المقالات
قسم التأريخ
مواقف شرعية ابن عبّاس في عهد عثمان
مواقف شرعية في الأحكام
۱ ـ تنبيه ابن عباس لعثمان على الحكم الشرعي فيمن وضعت حملها لستة أشهر.
ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعض أقضيته في الأحكام فقال : « وقال في المجنونة الّتي أمر برجمها ، وفي الّتي وضعت لستة أشهر فأراد عمر رجمها ، فقال له عليّ : إنّ الله تعالى يقول : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) (۱) الحديث. وقال له : إنّ الله رفع القلم عن المجنون الحديث ، فكان عمر يقول : لولا عليّ لهلك عمر ».
ثمّ قال ابن عبد البر : « وقد روي مثل هذه القصة لعثمان مع ابن عباس ، وعن عليّ أخذها ابن عباس ، والله أعلم » (۲).
أقول : روى السيوطي في الدرّ المنثور عن عبد الرزاق وعبد بن حميد عن أبي عبيدة مولى عبد الرحمن بن عوف قال : « رفعت امرأة إلى عثمان رضي الله عنه ولدت لستة أشهر فقال عثمان : إنّها قد رُفعت إليّ امرأة ألا جاءت بشرّ. فقال ابن عباس : إذا أكملت الرضاعة كان الحمل ستة أشهر وقرأ ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) (۳) فدرأ عثمان عنها » (٤).
۲ ـ استنكار ابن عباس على عثمان في عدم ميراث الأم مع الأخوين :
أخرج الطبري في تفسيره (٥) ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين واللفظ له بسنده : « عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس انّه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال : إن الأخوين لا يردّان الأم عن الثلث ( ؟ ) قال الله عز وجل : ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ) (٦) فالأخوان بلسان قومك ليسا بأخوة ( ؟ ) فقال عثمان بن عفان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس. وفي لفظ الطبري : هل أستطيع نقض أمرٍ كان قبلي وتوارثه الناس ... (۷).
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه » (۸) ، وتبعه الذهبي في تلخيصه وقال : صح.
أقول : لقد وهم الطبري وغيره من الفقهاء وأئمة الحديث في نسبة مسألة عدم حجب الأخوين الى ابن عباس ، حيث ظنوا أنّ الاستفهام كان حقيقياً ، بينما كان استفهاماً إنكارياً كما هو ظاهر من لغة ابن عباس ومن جواب عثمان. وهذا ما فهمه جماعة من الفقهاء ، كما سيأتي في فقه ابن عباس في ( الحلقة الثالثة ) إن شاء الله تعالى مزيد بيان.
۳ ـ خلافات فقهية بينهما :
لقد كان بين ابن عباس وبين عثمان خلافٌ في بعض الأحكام الشرعية قولاً وعملاً :
أ ـ فعثمان توضأ فغسل كفيه ثلاثاً ... وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ... وغسل قدميه ثلاثاً (۹).
بينما ابن عباس توضأ فغسل كلّ عضو منه غسلة واحدة ، ثمّ ذكر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يفعله (۱۰).
ب ـ وعثمان توضأ فمسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما وقال : « رأيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يفعله » (۱۱).
بينما ابن عباس كان يقول : « الأذنان ليستا من الوجه وليستا من الرأس ، ولو كانتا من الرأس لكان ينبغي أن يحلق ما عليهما من الشعر ، ولو كانتا من الوجه لكان ينبغي أن يغسل ظهورهما وبطونهما مع الوجه » (۱۲).
ج ـ وعثمان قال في ميراث جد وأم وأخت : « للأم الثلث ، وللأخت الثلث ، وللجد الثلث » (۱۳).
بينما قال ابن عباس : « للأم الثلث ، وما بقي فللجد وليس للأخت شيء » (۱٤).
د ـ وعثمان كان ينهى عن متعة الحج تبعاً لعمر وكان مصراً على نهيه عنها قولا وعملا ، وقد مرّ بعض ما يتعلق بذلك في مخالفات عثمان لأحكام الشريعة ونزيد على ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده عن مروان قال : « كنا نسير مع عثمان رضي الله عنه فاذا رجل يلبّي بهما جميعاً فقال عثمان رضي الله عنه : مَن هذا ؟ فقالوا : عليّ. فقال : ألم تعلم أنّي قد نهيتُ عن هذا ؟ قال : بلى ، ولكن لم أكن لأدع قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لقولك » (۱٥).
