لم يكن الدافع من كتابة هذا الموضوع هو إثارة الصراعات والنزعات المذهبية في بواطن التاريخ أو تجديد الحديث عن تلك العصور التي امتلأت بالحوادث المؤلمة بإضفاء بعض الرؤى المستجدّة عليها وعلى شخصياتها فـ (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، بل كان الدافع هو قراءة هذه الحوادث قراءة موضوعية محايدة تُشعر القارئ بتلك النكبات والمآسي والويلات التي أصيبت بها أمتنا الإسلامية عبر العصور، والتي قد تحد من النظرة الطائفية التي انزلق بها الكثير والتي لم تجلب للمسلمين سوى الدمار والخراب، كما هو تعريف بأولئك المجرمين الذين لازال البعض يمجّدهم ويضع حول أسمائهم هالات التقديس وينظر من زاويته الطائفية إلى جرائمهم وأعمالهم الوحشية بعين الإجلال.
بما أن التاريخ هو نتاج مراحل متعددّة وسياق يتحرك باستمرار، وقد حمل أحداثاً ودروساً متباينة فإن الأمم تفتخر بإبراز الجوانب الحضارية في تاريخها وتعمل على تكريس العوامل التي ساهمت في نجاحها وتطوّرها، كما تحرص على إبراز المراحل المشرقة التي ارتقت فيها على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية وتولي اهتماماً بدراستها والاستفادة منها للإرتقاء بالمجتمع، والاتعاظ من المراحل المظلمة التي عاشتها وأخذ العبرة من دروس الماضي في المستقبل.
وهي تحرص على أن تعكس حقائق التاريخ بشقّيها المزهر والمظلم إلى أذهان الأجيال بما يعود بالفائدة من كليهما عليهم، ففي الوقت الذي تجعلهم يستنيرون بإشعاعات الماضي وتحثهم على مواصلة هذه المسيرة، فإنها تقدّم لهم الجانب المظلم كما هو بما يحمل من مآس وفظائع ونكبات لكي تتجنبه الأجيال وتحذّرهم من الوقوع في مزالقه وغياهبه.
إنها تنقل لهم حقائق التاريخ بنظرة محايدة لا تقودها الأهواء والنزعات المذهبية والعرقية، فدراسة المؤرخ نفسه مهم قبل دراسة التاريخ لأن المؤرخ هو من نتاج التاريخ والمجتمع أيضاً وهو معرّض للإصابة بأمراض التعصّب، فاختيار التاريخ النقي مهم جداً لتتعلم منه الأجيال وتتأمل وتستخلص الدروس، ومن ثم تنتقي الجوانب المشرقة التي ترسم لها المستقبل السعيد.
إنها تنقل التاريخ وتضع في الدرجة الأساس من تفكيرها السؤال: إلى أين سيقودهم هذا التاريخ ؟ وبماذا سيعود عليهم من نتاجه ؟
أجل إلى أين سيقودهم هذا التاريخ ؟ وبماذا سيعود عليهم من نتاجه ؟ هذه هي الخلاصة من دراسة التاريخ، وهو ما يجب أن نطرحه على أصحاب الأقلام المأجورة الملوّثة، والعقول العفنة، والقلوب الحاقدة على الإسلام وأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم من الوهابيين وأتباعهم والذين لا ينفكون عن التحريض ضد الشيعة والدعوة إلى سفك دمائهم وإبادتهم ؟
نقول لهم: إلى أين وأنتم تتلذذّون بقتل الشيعة وتمجّدون التاريخ المظلم لأسلافكم والملئ بالمجازر الدموية، والجرائم البشعة، وعمليات الإبادة الجماعية ؟
إلى أين وأنتم تنفّسون عن أحقادكم بالنزو على منابركم نزو القرود لكي تتشفّوا بقتل الشيعة، وتستثيرون أقلامكم المأجورة على التحريض والعداء للشيعة، وتحثّون وسائل الإرهاب والدمار والخراب على الإجهاض على الأمة الإسلامية كافة وليس على الشيعة فقط، وإن كان الشيعة قد نالوا النصيب الأوفر من حقدكم وإرهابكم ؟
فهذه الفرقة الضالة المضلة المتوحشة التي فاقت في توحشها القبائل البدائية قد سخرّت كل ما لديها من إمكانيات ووسائل وأسلحة لهدم وتخريب وتقويض الإسلام وما جاء به الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) من قيم ومبادئ تهدي الناس إلى الخير والصلاح والسلام.
