akdak

المقالات

القسم الولائي

تزويج المأمون ابنته من الإمام الجواد .. الدوافع والغايات

268

محمد طاهر الصفار

الرأي الذي تبنّاه أغلب المؤرخين من أن المأمون زوّج الإمام الجواد (ع) من ابنته حباً به وإكراماً له وتعظيماً لقدره وجلالته يدعو إلى الوقوف عنده والشك فيه, فرغم اعتراف المأمون في أكثر من موضع وقول على فضل الإمام على كل الناس وعلمه (ع) الذي فاق العلماء والفقهاء كلهم وكماله الذي لم يصله إنسان إلا أن استقراء الأحداث ونتائجها تشير إلى أن هناك سبباً آخر جعل المأمون يعرض الزواج على الإمام الجواد من ابنته.

إن سياسة المأمون لم تختلف عن سياسة من سبقه من الخلفاء العباسيين تجاه العلويين إن لم تكن أبشع منها, فهل كان المأمون أفضل من أبيه هارون عندما فطن إلى أن الإمام الجواد (ع) هو أفضل وأورع وأعلم إنسان في وقته فأجله وأكرمه وعظمه لله ولم يفطن إلى ذلك أبوه ؟ وقد توفرت هذه الخصال عند الإمام الكاظم (ع) أم كان المأمون أفضل من جده وأسلافه فلم يفطنوا إلى توفر هذه الصفات التي ذكروها بالورع والعلم والصلاح عند الإمام الصادق (ع)، والأئمة المعصومون (ع) كانوا كلهم في نفس المرتبة من العلم والتقوى والصلاح وقد اشتهر عنهم ذلك ؟

هل كانت دوافع المأمون خالصة وصافية وقد أظهر فضل الإمام الجواد وعظمه أمام الناس ؟ وهل كان صادقاً فيما عزم القيام به من تقديم الإمام الجواد على غيره ؟ وهل كانت دوافعه عن قناعة تامّة بأحقية البيت العلوي بالتعظيم والتبجيل والتقديم على غيرهم ؟ أم أراد بهذا العمل شيئاً آخر وقد اتخذ من هذا الزواج وسيلة للوصول إلى غاياته ؟ وإذا كانت هذه هي وسيلته فما هي الغاية من ذلك ؟

خيوط المؤامرة

إن مجرد التفكير في الغاية التي توخّاها المأمون من هذا الزواج يثير الرعب لدى القارئ الملم بسيرة المأمون الإجرامية والبيت العباسي الدموي ويُثار عنده السؤال ما هي الغاية التي أرادها المأمون من هذا الزواج ؟ وما الذي دفعه إلى لعب هذه اللعبة التي لا تنطلي على كل متتبع للتاريخ العباسي ؟ وهل يُعقل أن خليفة عباسي يزوج ابنته من شاب علوي بل من إمام من أئمة أهل البيت وبرغبته واختياره ؟ إن هذا هو المستحيل الحدوث بعينه، وإن حدث فهناك أمر خطير وراؤه ويحتاج إلى الوقوف عنده طويلا.

وبغض النظر عن الآراء التي تبنّاها المؤرخون والكتاب والتي حاولوا من خلالها أن يُظهروا المأمون بمظهر الرجل المحب لأهل البيت والمعظم لشأنهم, دون أن يستندوا إلى الواقع التاريخي، ويقتبسوا نظرتهم من عمقه، ودون أن يحللّوا مجريات الأحداث في عصر المأمون فإن الواقع التأريخي يعطي رأياً مُغايراً تماماً لما ذهبوا إليه.

فمتى عرف المأمون فضلاً لهذا البيت الطاهر وقد سار بسيرة أسلافه في اضطهادهم ؟ وهل يعترف بفضل أحد من الناس من يقتل أقرب الناس إليه ؟ لقد قتل المأمون أخاه الأمين واتهم الفضل بذلك ! وولّى الرضا ولاية العهد ثم لما أخفق في تحقيق غاياته منها أشاع بين الناس أن الفضل بن سهل أشار عليه بذلك لكي يتخلص منه ! وعندما أمر جماعة بقتل الفضل أمر بإحضارهم واتهمهم بقتله وقتلهم ! ثم قتل الإمام الرضا وبكى عليه أمام الناس ! وهكذا ؟ ..  