وفي حديث ابن المسيب قال : « خرج عثمان حاجاً حتى إذا كان ببعض الطريق قيل لعليّ : إنّ عثمان قد نهى أصحابه عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال عليّ لأصحابه : إذا راح فروحوا ، فأهلّ عليّ وأصحابه بعمرة ، فلم يكلّمهم عثمان ، فقال له عليّ : ألم أخبر أنّك نهيت عن التمتع بالعمرة ؟ فقال : بلى ، قال : فلم تسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تمتع ؟ قال : بلى » (۱٦).
وفي حديث شعبة عن قتادة عن عبد الله بن شقيق وفيه : « قال عثمان : أجل ولكنّا كنّا خائفين قال شعبة فقلت لقتادة : ما كان خوفهم ؟ قال : لا أدري » (۱۷).
أقول : ليس قتادة وحده لا يدري كلا ولا المنجم يدري أيّ خوفٍ كان يوم أمر بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع ومعه مائة ألف أو يزيدون ؟ وقد مرت بعض الأحاديث في أسباب السخط فراجع.
أمّا موقف ابن عباس في هذه المسألة فكان هو موقف عليّ عليه السلام ، فقد أهلّ كما أهلّ بقية أصحاب عليّ عليه السلام ، وهذا هو الموقف الثابت له ، حتى كان يقول لمن يعارضه في ذلك بأبي بكر وعمر : « يُوشك أن يُنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : ما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتقولون : قال أبو بكر وعمر » (۱۸).
وقد روى عنه سعيد بن جبير : « أنّه قال : تمتـّع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة.
فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ، أقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقولون أبو بكر وعمر » (۱۹).
وقال لعروة : « يا عريّة سل أمك ، أليس قد جاء أبوك مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأحلّ. وأمّا المتعة فسل أمك إذ نزلت عن بردي عوسجة ، فإن أوّل متعة سطع مجمرها لمجمر سطع بين أمك وأبيك » (۲۰).
ولاشتهار فتياه تلك قال له رجل من بلجهيم : « ما هذه الفتيا الّتي تفشغت ـ انتشرت ـ في الناس : إنّ من طاف بالبيت فقد حلّ ؟ فقال : سنّة نبيّكم صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن رغمتم » (۲۱).
الهوامش
۱. الأحقاف / ۱٥.
۲. الاستيعاب ۲ / ٤٦۱ ط حيدرآباد.
۳. الأحقاف / ۱٥.
٤. الدر المنثور ٦ / ٤۰.
٥. تفسير الطبري ٤ / ۱۸۸.
٦. آل عمران / ۱۱.
۷. قارن السنن الكبرى للبيهقي ٦ / ۲۲۷.
۸. مستدرك الحاكم ٤ / ۳۳٥.
۹. المصنف ۱ / ٤۱.
۱۰. نفس المصدر.
۱۱. نفس المصدر ۱ / ۱۳.
۱۲. نفس المصدر.
۱۳. نفس المصدر ۱۰ / ۲٦۹.
۱٤. نفس المصدر ۱۰ / ۲۷۰.
۱٥. مسند أحمد ۳ / ۱۰۲ برقم ۷۳۳ تحـ أحمد محمّد شاكر.
۱٦. نفس المصدر ۱ / ۲۰۰ و ۲۱۰.
۱۷. نفس المصدر ۱ / ۲۱۳.
۱۸. زاد المعاد لابن قيم الجوزية ۱ / ۲۱٥.
۱۹. مسند أحمد ۱ / ۳۳۷ ط محققة.
۲۰. نفس المصدر ٤ / ۳٥۲ و ٥ / ۱۱۹.
۲۱. نفس المصدر ٤ / ۱۷٦ و ۱۸٤ ، و ٥ / ٦٦.
مقتبس من كتاب : موسوعة عبد الله بن عبّاس / المجلّد : ۲ / الصفحة / ۳۳٥ ـ ۳۳۹
اكثر قراءة