجاهلي، ولكننا لا نستطيع أن نصرفها إلى مادة بعينها من هذه المواد التي عددناها للكتابة؛ وإنما هي لفظة قد تدل على أي من هذه الأنواع، فقد تكون جلدًا أو قماشًا أو نباتًا أو حجرًا أو عظمًا أو ورقًا.
ففي القرآن الكريم وردت ثماني مرات كلها بصيغة الجمع {صُحُف} (77).
وأما ورود هذه الكلمة في كتب رسول الله والصحابة فيفوت الحصر، ومن أمثلته ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم "بين المؤمنين والمسلمين من قريش
(1/93)

وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم". فقد تكررت فيه كلمة الصحيفة سبع مرات كلها بلفظ الإفراد(78).
ومما وردت فيه من الشعر الجاهلي: أبيات لقيط(79) وأبى ذؤيب(80) وعلباء بن أرقم(81) وقيس بن الخطيم(82). وقد أشرنا إلى هذه الأبيات في مواطن سابقة.
 2-الكتاب: وهي لفظة قد تكون أعم من الصحيفة، وأكثر منها شيوعًا فيما نقرأ، إذ إنها مصدر كالكتابة، ولكنها أطلقت على الشيء المكتوب حتى كادت لا تنصرف إلا إليه. وقد وردت في القرآن الكريم إحدى وستين ومائتي مرة، إفرادًا وجمعًا(83). ووردت أيضًا في كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وحسبنا أن نشير إلى الكتاب نفسه الذي ذكرناه منذ قليل والذي كتبه صلى الله عليه وسلم وصحابته، وحسبنا أن نشير إلى الكتاب نفسه الذي ذكرناه منذ قليل والذي كتبه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود فقد وردت فيه كلمة "الكتاب" مرتين واللفظة من الكثرة والشيوع في كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبار صحابته بما لا مجال لتتبعه والاستكثار بسرد أمثلته.
أما الشعر الجاهلي فقد جاءت في شعر لتميم بن أبي بن مقبل العامري قال(84):
منهن معروف آيات الكتاب وقد ... تعتاد تكذب ليلى ما تمنينا
وقال لقيط بن يعمر الإيادي(85):
(1/94)

هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا
وقال عبيد بن الأبرص(86):
لمن الدار أقفرت بالجناب ... غير نؤي ودمنة كالكتاب
وقال عدي بن زيد(87):
تعرف أمس من لميس الطلل ... مثل الكتاب الدارس الأحول
وقال عدي أيضًا(88):
ناشدتنا بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتفع
وقال سلامة بن جندل(89):
لمن طلل مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصليب فمطرق
وقال زهير(90):
يوخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
3- الزبور: وجمعها زُبر. وقد يراد بها الكتاب الديني، ولكنها تطلق أيضًا على غيره من الكتب، فمن الضرب الأول قول أمية:
وأبرزوا بصعيد مستوٍ جرز ... وأنزل العرش والميزان والزبر
(1/95)

وقول امرئ القيس(91):
أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان
وقول عمرو بن أحمر(92):
أم لا تزال ترجي عيشة أنفًا ... لم ترج قبل ولم يكتب بها زبر
ومن الضرب الثاني الذي لا إشارة فيه تخصصه بالكتاب الديني وإنما يدل على مطلق الكتاب قول لبيد(93):
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها
وقول امرئ القيس(94):
لمن طلل أبصرت فشجاني ... كخط الزبور في العسيب اليماني
وقول لبيد أيضًا(95):
فنعاف صارة فالقنان كأنها ... زبر يرجعها وليد يمان
ومن الزبور اشتقوا الفعل: يزبر، بمعنى: يكتب، قال أبو ذؤيب(96):
عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبرها الكاتب الحميري
وقد وردت الزبور في القرآن الكريم في تسعة مواطن(97) كلها بمعنى
(1/96)