لقد دبّر المأمون مؤامرة هذا الزواج للإمام الجواد (ع) كما دبر مؤامرة ولاية العهد لأبيه الرضا فلم يكن المأمون في موقفه هذا بموقف المحب للعلويين أو المبادر إلى التقرب إليهم ومودتهم انما اقتضت سياسته أن يتقرب شكلياً من العلويين لأسباب سياسية وظروف حرجة كادت أن تودي بعرش الخلافة العباسية جراء الثورات والانتفاضات التي قامت ضد سلطته الجائرة وثارت ثائرة الناس، وسخطوا على المأمون بعد أن رأوا ظلمه وظلم عماله وجورهم ما يطول شرحه، وكثرت الفتن، وأصابت المجاعات الكثير من البلاد الاسلامية، ووقع الموت فيها، ففي بغداد كان إبراهيم بن المهدي عم المأمون يرمي المأمون بأمه ويدعو العباسيين بالثورة عليه، وفي الكوفة خرج أبو السرايا العلوي بجيش كبير وأعلن الثورة، وخرج زيد بن موسى بن جعفر ومعه علي بن محمد بالبصرة، وفي مكة خرج محمد بن جعفر الملقّب بالديباج، وفي اليمن خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر، وخرج محمد بن سليمان العلوي في المدينة، وخرج جعفر بن محمد بن زيد بن علي، والحسين بن إبراهيم بن الحسن بن علي في واسط، وفي المدائن خرج محمد بن إسماعيل.

سياسة تكميم الأفواه

لجأ المأمون على إثر هذه الثورات إلى عقد ولاية العهد للإمام الرضا فلما أفشل (ع) مخططه بالشروط التي وضعها قام بقتله بالسم ولما شعر بسخط الناس من هول ما اقترفت يداه بادر إلى التقرب من الإمام الجواد لاكتساب ثقة الناس وامتصاص نقمتهم، وهكذا تحتم على سياسة السيف والقمع والدم والتعذيب والتنكيل أن تخفي أساليبها الوحشية للضرورة لفترة من الزمن بعد أن رأى أن العنف لا يجدي مع هذه التحديات الكبيرة فالتجأ إلى حوك المؤامرات والدسائس للتخلص من مناوئيه.

وإضافة إلى هذه الأسباب فقد كانت هناك أهداف ومآرب أخرى سعى المأمون لتحقيقها, فقد أراد ــ بتفكيره الفاشل ــ أن يشوّه صورة الإمام في أعين الناس ويسقط من قدره اجتماعياً، لكي تنظر الناس إليه على أنه رجل دنيا بزواجه من ابنة الخليفة, كما حاول من خلال إصراره على زواج الإمام من ابنته أن يحدّ من تحركات الإمام ويقطع الصلة بينه وبين شيعته ويضعه في نطاق سيطرته فتصل أخباره أولاً بأول من خلال ابنته التي هيأها لتكون جاسوساً على الإمام, وإضافة إلى ذلك فقد أراد أن تكون لخلافته بعض الشرعية بهذا الزواج وتكميم الأفواه الناقمة على سلطته وشل الحركات والثورات عليه والتغطية على جرائمه بحق أهل البيت وخاصة قتله الإمام الرضا بالسم, وقد حاول خداع الناس بعرض هذا الزواج على الإمام بإظهار المودّة للبيت النبوي وصلة الرحم بقوله:

إني أحببت أن أكون جدّاً لامرئٍ ولده رسول الله وعلي بن أبي طالب غير أن خدعته فشلت فلم تلد ابنته من الإمام الجواد وكان قد استعمل نفس الخدعة مع الإمام الرضا ولكنها فشلت فقد زوّج إحدى بناته من الإمام الرضا غير أنه خاب في مسعاه.

