akdak

المقالات

قسم التأريخ

اسس دراسة تاريخ البشرية

180

حيدر محمد الكعبي

تمثل الوقائع البشرية العامة القديمة والحديثة مادة خصبة للدراسة والتحليل وجمع التجارب العامة وتشخيص الحلول الناجعة بعيدة المدى، إذ تفيد كثيرا في تفسير مجريات الأحداث التاريخية من بين كل الملابسات لاستخلاص العبرة واستنباط المنهج المناسب لبناء مستقبل يمكن أن تذوق البشرية فيه طعما للراحة بعد رحلة شاقة من المعاناة والشدائد.
ولكن السؤال الكبير الذي يطرح في هذا المجال: ما الأسس المتينة التي ينبغي للمفكر أو الباحث أن يعتمدها من اجل فهم تاريخ الأمم على مر الدهور، وما المرتكزات النظرية التي يعتمدها الإنسان في سعيه لأجل إصلاح المشاكل العويصة للمجتمعات الإنسانية بشكل عام؟

إن الفائدة التي يمكن أن تجنى من إثارة هكذا مباحث في وقتنا الحاضر بالذات – مع انها ليست إثارة جديدة- تتمثل في جانب منها بتصحيح ردود الفعل الفكرية التي أخذت تبرز في مجتمعاتنا الإسلامية بالذات بسبب تكرر حدوث القوارع التي عصفت ولا تزال تعصف بهذه المجتمعات لأسباب – داخلية وخارجية- يمتد تاريخ بنائها إلى عصور ضاربة في القدم .
وردود الفعل هذه قد تتخذ أشكالا وألوانا مختلفة تدعو إليها بالقول أو تجسدها بالفعل مجاميع من المثقفين والمفكرين، منهم من يتطلع للالتحاق الكامل بركب الثقافات المحدثة التي فرضت نوعا من السيادة العالمية، ومنهم من يحاول تحوير ما يمتلكه من تراث فكري بحيث يجعله خليطا من ثقافات انتقائية متعددة، ومنهم من يحاول أن يعيد إحياء تراثه بلباس متعصب يُفرض على الواقع الاجتماعي فرضا ولا يتعايش مع أي رأي مخالف له.
مناهج دينية كمنطلقات فكرية:
هل أن الأسس الفكرية التي يجب أن يعول عليها في دراسة التاريخ تتمثل بالديانات المحدودة المتفرقة في عالم اليوم, التي تمحورت حول مبادئ خاصة بجماعة دون جماعة لا يطيق الكثير من الناس الدخول فيها والاستفادة من تعاليمها؟ هل هي ديانات انكفأت على أهلها حتى أضحت نظاما قوميا يختص بفئة محدودة دون غيرها كالديانة اليهودية مثلا، بحيث لا يمكن لمحدوديتها ان تقدم كافكار عالمية شاملة لمشاكل الانسانية؟
وهل أن الديانة المسيحية – باعتبارها ديانة أممية- تصلح لان تكون أساسا فكريا سليما لدراسة التاريخ؟ هذه الديانة التي اتخذت في أوج قوتها وحاكميتها المعاصرة – في المجتمع الأوربي خاصة- صورة الطغيان والتعصب الخانق الذي أدى فيما بعد إلى انفجار المجتمع ضدها وإلغاء فاعليتها الاجتماعية ؟
لعله يقال أن ما كان من أمر الكنيسة قبل القرن الثامن عشر الميلادي لا يمثل المسيحية كنظام فكري أصيل، وإنما هو نتيجة لانحراف الذين كانوا يتسترون بلباس القساوسة لأجل نيل الجاه والمصالح الشخصية.. وهذا الكلام في أصله صحيح، ولكن ممثلوا الدين المسيحي بعد أن تجاوزوا تلك الفترة لم يقدموا المسيحية كحل أفضل رغم ذلك، لأننا نجد أن هذا الدين اليوم – في أفضل صوره- يتمثل بمؤسسة تدأب على رفع الشعارات الجميلة حول الفضيلة والمحبة التي لا تسمن ولا تغني من جوع في خضم الكم الهائل من النزاعات التي يفتعلها كبار النفعيين المؤثرين في مجريات الشأن العالمي.