لقد عملت هذه الفرقة واجتهدت على شراء الضمائر وتسخير الأقلام للكذب والإفتراء على الشيعة وتلويث تاريخهم الناصع والحافل بالمنجزات العظيمة والعطاء الثر، وبذلت أقصى جهودها للتحريض على قتلهم والطعن برموزهم الذين هم رموز الإسلام، كما عملت على تمجيد قتلة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم والدعوة إلى الإقتداء بالسياسة الدموية للأمويين وغيرهم من الطواغيت تجاه التشيع.
فأيّة أمّة تلك التي تمجّد القتلة والمجرمين والمعتوهين والمخنّثين والطواغيت والساديين، وتلوّث سيرة الصالحين والمصلحين والثوار والعلماء وقادة الفكر والحضارة ؟
أيّة أمّة تتناقل وتزوّق إلى أجيالها جرائم خالد بن الوليد السفاح، ومعاوية المجرم، والوليد الخليع، والحجاج الطاغية، وهارون الغوي، والمتوكل الفاسق، وخراب الدين الأيوبي، وطغرل بك السلجوقي، والمعز بن باديس الصنهاجي، و.... ثم تبرر جرائمهم الفظيعة باسم الإسلام الحنيف، بل وتفخر بها لأنهم أوغلوا في دماء الشيعة وطاردوهم ونكّلوا بهم وقتلوهم تحت كل حجر ومدر لا لشيء إلا لأنهم شيعة ؟
هكذا ينتقي الوهابيون رموز الإجرام في التاريخ ليقدّموها إلى الأجيال وليقتدوا بها، فأي حقد توارثوه وجُبلت عليه قلوبهم وهم ينعقون في كل مكان: اقتلوا الروافض الذين يسبون الصحابة !! هذه الإيقونة الساذجة والغبية التي يتشدّقون بها وتلوكها أفواههم القذرة في كل مكان وزمان والتي أفرزتها عقولهم الخاوية وقد مللنا والله سماعها، ولم تعد تنطلي على أحد، وقد عرف كل إنسان منصف كذبها وزيفها، وهي سلاحهم الوحيد الذي يستخدموه ضد كل من يواجههم بحقائق التاريخ التي أثبتت كذبهم وافتراءاتهم فتهاووا أمام أسلحة الحقيقة.
ونحن لا نعجب من تحريض أحفاد آكلة الأكباد على قتل الشيعة، ولكن نعجب ممن يصدق دعواهم وأكاذيبهم ويتبعهم في أباطيلهم، هلا راجع التاريخ ولو قليلاً ليرى بعينيه من الذي سبَّ الصحابة الأجلاء (رضي الله عنهم وأرضاهم) من السابقين الأولين إلى الإسلام وأساء إليهم ونكّل بهم وقتلهم ؟
هلا راجع التاريخ ليرى من الذي ضرب الصحابي الجليل عمار بن ياسر (الطيب المطيب) حتى أغمي عليه، وضرب عبد الله بن مسعود الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (خذوا القرآن عن ابن أم عبد)، ونفى الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على أصدق لهجة من أبي ذر) ؟
هلا راجع التاريخ ليرى من أمر بسبِّ الصحابة على المنابر وقتلهم، فسبَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكتب بذلك إلى جميع البلاد بأن يُسبَّ على المنابر، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من سب عليا فقد سبني).
هلا راجع التاريخ ليرى من الذي قتل الصحابي حجر بن عدي الكندي الزاهد العابد، وقتل الصحابي عمرو بن الحمق الذي شهد له رسول الله بالجنة ؟ هل هم الشيعة أم من تمجدونهم ؟
والآن لنستمع إلى ابن الأثير وهو يروي لنا هذه الجريمة المنكرة والمجزرة الفظيعة التي ارتكبت بحق الشيعة من قبل المجرم المعز بن باديس الصنهاجي في أفريقيا وتحديداً في تونس ثم نستعرض المبررات الواهية التي وضعها الملفّقون لتبرير هذه الجريمة والتي لا تستند إلى حقيقة ولا يقوم لها دليل، يقول ابن الأثير في (الكامل في التاريخ ج9ص294-295 ط. دار صادر) في حوادث سنة (407هـ):
(في هذه السنة، في المحرّم، قُتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية. وكان سبب ذلك أن المعزّ بن باديس ركب ومشى في القيروان، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة، فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر ! فانصرفت العامّة من فورها إلى درب المقلى من القيروان، وهو مكان يجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعاً في النهب، وانبسطت أيدي العامّة في الشيعة، وأغراهم عامل القَيروان وحرّضهم.