الكتاب الديني، وجاءت في موطنين منها خاصة بكتاب داود(98)، وكان ورودها إفرادًا وجمعًا.
-8-
ذلك ما يُكتب عليه، أما ما يكتب به فسيدور حديثنا عنه على ثلاثة أمور: القلم، والدواة، والحبر.
    1- القلم: فالقلم حديثه طويل، ولو أوردنا ما ذكره ابن قتيبة وابن النديم والصولي وابن السيد البطليوسي والقلقشندي في وصفه وأنواعه لملأنا صفحات، ونكون بذلك قد انحرفنا عن النهج الذي خططناه لأنفسنا منذ بدء هذا البحث، واتكأنا على غيرنا حيث كان يجدر بنا ألا نتكئ إلا على استقصائنا وحده. فنحن إنما نؤرخ العصر الجاهلي، وما كتبته هذه الكتب العربية عن مواد الكتابة عام لا يحده عصر، مطلق لا يقيده زمن، وهو منصب على ما عرفوه من العصور الإسلامية. ومن الإخلال بمنهجنا أن نسحبه على العصر الجاهلي. ولذلك لم نورد فيما مضى من الحديث، ولن نورد فيما سيستقبلنا منه، إلا ما استنبطناه من الشعر الجاهلي، أو من أحاديث الرسول وأخبار الصحابة، وبذلك تضيق علينا رقعة البحث، وتقل بين أيدينا مادته، وقد تنقطع بنا المسالك، ولكن هذا هو بحثنا، وتلك هي طبيعته، فلا معدى لنا عن أن نتقيد بهما.
والقلم في الجاهلية كما تصفه هذه النصوص مصنوع من القصب يقط ويقلم أو يُبرَى ثم يغمس في مداد الدواة ويكتب به. وقد مر بنا قول عبد الله
(1/97)

ابن حنش(99) "رأيتهم يكتبون على أكفهم بالقصب عند البراء". وأكبر ظني أنهم كانوا يستخدمون ضربًا آخر من الأقلام يكتبون به -دون حبر- حينما تلجئهم الحاجة إلى أن يسجلوا بعض شئونهم في عجلة من أمرهم، ودون أن يعدوا للأمر عدته، فالشاعر الجاهلي الذي كان يحتضر فلم يجد وسيلة للكتابة إلا أن يتخذ من رحل قاتله صحيفة يكتب عليها ما كان يريد(100)، والصحابي الذي أوصى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب وصيته في مؤخر رحله(101)، والتابعي الذي كان يسمع الحديث من بعض الصحابة في الليل فيكتبه في واسطة رحله حتى يصبح فينسخه(102)، هؤلاء جميعًا لم يكونوا معدين للكتابة أمرها، ولم يكونوا متخذين لها أسبابها، وليس مما يقبله العقل أن يكونوا في مثل أحوالهم تلك يحملون معهم قصبهم المقطوط المبرى ودويهم الملأى بالمداد، وإنما كانوا -فيما أرجح- يكتبون بمادة تترك لونها أو أثرها على الرحل، ولعلها مادة طباشيرية، أو فحمية أو رصاصية، وقد أشارت إحدى الروايات إلى أن قيسبة بن كلثوم السكوني كتب على خسبة رحل أبي الطمحان القيني بسكين(103) وكذلك الشأن فيمن كانوا يكتبون على الحجارة، فقد كانوا ينقشون عليها نقشًا، ويستخدمون في نقشهم مواد صلبة ينحتون بها وينقشون.
وقد ورد ذكر القلم، مفردًا وجمعًا، بهذا المعنى الذي نقصده، ثلاث مرات في القرآن الكريم(104). وورد ذكره كذلك في الشعر الجاهلي. قال عدي بن زيد(105):
له عنق مثل جذع السحو ... ق والأذن مصعنة كالقلم
(1/98)

وقال عدي أيضًا(106):
ما تبين العين من آياتها ... غير نوى مثل خط بالقلم
وقال الزبرقان بن بدر(107):
هم يهلكون ويبقى بعد ما صنعوا ... كأن آثارهم خطت بأقلام
وقد مرت بنا أبيات: أمية بن أبي الصلت(108)، والمرقش(109)، وشتيم بن خويلد(110)، ولبيد(111)، وفيها كلها ذكر القلم.
وربما سمي القلم: مزبرًا. فقد رُوي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دعا في مرضه بدواة ومزبر، فكتب اسم الخليفة بعده(112). قال الزمخشري: المزبر هو القلم؛ وأنشد الأصمعي:
قد قضى الأمر وجف المزبر
 الدواة والمداد: وقد ورد ذكرهما كذلك في الشعر الجاهلي، قال عبد الله بن عنمة(113):2-
فلم يبق إلا دمنة ومنازل ... كما رد في خط الدواة مدادها
وقد مر بنا بيتان لأبي ذؤيب(114) ... ولسلامة بن جندل(115) فيهما ذكر
(1/99)

