akdak

المقالات

قسم الأدب و اللغة

خواطر في الشعر واللغة

169

شهيد الشمري

الشعرُ ديوان العرب، سِفرٌ عريق حفظوا فيه مآثرهم ووثقوا بوساطته آمالهم وآلامهم، سطّروا فيه حوادثهم وهو جزء من تأريخ، فحفظت لنا القوافي جزءاً كبيراً من واقع الأمة، تحتل البلاغة فيه حيزاً مرموقاً ويبرز الشعر فيه معبراً أصدق تعبير عن ضمير هذه الأمة (قبائل، وإمارات، وكيانات) ولذا فقد كان الشاعر يولد متألقاً مجيداً للشعر في قبيلة ما من أمة الضاد حتى تعم الأفراح وتغيب الأتراح، وتغمر النفوس مسحة من حبور مضمخ بالفخر، كيف لا ، والشاعر يحتل من المكانة والتأثير ما تحتله الصحيفة الغراء واسعة الانتشار في زمننا هذا .. وقد يتعداها تأثيراً إلى مستوى فضائيات حاضرنا بلا منازع.

أغراض الشعر
وللشعر أغراض وفنون، وهي ثابتة مذ قال العرب أول بيت فشاع وذاع .. وأهمها: المدح والقدح، الوصف والفخر، وكم من قصيدة رفعت قوماً وأخرى حطت من شأن آخرين، وما أحرى أن نذكر (بني أنف الناقة) وما كانوا عليه قبل أن يرفعهم الحطيئة جرول ببيته الذائع الذكر:

قومٌ همُ الأنفُ والأذنابُ غيرهم
ومن يساوي بأنفِ الناقةِ الذنبا

ووحدةُ القصيدة -أية قصيدة- بيت يليه آخر حتى تستوفي شروط سمتها (قصيدة)، وتقاس جودة الشاعر وبراعته بوحدة فكرته ورزانة عرضه وجمال تصويره وحسن بنائه.
والبيت: صدر، وعجز، وقد يكتفي الشاعر بصدر بيت ليوصل فكرة محترمة، كقول المتنبي: (على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ).
نعم لقد جاء بمقولة مأثورة وهي حقيقة ناصعة في شطر بيت فقط .. وكان رائعاً أن يكمل الفكرة جديراً بها ليقول مكملاً البيت: (وتأتي على قدر الكرام المكارم)، ومن أجدر بهذا سوى أبي الطيب وقلةٌ معه من عمالقة المهنة -أوائل ومعاصرين.
وهناك أبيات يحتاج صدرها إلى عجز وإلا فهي عديمة المعنى سائبة الفكرة مبهمة القصد كقول ابي القاسم الشابي: (إذا الشعب يوماً أراد الحياة)، فهل يمكن أن نكتفي بهذا الشطر (الصدر)؟ إذن لابد أن يأتي أبو القاسم بعجز ليولد أروع بيت في الشعر الحديث لم يسقط عن ذاكرة المنشدين.. بيت بشطريه ارتقى إلى مصاف الأمثال والحكم:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر

وقد نقرأ المقطوعة الشعرية أو النتفة فلا تؤثر فينا إلا بعد أن نقرأ آخر بيت فيها بتعمد الشاعر تغييب هذه الفكرة إلى أجل قريب مسمى كقولهم:

ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني
بها كبداً ليست بذات قروحِ

بيت ساذج إلى حد كبير .. ولكن نقرأ البيت الثاني الذي يليه وهو: أباها عليَّ الناسُ لا يشترونها).
نعم من الجميع أن لا يشتروا هذه الكبد المقروحة وهم معذورون في ذلك.. ولكن لنكمل: (ومن يشتري ذا علّةٍ بصحيح؟) لننظر إلى حجم اللوعة في الشطر الأخير من الأبيات: (ومن يشتري ذا علة بصحيح)، وأيم الله لقد برر هذا التساؤل المليء بالألم والحسرة سذاجة ما سبقه من شعر.. وهكذا..

المطلع نصف القصيدة
وللقصيدة (مطلع) ويقال إن المطلع نصف القصيدة.. وأقول بل هو القصيدة كلها.. والمطلع حجر الأساس، بل هو المدخل إلى فكرة قد يوفق الشاعر في جعلها بمستوى ما يريد عرضه أو لا يوفق.. وكم من مطلع يكفينا ثرثرة ما بعده.. وكم من قصيدة أعلى من مطلعٍ وأسمى منه.. والقصائد الخالدات للشعراء الخالدين من الأولين والآخرين هي التي استوفت -مطالع- وبناءً تلاها.. ونذكر من المعاصرين مطلع قصيدة السيد مصطفى جمال الدين:

بغدادُ ما اشتبكت عليك الأعصرُ
إلا ذوتْ ووريق عودك أخضرُ
أو المطلع الذي طلع به الجواهري الكبير بعد طول مخاض وعسر ولادة حتى جاء ما طبق الآفاق:

قف بالمعرة وامسح خدها التربا
واستوحِ من طوق الدنيا بما وهبا

وكم من مطلع رائق يحملك على جناحيه مع سلسلة من أبيات تحاكيه حتى يلج الشاعر إلى الغرض الرئيس للقصيدة .. وهذه المطالع تبدأ بالغزل .. فجاء من شعراء العصر الحديث ما حاكى ذلك موفقاً، فهذا السيد رضا الهندي يبدأ موفقاً بمطلع حلوٍ سيظل خالداً خلود من قيل بحقه -وهو الامام علي عليه السلام.

أمفلج ثغرك أم جوهر ؟
ورحيقُ رضابك أم سكّر ؟
قد قال لثغرك صانعه:
إنا أعطيناك الكوثر

وهكذا.. ولنا كلام في السياق كثير ولكن نعرج على الجانب الآخر من هذه الخواطر وهو ما يخصُّ اللغة.. ولغة الضاد بالذات، فهل هناك أروع مما قال فيها:

أنا البحر في أعماقه الدرّ كامنٌ
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟

وللغة مفردات..
ولا أروع من لغة العرب.. وفي اللغة -أية لغة- خطأ شائع وصحيحٌ مغمور.. ورحم الله العلامة العراقي (مصطفى جواد) ورعا الله تراثه وأبقاه.. ولن يغيب عن ذاكرتنا برنامجه الخالد الأثير (قل ولا تقل) وبفضل هذا الأثر الإذاعي والتلفزيوني كنا نقول خطأ فتحولنا إلى غيره صواباً.. فهل أروع من عدولنا عن: (منتزه) خطأ إلى (متنزه) صواباً، و(الصيدلية الخفر) خطأ إلى (الصيدلية الخافرة) وهو الصواب، وإن كان ليس كل ما أشار إليه -رحمه الله- أُخذ به فلقد قال: (نقلات الموظفين ونقولهم) بدلاً من (تنقلات الموظفين).. فما زالت مديريات التربية في عموم العراق تورد مصطلح (تنقلات الموظفين) خطأ.
وأقول لقد خرجت أخيراً قوائم نقول المعلمين والمعلمات والمدرسين والمدرسات، فلم أجد ضالتي في قوائم تلك النقولات..
وللكلام صلة والسلام عليكم فقد صبرتم عليَّ وأنتم الأعلون.

نشرت في الولاية العدد 88