وسبب ذلك أنّه كان قد أصلح أمور البلد، فبلغه أنّ المعزّ بن باديس يريد عزله، فأراد إفساد البلد، فقُتل من الشيعة خلق كثير، وأُحرقوا بالنار، ونُهبت ديارهم، وقُتلوا في جميع إفريقية، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قرب القيروان، فتحصّنوا به، فحصرهم العامّة وضيّقوا عليهم، فاشتدّ عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قُتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمَهديّة إلى الجامع فقُتلوا كلّهم.
وكانت الشيعة تُسمّى بالمغرب المشارقة نسبة إلى أبي عبد الله الشيعيّ، وكان من المشرق، وأكثر الشعراء من ذكر هذه الحادثة، فمن فرِحٍ مسرورٍ ومن باكٍ حزينٍ).
هذا كلام ابن اأثير نصّاً في نقله لهذه الجريمة المروعة والوحشية وهي جريمة لا تغتفر بحق الإنسانية ولا يمكن تبريرها أبداً بأي مبرر آخر سوى ما وضعه ابن الأثير من مبررات صريحة وأسباب واضحة وهي: القتل من أجل السلب والنهب وإفراغ شهوة القتل لا غير، فالغاية هي إرضاء نفوسهم السادية المريضة بالقتل والحرق، أما عامل القيروان فأراد أن ينفس عن غضبه لعزله ويطفئ ما اعتمل في صدره من الغيظ بدماء الشيعة !!
والذي يزيد الأمر فظاعة وبشاعة إنها لم تكن الجريمة الوحيدة في أفريقيا كما يدلنا على ذلك قول ابن الأثير بل سبقتها وتبعتها العديد من الجرائم والمجازر بحق الشيعة في أماكن متعددة.
يقول السيد حسن الأمين في دائرة المعارف الإسلامية الشيعية (ج2ص143): (وعبارة ابن الأثير تدل على أن الأمر لم يقتصر على هذه الحادثة وحدها فهو يقول: قتلت الشيعة بجميع بلاد أفريقيا) ثم يستدل على ذلك بما جاء في (رحلة التيجاني) وهو كتاب ألفه أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد التجاني في القرن الثامن الهجري، ويعد أهم مصادر تاريخ تونس، والذي يؤكد هذه الحقيقة حيث يشير إلى وقوع مثل هذه الجريمة في طرابلس يقول التيجاني: (لما كانت في أفريقيا الوقعة المعروفة بوقعة المشارقة سنة سبع وأربعمائة قتل فيها الشيعة وأتباعهم، وعلى يد الفقيه أبي الحسن كان قتل من قتل بطرابلس منهم).
ويذكر هذه الحقيقة السيد محسن الأمين في كتابه (الشيعة في مسارهم التاريخي) (ص85) حيث يقول: (وفي سنة (407هـ) قتلت الشيعة في المغرب قتلاً عاماً أيام المعز بن باديس)، كما يشير الأميني في صفحة (683) من نفس الكتاب إلى جريمة أخرى بحق الشيعة وعلى يد المعز أيضاً بعد (28) عاماً من تاريخ تلك الجريمة أي عام (435هـ) حيث يقول في معرض حديثه عن الفاطميين: (واستمرت الخطبة لهم بأفريقيا إلى سنة (435هـ) فأزال خطبتهم المعز بن باديس الصنهاجي وخطب للقائم العباسي، وكاشف المستنصر الذي بمصر بخلع الطاعة وقتل من كان بأفريقيا من شيعتهم).
ويظهر من هذا الكلام إن عمليات الإبادة ضد الشيعة كانت مستمرة طوال هذه السنين ومما يؤكد ذلك أنه في زمن الفاطميين لبلاد المغرب العربي كثرت الشيعة فيها حتى صار جل أهلها شيعة ولا نرى أثراً لذلك اليوم فعمليات الإبادة كانت منظمة ومدروسة لإبادة الشيعة والتشيع في أفريقيا ومحو كل أثر لها.
ولاقتفاء آثار تلك الجرائم وأسبابها لابد من اقتفاء آثار وصول التشيع إلى أفر يقيا الشمالية وبلاد المغرب للتعرف على ملابسات الأحداث، واليد التي دبرت هذه الجرائم، ومن هو المعز بن باديس ؟ وأبو الحسن (الفقيه) ؟ وغيرهم من رموز هذه الجرائم ؟
بدأ غزو العرب المسلمين الشمال الأفريقي (تونس) سنة (27هـ/647م)، لكنه لم يدخل بمفهوم الإسلام الصحيح الذي جاء به الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) بل عن طريق الغزو البربري الأموي أيام عثمان حيث غزاها عبد الله بن أبي سرح (طريد رسول الله) وألد أعدائه ثم تكرر الغزو سنة (45هـ) لكنهم لم يستقروا بها ولم يتركوا وراءهم شيئاً يذكر.