المحاولات الفاشلة

لم تكن هذه الأهداف والغايات خافية على الإمام الجواد (عليه السلام) الذي كان يعلم دخائل المأمون، وما تنطوي عليه نفسه من الخبث، فقد حاول المأمون ــ بتصوّره الناقص ــ أن يجر الإمام إلى حياة اللهو والطرب والفسق وتسقيط قداسته بين الناس وهي آخر محاولاته قبل عرضه الزواج على الإمام من ابنته كما جاء في رواية محمد بن الريان قوله:

احتال المأمون على أبي جعفر (ع) بكل حيلة فلم يمكنه فيه شيء, فلما اعتل وأراد أن يبني عليه ابنته دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون إلى كل واحدة منهن جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر إذا قعد في موضع الأخيار, فلم يلتفت الإمام (ع) إليهن, وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب طويل اللحية, فدعاه المأمون فلما دخل عليه قال له مخارق: إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره. فقعد بين يدي أبي جعفر وجعل يغني فقال له الإمام: اتق الله يا ذا العثنون. ففزع المغني وسقط العود من يده ...)

وهذه الرواية تدلنا على مدى خسّة المأمون ودناءته بمحاولته إغواء الإمام (ع) وإغرائه بالوصائف الجميلات وبالغناء, فهل كان يظن أن الإمام هو أحد بني العباس أصحاب الغناء والطرب والخلاعة والمجون والعربدة ؟ حاشاه من ذلك. إنه سليل الشرف والعفة والطهارة والقداسة المتدرج من الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة وريث النبوة والإمامة ومعدن التقى والورع والإيمان.   

الزواج أو القتل

يشير استقراء الروايات والأحداث أن الإمام قد تأسّى بأبيه الرضا في قبوله بولاية العهد بالإكراه فقبل الإمام الجواد الزواج من ابنة المأمون بالإكراه, فبعد أيام من دعوة الإمام للحضور من المدينة إلى بغداد بأمر المأمون اقترح عليه الأخير الزواج من ابنته أم الفضل فسكت الإمام فاعتبر المأمون سكوت الإمام علامة لرضاه ــ اعتباراً ظاهرياً ــ فهيّأ مقدمات الزواج.

إن سكوت الإمام هنا يفيد بنتيجة واحدة فقط, هي ليس القبول كما أشاع المأمون, بل لأنه جاء نتيجة ضغوط من المأمون كالضغوط التي مارسها على أبيه في ولاية العهد, فكيف يتزوج الإمام من ابنة قاتل أبيه ؟ ثم لماذا سكت إذا كان موافقاً ؟ وهل كان مجيئه (ع) أصلاً من المدينة إلى بغداد حضوراً طوعياً باختياره أم كان حضوراً إجبارياً ؟ وهل كانت دعوة له أم استدعاء ؟؟!

كل هذه الأسئلة تجيب عنها الأحداث والنتائج التي آل إليها هذا الزواج. وتدلنا رواية الحسين المكاري على ما كان يعانيه الإمام في قصر المأمون من العذاب النفسي وهو مجبر على مخالطة أناس ليسوا من نمطه يقول المكاري وهو أحد أصحاب الإمام:

دخلت على أبي جعفر ببغداد وهو على ما كان من أمره فقلت في نفسي هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً وهو بهذه الدعة والسعة فأطرق الإمام رأسه ثم رفعه وقد اصفرّ لونه وقال: يا حسين خبز شعير وملح جريش في حرم رسول الله أحب إلي مما تراني !

لقد قرأ الإمام أفكار المكاري وتصوراته وظن أن الإمام كان في راحة ودعة فأراد أن يبيّن له أنه لم يخلق لهذه الحياة بل خلق للعبادة وإرشاد الناس والذب عن الإسلام وحفظ الشريعة.