الدواة. وكانوا أيضًا يسمون المداد "نقسًا"، قال حميد بن ثور(116):
لمن الديار بجانب الحبس ... كخط ذي الحاجات بالنقس
وكانوا أحيانًا يمحون المكتوب بالمداد حين تنقضي حاجتهم منه، ثم يستخدمون الصحيفة لكتابة شأن آخر من شئونهم. ويسمون هذه الصحيفة التي يكتبون فيها ثم يمحونها ثم يكتبون فيها "طرسًا"(117). وكانوا ربما محوا المداد بغسله بالماء، فقد كان عبد الله بن مسعود إذا عرف أن في مجلسه من يكتب حديثه يدعو بالكتاب وبإجانة من ماء فيغسله(118). وكذلك كان يفعل أبو موسى الأشعري(119). وقد مر بنا قول عمر للرجل الذي كتب كتاب دانيال(120): "انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض".
-9-
وصف الخط في الجاهلية:
وقد كدت أجعل عنوان هذا الجزء من البحث "أنواع الخط في الجاهلية". ولكن أنى لنا أن نعرف أنواع هذا الخط، والأمر في أخبار الجاهلية على ما ذكرنا في غير موطن من هذا الفصل؟ أما ما ذكره ابن مقلة ونقله عنه ابن النديم(121) وابن السيد البطليوسي(122) من أنواع الخطوط ووصف الأقلام فلا يرقى إلى
(1/100)

الجاهلية، والقليل منه لا يعدو أن يكون إشارة عابرة إلى الخط في العصر الأموي، وإنما جل الحديث كان عن العصر العباسي. فلا معدى إذن عن أن أقصر عنوان هذا الجزء من البحث على "وصف الخط في الجاهلية"، ولا معدى كذلك عن أن أعود إلى النهج الذي سلكته من قبل وهو استنطاق الشعر الجاهلي وأخبار صدر الإسلام.
ولقد وجدت مما بين يدي من نصوص وروايات أن عرب الجاهلية كانوا يفتنون في خطوطهم وكتابتهم، ويجبرونها ويذهبون فيها مذاهب من التجويد والإتقان. وكان هذا الخط المجود المحبر المتقن يوصف بالترقيش والنمنمة والرقم والوشم والتنميق. وقد أشرنا من قبل إلى بيت أبو ذؤيب الذي يصف فيه الكتابة فتبدو كأنما بلغت شأوًا بعيدًا في الزينة والجمال حتى شبهها في رقمها ووشيها بالعروس التي استكملت زينتها وبهاءها واستخفها الحسن والعجب(123). وأشرنا كذلك إلى أبيات للأخنس بن شهاب التغلبي(124)، وحاتم الطائي(125)، وسلامة بن جندل(126) يصفون فيها الكتابة بالترقيش والنمنمة والتنميق.
ومما يدخل في هذا الباب الإشارة إلى مهارة الكاتب وإجادته الخط وتعوده الكتابة، قال لبيد(127):
متعود لحن يعيد بكفه ... قلمًا على عسب ذبلن وبان
وقال معاوية بن مالك بن جعفر(128):
فإن لها منازل خاويات ... على نملى وقفت بها الركابا
(1/101)

من الأجزاع أسفل من نميل ... كما رجعت بالقلم الكتابا
كتاب محبر هاجٍ بصير ... ينمقه وحاذر أن يعابا
وكان من جملة ما يتصف به هذا الخط المتقن استواء سطوره وتناسق كلماته وحروفه، ومن هنا جاء التشبيه به في الاستقامة والاستواء، فقد ورد في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسوي الصفوف حتى يدعها مثل القدح أو الرقيم(129)؛ والرقيم هو الكتاب المرقوم؛ أي كان يفعل في تسوية الصفوف ما يفعل السهام في تقويم قداحه، أو الكاتب في تسوية سطوره.
وهذا الضرب من الكتابة المجودة التي يتأنق فيها الكاتب ويجود هي التي رجحنا في أول هذا الفصل أنها كانت معجمة منقوطة.
وأما الضرب الثاني من الخط فهو الذي يكتبه الكاتب، وهو في عجلة من أمره لا يتأتى ولا يتأنق، وإنما يخط حروفًا وكلمات ليس فيها أثر من جمال ولا من زينة. وهذا الخط يكون في الغالب غفلًا من النقط والإعجام. وقد عثرت على لفظتين كانتا تدلان على هذا الضرب من الخط الغفل غير المتقن، أولاهما التعريض، وقد وردت في بيت للشماخ(130):
كما خط عبرانية بيمينه ... بتيماء حبر ثم عرض أسطرا
وتعريض الخط -كما في المعاجم- تثبيجه وتعميته وترك تبيين حروفه وعدم تقويمه. واللفظة الثانية التي تدل على هذا الضرب من الخط الغفل السريع الذي لا إتقان فيه هي: المشق. وقد وردت في أخبار عن رجال الصدر الأول، فقد رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال(131): "شر الكتابة
(1/102)