وكانت تلك الغزوتان تمهيداً لدخول عقبة بن نافع الذي أرسله معاوية سنة (50هـ) والذي أدت سياسته الهمجية تجاه البربر إلى مقتله على أيديهم عام (64هـ) مع مجموعة كبيرة من جنده وقادته حيث اتبع سياسة التعسّف والتسلّط والإذلال تجاههم، واستعمل ذلك حتى مع ملوكهم فقد أمر ملكهم كسيلة بسلخ الغنم لطعام جيشه فانتفض كسيلة وجمع قبيلته وقتلوا عقبة وأتباعه في المغرب.
أدت سياسة الإرهاب والتوسّع والنهب والسلب وهتك المحرمات والحرمات من قبل الولاة الأمويين إلى اندلاع الكثير من الثورات والإنتفاضات ضدهم، وهذا ما آلت إليه صورة الإسلام والنظرة إليه زمن الأمويين الذين شوّهوا الهدف النبيل والسامي الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتحرير الإنسان من ربقة الذل والعبودية، فقد عمل الأمويون بالضد من هذا الهدف النبيل فسعوا إلى استعباد الناس وإذلالهم ونهبهم وهتك حرماتهم باسم الإسلام.
وبقيت الثورات قائمة حتى أرسل عبد الملك بن مروان أحد مجرميه وهو زهير بن قيس البلوي الذي استطاع القضاء على المقاومة البربرية سنة (64هـ)، لكن البربر كانوا قبائل حرة قوية تأبى الذل والخضوع والإستسلام فكانت تنظم مجاميعها مرة أخرى بعد كل هزيمة، واستمرت المقاومة حتى جاء حسان بن النعمان الغساني (سنة 78هـ) الذي استطاع أن يستولي على أفريقيا بعد مقاومة شديدة من البربر, وجاء بعده موسى بن نصير الذي عزله عبد الملك فرجع حسان ليجد أن المقاومة قد ازدادت قوة.
نظمت مقاومة البربر امرأة تدعى (الكاهنة) واستعانت بالروم من بيزنطة ولم يستطع حسان القضاء على البربر إلا بعد مواجهات ومعارك شرسة كبدته كثيراً من رجاله وذلك عام (81هـ) ثم استولى بعدها على قرطاجنة بعد أن حاصرها براً وبحراً.
أما بالنسبة إلى تاريخ دخول التشيع إلى افريقية الشمالية فليس هناك تاريخ محدد لدخوله ولكن هناك دلائل ومؤشرات تؤكد على أن التشيع دخل مبكراً مع دخول الفاتحين، لكنه لم يدخل كدخولهم بالسيف بل دخل بالسلم عن طريق التجار والدعاة والهاربين من بطش طواغيت بني أمية وبني العباس كما يظهر من قول السيد حسن الأمين في دائرة المعارف الإسلامية الشيعية (ج2ص143 باب أفريقيا) حيث يقول: (التشيع كفكرة ومذهب دخل أفريقيا الشمالية كما دخل الأندلس وأخذت به جماعات كثيرة ولكن لم ينتشر ولم يتركز ويصبح دولة إلا عندما دخل إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى المغرب والتفّت حوله القبائل الأفريقية ثم زاد التشيّع توسّعاً وانتشاراً بقيام الدولة الفاطمية).
ومن المعروف أن الدولة الإدريسية قامت عام (172هـ) وهذا يعني أن الشيعة كانوا متواجدين في أفريقيا الشمالية قبل هذا التاريخ بكثير كما يدلنا على ذلك قوله: (وأخذت به جماعات كثيرة).
وهناك ما يؤكد على أن شيعة أفريقيا كانوا على اتصال مع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) منذ زمن الإمام الباقر (عليه السلام) وربما قبله، حيث يروي محمد بن جرير بن رستم الطبري وهو من علماء الشيعة في القرن الرابع الهجري في كتابه (دلائل الإمامة) (ص100) عن أبي بصير ما نصه: (سمعت أبا جعفر يقول لرجل من أهل افريقية: ما حال راشد ؟ قال: خلفته صالحاً يقرؤك السلام.. فقلت له: أيما كان الرجل؟ قال: كان لنا ولياً ومحباً من أهل افريقية، يا محمد والله لئن كنتم ترون أنا ليس معكم بأعين ناظرة وآذان سامعة لبئس ما ترون،والله ما خفي ما غاب..).