كلمة حق يراد بها باطل

كما يؤيد الغايات الشريرة التي يضمرها المأمون من هذا الزواج للإمام (ع) أنه صمم على هذا الزواج رغم أنه أثار حفيظة العباسيين ضده وخافوا زوال ملكهم بسببه فعارضوه معارضة شديدة وواجهوا المأمون بالرفض وخاطبوه بلهجة الغضب:

ننشدك الله أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه, فإنا نخاف أن يخرج به عنّا أمر قد ملكناه الله, وينزع منّا عزاً قد ألبسناه الله, وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم ــ العلويين ــ قديماً وحديثاً, وما كان عليه الخلفاء قبلك من تبعيدهم, وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت فكفانا الله المهم من ذلك فالله الله أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا.

ويتضح من خلال هذه النبرة أن العباسيين أنفسهم لم يكونوا على علم أو حتى احتمال بما يخططه المأمون وهم يطلبون منه العمل بسياسة من قبله من الخلفاء العباسيين تجاه العلويين من اضطهاد وتنكيل وسجون وقتل ولم يحسبوا حساب المأمون من النقمة والسخط على الخلافة العباسية نتيجة سياسة التسلط والقهر والظلم التي مارسوها ضد العلويين خاصة والأمة الإسلامية بشكل عام. ولكن المأمون لم يشأ أن يطلعهم على مخططه بل آثر أن لا يعرفوا ذلك كغيرهم من الناس والمضي حتى النهاية.

فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه, ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم, وأما ما كان يفعله من قبلي بهم, فقد كان قاطعاً للرحم, وأعوذ بالله من ذلك, والله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا, ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه والاعجوبة فيه بذلك وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه , فيعلمون أن الرأي ما رأيت فيه.

لو تمثل الشيطان بصورة إنسان لتمثل في صورة المأمون, فبمثل هذه الأساليب الشيطانية كان يحوك مؤامراته ودسائسه في الظلام ويتظاهر أمام الناس بأنه يسعى إلى إحقاق الحق المتمثل بأهل البيت (ع) فلو كان أحق موضع لـ (كلمة حق يراد بها باطل) لكان هذا الموضع.

لما رأى العباسيون عزم المأمون وإصراره على تنفيذ ما أراد لجأوا إلى وسيلة أخرى لإقناع المأمون بعدم أهلية الإمام بالزواج فقالوا: إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك.

لكن المأمون بقي على رأيه المتصلب فأجابهم بثقة: ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم وإن أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى ومواده وإلهامه ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت من حاله.

أشار عليهم بامتحانه وهو جزء من خطته فقبلوا وقالوا: رضينا لك ولأنفسنا بامتحانه فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة, فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة سديد رأيك فيه, وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه فقال لهم المأمون شأنكم وذلك متى أردتم.

لقد أحكم المأمون خطته وكان في رأيهم رأيه, فإن نجح الإمام في الاختبار فقد كان ما قاله, وإن نجح الخصم كان ذلك أفضل له لكي يظهر للناس عدم أهلية الإمام للإمامة وإنه أحق بالأمر منه وفي كلتا الحالتين فإن الأمر سيؤول إليه, ويدل على ذلك وبقوة أنه عندما عرف أن العباسيين قد اختاروا يحيى بن أكثم قاضي القضاة لمناظرة الإمام الجواد وبذلوا له أموالاً طائلة إن هو غلب الإمام استدعى المأمون يحيى سراً وقال له: اطرح على أبي جعفر مسألة تقطعه فيها ــ أي اسأله سؤالا يعجز عن جوابه ــ لكي يدلل به على عدم صلاحية الإمام ويبطل زواجه من ابنته فهو عندما أراد تزويجه من ابنته كان قد عجز عن الحط من منزلة الإمام وتشويه صورته.

إلى أي مدى وصلت إليه الخسة والدناءة عند المأمون، لقد وضع لهذا الأمر خطة شيطانية محكمة بحيث سيؤول الأمر إليه حتماً في النهاية فلو نجح الإمام في المناظرة فإنه سيتبجح أمام العباسيين بأنه أولى منهم وإنه محق فيما قال, وإن نجح الخصم سيكتفي باعتذار بسيط إليهم ولكنه في مقابل ذلك سيربح قضية صراع طويل بين العلويين والعباسيين.