المدنية الحديثة كمنطلق فكري:
هل أن المنهاج الفكري للحضارة المدنية التي تعتمد القوانين الوضعية بشكل أساس- التي يعود تاريخ نشوئها إلى زمن روما القديمة وتبلورت على يدي الثورة الصناعية- يصلح لأن يكون منطلقا فكريا لدراسة الواقع البشري؟
إن هذه المدنية لم تقدم للبشرية حلا جذريا أصلا، لأننا لا نحتاج إلى كثير تأمل واستدلال لكي نتبين أن المدنية المادية – مع انها هي الحاكمة فعلا في معظم بلدان العالم- لم تُهيئ للبشر فرصة أفضل للعيش بسلام، ففي ظلها نجد أن الظلم والقسوة والوحشية التي كنا نسمع بها في تاريخ القرون الوسطى تتجسد على نطاق واسع هنا وهناك، بل لقد صارت المدنية في بعض الحالات وسيلة لارتكاب جرائم شاملة تارة، وغطاء لمرتكبي الجرائم على شكل تبرير أو تزييف للحقائق تارة أخرى، ولا زال الإنسان يتجرع مرارة الظلم والفساد في ظل هذه الحضارة ذات المظهر الأنيق.
إن القوانين الوضعية المدنية لم تكن موضوعة لأجل غايات إنسانية صرفة، ولو ادعى ذلك إنسان فهو مُدعٍ كاذب، وإنما تسعى الحضارة المدنية في واقعها إلى تحقيق المصالح المادية للمجتمع الذي يتبناها، وبما أن المنافع المادية كثيرا ما تتعارض مع الغايات الإنسانية الأخلاقية النبيلة.. وبما أن المدنية تفتقر تماما إلى التعاليم العملية التي تجعل الإنسان يتخلى عن منافعه الآنية لصالح تلك الغايات المعنوية.. فان دعوى كون المدنية هي الحل الصحيح لمنع ظلم القوي للضعيف – على مستوى فرد تجاه فرد أو مجتمع تجاه مجتمع- دعوى باطلة أولا وأخيرا.
الإسلام كمنطلق فكري:
ان المنطلقات الفكرية الأساسية السليمة التي لا بد أن ينطلق منها الإنسان في دراسة تاريخ البشرية للخروج بحلول لمشاكلها هي الشريعة الإسلامية التي تجسدت بأقوال وأفعال مشرعها الأعظم(صلى الله عليه وآله).
إننا لو استثنينا الإسلام من قائمة الأسس الفكرية عن واقعنا البشري، فما الذي يبقى لدينا من المناهج الفكرية المعاصرة التي يمكن أن نطمئن لها في دراسة التاريخ دراسة صحيحة للحصول على نتائج فكرية سليمة بعد أن بينا طرفا من عجز ونقص الكثير من الأنظمة المعروفة على ساحة اليوم؟
إن الإسلام بما يمتلكه من رصيد فكري شامل يجسد نظاما عاما للناس.. ويؤكد على العناصر الغيبية التي تتمثل بالجزاء على الأعمال في ما بعد الموت بحيث يدفع أتباعه إلى إيثار الفضيلة وعدم التعدي على حقوق الآخرين ولو على حساب المنافع الذاتية.. ولكونه عقيدة فاعلة تتحكم بالعلاقات الاجتماعية على أساس الحق من خلال تطبيق احد أهم فرائضه «الواجبة» وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وباعتبار انه الشريعة التي أنجبت خيار العلماء العاملين الذين تجسدت فيهم تعاليم الإسلام الصحيحة في كل العصور – بحيث يمكن أن يقدمهم كنموذج واقعي للتعاليم الإسلامية لا يخضع لأي جهة أو مصلحة دنيوية- فان كل هذه الامتيازات التي يمتلكها الإسلام تجعله هو المنهاج الصالح الذي يعتمد في تفسير وفهم التاريخ من ناحية واستنتاج الحلول المثلى لمستقبل البشرية من ناحية أخرى.

نشرت في الولاية العدد 80