ومن المعروف أن الإمام الباقر ولد عام (57هـ/676م) وتوفي عام (114هـ /732م) وهذا يعني أن الشيعة كانوا متواجدين في أفريقيا قبل المائة الأولى وكانوا يتلقون الأحكام والتعاليم من أئمة أهل البيت، كما يدلنا على العلاقة بينهم (عليهم السلام) وبين البربر واتصالهم بهم هو أن زوجة الإمام الصادق (عليه السلام) وأم الإمام الكاظم (عليه السلام) كانت بربرية وهي السيدة حميدة المصفاة (عليها السلام).
عُرف في أفريقيا داعية شيعي باسم عبد الله الشيعي كان له دور فاعل وبارز في انتشار التشيّع ونشره بين الناس، كما كانت له يد في تأسيس الدولة الفاطمية، فقد تشيّعت قبيلتا صنهاجة وكتامة وهما أكبر قبيلتين للبربر، وكانت دولة الأغالبة التي أسسها الرشيد العباسي سنة (184هـ) تعيش مرحلة الإحتضار، فدعا عبد الله إلى دولة شيعية بالمغرب على أنقاض الأغالبة وكان يدعو إلى عبد الله المهدي الفاطمي، وقاد حركة مسلحة انتهت بفرار زيادة الله الأغلبي آخر ملوك الأغالبة فدخل عبد الله الفاطمي القيروان وبُويع له خليفة للمسلمين، واتخذ من المهدية عاصمة له، وأخضع المغرب العربي كله لنفوذه بعد أن قضى على الدولة الأباضية في الجزائر والصفرية في سلجماسة.
ويدلنا قيام الدولة الفاطمية سنة (296هـ) على أن التشيّع كان منتشراً ومعروفاً بين البربر منذ زمن الأدارسة ويؤكد ذلك دعم البربر للفاطميين وخاصة قبيلتا كتامة وصنهاجة اللتين تبوأ زعماؤها مناصب عليا في الدولة الفاطمية لمناصرتها والمساهمة في تأسيس الدولة، حيث استطاعت قبيلة صنهاجة بقيادة قائدها بلكين بن زيري بن مناذ أن تقضي على عدو الفاطميين اللدود الخارجي أبو يزيد مخلد بن كيداد الذي حاصر عاصمتهم المهدية، فاستطاعت فك الحصار عن الفاطميين والقضاء على الخارجيين، فلم ينس لهم الفاطميون هذا الجميل فقرّبوهم وأشركوهم في الحكم فكانوا أمراء على الشمال الأفريقي.
بعد استتباب الأمر للفاطميين على الشمال الأفريقي تطلّعت أنظارهم إلى مصر حتى استطاع قائدهم جوهر الصقلي فتحها سنة (969م) وبناء مدينة القاهرة، وجامعها الأزهر، فانتقلت الخلافة الفاطمية إلى مصر وبقي المغرب العربي ولاية تابعة لها يقودها الزعيم البربري الصنهاجي بلكين بن زيري بن مناذ وهكذا تأسست (الدولة الصنهاجية) أو (الدولة الزيرية) نسبة إلى زيري والتي تعتبر أول دولة بربرية في أفريقيا بعد الفتح الإسلامي، وكانت تدين بالولاء للفاطميين الذين مهدوا لها ودعموها.
كانت قبيلة صنهاجة موالية للفاطميين وساهمت مساهمة فعّالة وكبيرة في إقامة دولتهم كما رأينا في نصرتها لهم، ولم يتنكّر الفاطميون لهذا الإحسان كما يتنكر العباسيون لمن يمدّ لهم اليد بالقطع ويجازونه جزاء سنّمار، بل أن الفاطميون جعلوهم أمراء على الشمال الأفريقي وقرّبوهم وشاركوهم في الحكم، وقد حكموا في شمال أفريقيا الجزائر وتونس وأجزاء ليبيا، وقد ولّى الخليفة الفاطمي الزعيم الصنهاجي بلكين بن زيري على بلاد المغرب حينما انتقل إلى القاهرة وأقسم له هذا الأمير بالولاء والوفاء.
وبعد وفاة بلكين تولى الإمارة ابنه المنصور الإمارة والذي أرسل هدية للخليفة الفاطمي كقربان للخليفة أو كإشارة على خضوعه له, ومن جانبه أقر الخليفة العزيز بالله الفاطمي تولية المنصور الولاية على إفريقية خلفا لأبيه، وبعد وفاة المنصور بن بلكين تولى ابنه باديس الذي تولى الإمارة كعادة أسرته على طاعة الفاطميين، ولكن باديس قتل في ظروف غامضة عام (407هـ) وآلت الإمارة إلى زوجته بالوصاية على ابنه المعز الذي كان يبلغ من العمر سبع سنين وشهرين والذي وقعت في عهده الجريمة في نفس السنة التي مات فيها أبوه.