المشق، وشر القراءة الهذرمة". وروى ابن سيرين أنه كره أن تكتب المصاحف مشقًا، فلما قيل له: لم كره ذلك؟ قال: "لأن فيه نقصًا، ألا ترى الألف كيف يغرقها ينبغي أن ترد! "(132) وذكر ابن السيد البطليوسي أن أهل الأنبار كانوا "يكتبون المشق، وهو خط فيه خفة ... ، ولأهل الحيرة خط الجزم وهو خط المصاحف، وخط أهل الشام: الجليل"(133) وقال أيضًا(134): "فإذا أمد الحروف قيل: مشق مشقًا ويقال: المشق سرعة الكتابة وسرعة الطعن".
وكذلك جاء في المعاجم أن المشق: سرعة الكتابة وفسادها. وهذا الخط المعرض أو المشق هو الخربشة، قال زيد بن أخزم الطائي: سمعت ابن دؤاد يقول: كان كتاب سفيان مخربشًا(135)

(1/103)


 

 

__________
 ديوانه، شالون سنة 900 ص68.(1)
 ديوان الهذليين 3: 70.(2)
 الآمدي، المؤتلف والمختلف: 27.(3)

 ديوان "لندن": 23.(4)
 سورة الطور، آيات: 1-3.(5)
 البيان والتبيين: 375؛ الأغاني 6: 127؛ معجم المرزباني 201.(6)

 مسند أحمد 4: 141؛ وانظر تقييد العلم: 72.(7)
 الطبقات 7: 54.(8)

 السجستاني، المصاحف: 23-24.(9)
 تقييد العلم: 52.(10)
 المصعب الزبيري، نسب قريش: 177-178.(11)
 ديوانه "خمسة دواوين" 50. الرامسات. الرياح.(12)
 ديوانه "مطبعة هندية 1906": 86، الشبوب والقرهب: الثور الفتي الكبير.(13)
 (14)ديوانه "ثعلب": 231. المؤسدات: المغريات بالصيد. أطبة "مفردها: طبابة": السيور والجلود. صرف: صبغ أحمر تصبغ به شرك النعال. المسرد: المخروز.

 (15)الفائق 2: 150، والكرانيف "مفردها: كرنافة، بضم الكاف وكسرها": أصول السعف الغلاظ العراض اللاصقة بالجذع.
 تقييد العلم: 102.(16)
 المفضليات "ليال": 25.(17)
 القاموس "كرباس".(18)
 شرح المعلقات: 268-269.(19)

 المعلقات: 200-201.(20)
 ابن سيدة، المخصص 13: 8-9.(21)
 الحيوان 1: 69-70.(22)
 المفضليات: 25.(23)
 ديوانه ق34 ب13.(24)
 (25)الصولي، أدب الكتاب: 106، ولم أجده في ديوانه. والسملق "وزان جعفر": القاع الصفصف.

 النقائض: 106.(26)
 ديوانه: 15.(27)
 ديوانه: 5.(28)
 ديوانه الأول، ط. فينا سنة 1880 ق13 ب2.(29)

ديوانه: 120.(30)
 القاموس "كرب، وكرناف".(31)

الفائق 2: 150.(32)
 مصاحف السجستاني: 20.(33)
 المفضليات: 459-460، والأغاني 6: 130.(34)
 ابن سعد 3/ 2: 151.(35)
 تقييد العلم: 102.(36)

تاج العروس "رسم".(37)
 الفائق 3: 190.(38)
 الأغاني 2: 404.(39)
 تقييد العلم: 91-92، وانظر أيضًا ص109.(40)
 الطبري، التفسير 1: 31.(41)

 القاموس "رقم".(42)
 (43)أبو عمرو الداني، المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار "ط. الترقي بدمشق 1940" ص3.
 ابن سعد 4/ 1: 154.(44)
 ابن سعد 3/ 1: 128.(45)
 ابن سعد 3/ 1: 246 و247.(46)
 ابن فارس، الصاحبي: 10.(47)

 الأغاني 9: 240.(48)
 ابن أبي حاتم، آداب الشافعي ومناقبه: 24.(49)
 المصدر السابق: 25.(50)

 (51)شرح المعلقات للتبريزي: معلقة لبيد. الوحي "بضم الواو وتشديد الياء" جمع، مفردها الوحي "بفتح الواو وسكون الحاء" وهو: الكتابة. السلام: الحجارة، واحدتها: سلمة "بفتح السين وكسر اللام".
 ديوانه "تعلب": 268. الفدقد: الأرض المرتفعة المستوية. المخلد: المقيم.(52)
 ديوانه: 126.(53)
 الفائق 2: 150.(54)
 الفهرست: 31.(55)
 الفائق 1: 525.(56)