ورغم أنه كان يعلم منزلة الإمام وعلمه وإنه وريث مدرسة الوحي كما اعترف بذلك, فإنه كان يثق بقدرة يحيى بن أكثم قاضي القضاة الذي كان متضلعاً في الفقه, وكان المأمون معجباً به أيما إعجاب حيث منحه منصباً كبيراً هو قاضي القضاة, وبلغ إعجابه به أن أضاف إليه منصباً أخر هو إدارة الحكم وتولي ديوان المحاسبات والإشراف على جميع أعمال الدول الاسلامية الكبيرة, وقد عجز عن مجاراته العلماء الكبار لذلك اختاره العباسيون للمناظرة.

وتم الاتفاق على يوم محدد للمناظرة وتم المجلس بحضور المأمون والفقهاء والعلماء والفلاسفة وجرت المناظرة التي ذكرتها المصادر والتي سنتحدث عنها في موضوع مفصل وانتهت بهزيمة يحيى بن أكثم أمام سليل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ووريث باب مدينة علم رسول الله (ص)

بعد المناظرة تمت مراسيم الزواج وانطلت حيلة المأمون على العباسيين أنفسهم وانخدعوا بتصنّعه الانتصار, وأثرت عليهم مظاهر الفرح التي أبداها وهم لا يعلمون ما يضمره من شر للإمام من تزويجه ابنته, ومع ذلك فلم يكن يضير المأمون انخداعهم بل بالعكس فقد استفاد من خداعهم وهزيمتهم لأن بعضهم كان ممن يكن له العداوة منذ أن قتل أخاه الأمين وولى الإمام الرضا ولاية العهد كما كسب بذلك الرأي العام بظهوره بمظهر الموالي لأهل البيت.

لكن هذه الحيلة لم تكن لتنطلي على الإمام فقط, بل كان كثير من أصحابه الأوفياء والعلويين يتوجّسون خيفة من هذا الزواج على الإمام وكانوا يعرفون أن هناك مكيدة ومؤامرة يحيكها المأمون ضد الإمام كما يتضح ذلك جلياً في رواية محمد بن علي الهاشمي التي ذكرها الشيخ عبد الله البحراني الأصفهاني في مستدرك عوالم العلوم والمعارف, والأربلي في كشف الغمة, والكليني في الكافي وغيرهم, والتي جاء فيها عن الهاشمي قوله:

دخلت على أبي جعفر صبيحة عرسه حيث بنى بابنة المأمون ــ وكنت قد تناولت من الليل دواء ــ فأول من دخل عليه في صبيحته أنا وقد أصابني العطش وكرهت أن أدعو بالماء, فنظر أبو جعفر في وجهي وقال: أظنك عطشان ؟ فقلت: أجل. فقال: يا غلام اسقنا ماءً. فقلت في نفسي: الساعة يأتونه بماء يسمّونه به فاغتممت لذلك فأقبل الغلام ومعه الماء فتبسم الإمام (ع) في وجهي ثم قال يا غلام ناولني الماء فتناول الماء وشرب ثم ناولني فشربت ...

وهذه الرواية تدل دلالة صريحة على أن خطة المأمون كانت مكشوفة ليس عند الإمام فقط, بل عند كثير من أصحابه وقد كان توقع الهاشمي في محله ولكن ليس في هذه المرة.

لقد حصدت يد المعتصم الآثمة ما زرعته يد الإجرام فهيّأ له أخوه المأمون قتل الإمام الجواد (ع) بدسّ السم عن طريق ابنته ــ زوجة الإمام الجواد ــ  فمضى (ع) شهيداً صابراً محتسباً, فسلام عليه يوم ولد, ويوم يموت, ويوم يبعث حيا مع آبائه الطاهرين وأبنائه المنتجبين.