بدأت خيوط الجريمة بل جرائم الإبادة الجماعية ضد الشيعة تُحاك في عهد باديس، وربما في زمن أبيه المنصور وهما لا يعلمان، فما عدا مما بدا لكي تنقلب هذه القبيلة على الدولة الفاطمية وترتكب هذه المجازر الرهيبة بحق الشيعة وقد كانت تدين لها بالولاء ؟
لنستمع إلى المؤرخ ابن عذاري المراكشي (أبو العباس أحمد بن محمد بن عذاري) وهو يكشف لنا الخيوط الأولى لهذه الجريمة في كتابه (البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب) (ج1ص273/274) حيث يقول: (ففي عهد باديس انشقت الدولة الصنهاجية حيث خرج حماد بن بلكين عم باديس على ابن أخيه وأسس إمارة مستقلة تعرف باسم (أشير) وأعلن فيها الطاعة للعباسيين والخروج على الفاطميين ثم أمر بقتل كل من كان يذهب مذهبهم ـ أي الشيعة ـ ، ثم اتجه إلى باجة التي كانت موطناً لهم فاستولى عليها وأباد جموعهم سنة (405هـ).
هذه الجريمة الأولى بحق الشيعة في أفريقيا وهي قبل جريمة ابن باديس ولا يعرف أسبابها ومبرراتها سوى الأسباب والمبررات للجريمة التي تلتها والتي نقلناها عن ابن الأثير وكانت جريمة حماد في عهد ابن أخيه باديس وقبل مقتله بسنتين.
وفي الوقت الذي كان قاد حماد هذه الهجمة الوحشية على الشيعة لإبادتهم كانت هناك مؤامرة أخرى لجريمة أبشع تحوك خيوطها يد شيطان بصورة امرأة وهي زوجة باديس الذي قُتل في ظروف غامضة عام (407هـ) لتؤول الإمارة إليها بالوصاية على ابنها المعز بن باديس الذي لم يتجاوز عمره الثامنة ولتقع في نفس السنة تلك الجريمة البشعة.
وقد وصف ابن كثير هذه الجريمة أيضاً في (البداية والنهايةج15ص570) في حوادث سنة (407هـ) بقوله: (وفي هذه السنةِ قُتِلَت الشِّيعةُ الذين ببلاد إفْرِيقِيَّةَ ونُهِبَت أموالُهم، ولم يُتْرَكْ منهم إلا مَن لا يُعْرَفُ).
أما ابن عذاري فقد ذكر في (البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب) (ج1ص268 ) هذه الجريمة وهو يحاول أن يضع لها منفذاً للتبرير ويلفق لها الأعذار ! ولكن أي تبرير لتلك الجريمة ؟ لنستمع إلى تبريره الذي لا يستند إلى منطق ولا عقل ولا واقع فقال مانصه:
(تربّى معز بن باديس الصنهاجي في حجر الوزير أبي الحسن بن أبي الرجال، وكانت إفريقية كلها والقيروان على مذهب الشيعة، وعلى خلاف السنة والجماعة، فحرّض ابن أبي الرجال المعز بن باديس وأدبه على مذهب مالك وأهل السنة والجماعة، والشيعة لا يعلمون ذلك، ولا أهل القيروان، فخرج المعز في بعض الأعياد إلى المصلى في زينته وجنوده وهو غلام، فلما كبا به فرسه قال عند ذلك: (أبو بكر وعمر) (مستجيراً بهما)، فسمعته الشيعة التي كانت في عسكره فبادروا إليه ليقتلوه، فجاءه عبيده ورجاله ومن كان يكتم السنة من أهل القيروان، ووضع السيف في الشيعة، فقتل منهم ما يزيد عن ثلاثة آلاف نفس، فسمي ذلك الموضع ببركة الدم إلى الآن)
والله إنك لتأسف على التاريخ عندما يتولّى كتابته أمثال هؤلاء الذين يُحسبون على المؤرخين وهم يلفقون الأعذار ويضعون التبريرات الواهية لجريمة يُندى لها جبين البشرية، فهل بلغ التعصّب الأعمى بهذا الرجل هذا المبلغ لكي يستهين بدماء ثلاثة آلاف إنسان وهو يضع مبرراً واهياً وكاذباً لقتلهم ؟ الله أكبر هل بلغت دماء الشيعة من الرخص والزهد إلى هذا الحد ؟
هل فات ابن عذاري إن استجارة المعز بالشيخين لو صحّت فإنها تعتبر كفراً وإشراكاً عندهم ؟
ألم يتهموا الشيعة بالكفر والإشراك عند استجارتهم بالرسول والأئمة من أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) وهم أفضل من عمر وأبي بكر ؟
لقد حرّف ابن عذاري قول ابن الأثير لغاية في نفسه، فالصحيح ان المعز ترضّى على الشيخين كما لُقّنَ ذلك ممن دبّر للجريمة فإنه لم يبلغ الثامنة من عمره ولم يك واعياً ولا راشداً، وهذه إشارة منه لمن كلُّفوا بالجريمة.