 الطبري، تاريخ 2: 37.(57)
 انظر لذلك:(58)
Dr. A. Grohmann، from the world of Arabic papyri، cairo 1952، p. 51.
وكذلك دائرة المعارف البريطانية مادة paper
 الفهرست: 31.(59)

 الفهرست: 61.(60)

 المصاحف: 23-24.(61)
 المصاحف: 86.(62)
 المصاحف: 175.(63)
 (64) المصدر السابق: 177، وانظر ترجمة مطر في التهذيب، وفي ابن سعد 7/ 2/ 19  
 الجاحظ، الحيوان 1: 52.(65)
 نسب قريش: 149.(66)
 ديوانه "مطبعة النيل 1904": 11.(67)

 البلاذري، فتوح البلدان "مصر": 127.(69)

 ديوان الهذليين 1: 64.(68)

 الفهرست: 31.(70)
 القاموس واللسان "قرطس".(71)

 (72)ديوانه 19-20. المشفر من البعير كالشفة من الإنسان. السبت: جلود البقر المدبوغة. القد: ما قد من الجلد، وهو هنا: النعل نفسها وخص اليماني؛ لأنهم ملوك ونعالهم أحسن النعال.
 جمهرة أشعار العرب: 177.(73)

 تقييد العلم: 102.(74)
 تقييد العلم: 105.(75)
 المصدر السابق: 107.(76)
 (77) التكوير 10، الأعلى 18، 19، النجم 36، عبس 13، طه 133، البينة 2، المدثر 52

 الدكتور محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية: 1-7.(78)
 الشعر والشعراء 1: 152.(79)
 ديوان الهذليين 1: 64.(80)
 الأصمعيات: 63.(81)
 ديوان: 19.(82)
انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن من ص592 إلى ص595.(83)
 جمهرة أشعار العرب: 318.(84)
 مختارات ابن الشجري: 7.(85)

 مختارات ابن الشجري: 105.(86)
 الأغاني 2: 153.(87)
 شعراء النصرانية: 472.(88)
 ديوانه: 15.(89)
 ديوانه "ثعلب": 18.(90)

 ديوانه: 125.(91)

 جمهرة أشعار العرب: 315. أنف: بمعنى مستأنفة.(92)
 شرح المعلقات التبريزي: 134.(93)

 ديوانه: 120.(94)
 ديوانه في 13 ب2.(95)
 ديوان الهذليين 1: 64.(96)
 (97)الأنبياء 105، الإسراء 55، النساء 163، الشعراء 196، القمر 43، 52 النحل 44، آل عمران 184، فاطر 25.

 الإسراء 55، النساء 163.(98)

 تقييد العلم: 105.(99)
 المفضليات: 459-460.(100)
 ابن سعد 3/ 3: 151.(101)
 تقييد العلم: 102.(102)
 الأغاني 11: 131.(103)
 العلق: 4، القلم: 1، لقمان: 27.(104)
 سمط اللآلي: 876. السحوق من النخل: الطويلة. مصعنة: منصوبة محددة.(105)

 الأغاني 2: 119.(106)
 البيان والتبيين 3: 179.(107)
 ابن هشام 1: 48.(108)
 معجم المرزباني: 201، والأغاني 6: 127.(109)
 النقائض: 106.(110)
 شرح المعلقات للتبريزي: 128.(111)
 الفائق 1: 522.(112)
 المفضليات: 743.(113)

 ديوان الهذليين 1: 64.(114)
 ديوانه: 15.(115)

 ديوانه: 97.(116)
 القاموس وأساس البلاغة "طرس"، والاقتضاب: 93، والقائق2: 81.(117)
 تقييد العلم: 39 و53 و54 و55.(118)
 المصدر السابق: 40.(119)
 المصدر السابق: 51.(120)
 الفهرست: 6-7.(121)
 الاقتضاب: 87-90.(122)

 ديوان الهذليين 1: 64-65.(123)
 المؤتلف والمختلف: 27.(124)
 ديوانه: 23.(125)
 ديوانه: 15.(126)
ديوانه: ق16 ب2.(127)
المفضليات 2: 157.(128)

 الفائق: 320-321.(129)
 ديوانه: 26، وديوان زهير "ثعلب": 5.(130)
 الصولي، أدب الكتاب: 56.(131)

السجستاني، المصاحف: 134.(132)
 الاقتضاب: 89.(133)
 المصدر السابق: 94.(134)
 اللسان "خربش".(135)