أما قوله: (إن الشيعة أرادوا قتله لما سمعوه يستجير بالشيخين)، فهو أبشع من كذبته الأولى وأقبح منها، فهل فات ابن عذاري ـ وهو مؤرخ بلاد أفريقيا ـ دراسة سياسة الدولة الفاطمية المتسامحة مع جميع المذاهب، وإن ذكر أبي بكر وعمر كان يترددّ في أرجاء أكبر جامعاتهم وهو جامع الأزهر ولا ترى من الفاطميين وأتباعهم من تعرّض لمن يذكرهم بأذى.
يقول الدكتور محمد كامل حسين في كتابه (الدولة الفاطمية): (وتسامح الفاطميون مع العلماء الذين لم يعتنقوا مذهبهم)، ويقول أيضاً: (خصصّ الفاطميون لكل مذهب من المذاهب الاسلامية في الأزهر كرسياً لتدريس ذلك المذهب، وكان عدد الطلاب يتّفق مع انتشار ذلك المذهب في مصر والبلاد القريبة منها).
ويقول الدكتور مصطفى مشرفة الاستاذ في جامعة القاهرة: (كان للمالكية في الازهر الفاطمي خمس عشرة حلقة، وللشافعية مثلها، ولأصحاب أبي حنيفة ثلاث حلقات).
ولما أمر الحاكم بأمر الله بعمارة دار العلم ونقل إليها الكتب من القصر أسكنها من شيوخ السنة شيخين أحدهما أبو بكر الأنطاكي وخلع عليهما وقربهما، كما عمل الفاطميون على استقطاب العلماء من البلاد الخارجة عن النفوذ الفاطمي واستدعائهم إلى مصر والضمان لهم بالعيش الكريم، وإن جميع العلماء الذين استدعوا من قبل الفاطميين أو وفدوا عليهم فأكرموهم ووفروا لهم سُبل العيش الكريم والتفرّغ للعلم كانوا على غير مذهب الفاطميين وهو المذهب الشيعي.
ومن هؤلاء العلماء: (عبد السلام القزويني) شيخ المعتزلة الذي وفد إلى مصر فأقام فيها أربعين سنة يلقي تعاليم مذهبه، ومنهم القاضي (أبو الفضل محمد البغدادي) إمام الشافعية الذي ظل يدرس مذهبه في مصر حتى وفاته عام (441هـ)، و(ابو الفتح سلطان بن إبراهيم الفلسطيني) (ت518هـ)، و(أبو الحجاج يوسف الميروقي) (ت523هـ)، و(مجلّى بن جميع المخزومي) (ت550هـ)، والقاضي (علي الموصلي الخلعي) (ت448هـ)، و(أبو محمد عبد الله السعدي) (ت561هـ).
وهؤلاء كانوا قد ولّوا القضاء للفاطميين وكانوا على المذهب الشافعي، ومن فقهاء المالكية (محمد بن سليمان) المعروف بـ (أبي بكر النعّال)، وكانت حلقته في الأزهر تدور على سبعة عشر عموداً لكثرة الطلاب الذين كانوا يقصدونه، ومن فقهاء المالكية الذين وفدوا على مصر الفقيه (عبد الوهاب بن علي) أحد أئمة المالكية و(عبد الجليل مخلوف الصقلي) (ت549هـ) و(أبو بكر الطرطوشي) (ت525هـ)، وغيرهم الكثير.
والارقام التي ذكرناها في تاريخ وفاة هؤلاء العلماء هي للدلالة على أنهم قد عاشوا في فترات مختلفة من زمن الدولة الفاطمية وهذا يبين إن الخلفاء الفاطميين كلهم كانوا يسيرون على نفس سياسة التسامح مع المذاهب الأخرى واعتماد حرية الفكر والرأي في سياستهم.
وقد وجد هؤلاء العلماء من الحفاوة والتكريم ما لم يجدوه في البلاد التي يحكمها حكام من نفس مذهبهم فكان مجلس الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله يغص بالعلماء المتخصصين في كل علم من الفقهاء والأطباء وأهل الحساب والمنطق والعلوم الأخرى فيجتمعون عنده للمذاكرة ثم يكرمهم.
ومن أشهر العلماء الذين وفدوا على مصر في عهد الحاكم الفاطمي أبو الفضل جعفر وابن الهيثم الذي استدعاه الحاكم وخرج لاستقباله بنفسه، وأكرمه غاية الإكرام، وهذه السياسة المتسامحة للفاطميين مع المذاهب الأخرى هي التي جعلت الدكتور محمد كامل حسين لأن يقول: (ويخيّل اليّ ان السبب الذي من أجله شجّع الخلفاء الفاطميون العلم والعلماء إن المذهب الشيعي نفسه يقوم على العلم والعقل قبل كل شيء، فلا غرو إن رأينا الفاطميين يشجعون العلم الذي هو دعامة من دعائم العقيدة الشيعية).
ولنا أن نسأل ابن عذاري: في أي عصر تعرّض الشيعة للسنة بالأذى فضلاً عن الشروع بالقتل لمجرد ذكرهم أبا بكر وعمر ؟ ومن يكلّف نفسه بالبحث فسيجد العكس فقد أبيد الشيعة على يد الأيوبيين والسلاجقة والعباسيين والزنكيين وغيرهم، وعاش السنة حياة الحرية الدينية والعيش الكريم في ظل الحمدانيين والبويهيين والأدارسة والفاطميين.
ثم فلنفرض أن الجماعة الذين سمعوا المعز أرادوا قتله لمجرد سماعهم ذكر الشيخين ـ على حد قوله ـ فما ذنب الثلاثة آلاف الذين قتلوا ؟ وماذنب من قتلهم حماد من الشيعة في سلجماسة وباجة وغيرها من بلاد المغرب قبل هذه الجريمة بسنتين ؟ هل كل هؤلاء الذين قتلوا من الشيعة برأيك هم مهدوروا الدم لمجرد أن جماعة قليلة منهم أرادت قتل المعز ؟ لا إله إلا الله.
وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل إن الجرائم ضد الشيعة استمرت في عهد المعز طوال حكمه الذي امتد لـ (46) سنة (407-453/1015-1061) حتى فُنيت الشيعة في أفريقيا ! ولنستمع إلى ابن عذاري وهو يواصل شرحه لتلك المجازر المستمرة فيقول في (البيان المغرب) (ج1ص269):
(كان بمدينة القيروان قوم بحومة تعرف بدرب المعلى، يتسترون بمذهب الشيعة، انصرفت العامة إليهم من فورهم فقتلوا منهم خلقاً رجالاً ونساءً، وانبسطت أيدي العامة على الشيعة، وانتهبت دورهم وأموالهم، وتفاقم الأمر، وانتهى إلى البلدان (تونس - المهدية - باجة - وغيرها )، فقتل منهم خلق كثير، وقتل من لم يعرف مذهبه بالشبهة لهم، ولجأ من بقي بالمهدية منهم إلى المسجد الجامع، فقتلوا به عن آخرهم رجالاً ونساءً... واجتمع (وحوصر) بدار محمد بن عبد الرحمان نحو ألف وخمسمائة رجل من الشيعة، فإذا خرج أحد منهم لشراء قوته قتل، حتى قتل أكثرهم).
الله أكبر أنُزعت من قلوب هؤلاء الرحمة نزعاً ولم يعد أي منهم يمتلك ولو ذرة من إنسانية ؟ دعونا نكمل هذه الفصول المأساوية لتلك الجرائم البشعة والمجازر الفظيعة عن طريق ابن عذاري أيضاً حيث يقول: (في سنة (409) هجرية خرجت طائفة من الشيعة، نحو مائتي فارس بعيالهم وأطفالهم يريدون المهدية، للركوب منها إلى صقلية (فراراً من القتل)، وبعثت معهم خيل تشيعهم، فلما وصلوا إلى قرية كامل وباتوا بها، تنافر أهل المنازل عليهم فقتلوهم، وفضحوا بعض شواب النساء، ومن كان لها منهن جمال ثم قتلوهن) ؟
إن هؤلاء قد انسلخوا عن كل ما يمتُّ إلى الإنسانية بصلة، إنهم عديموا الرحمة والإنسانية والشرف، فأي تبرير وأسباب لهذه الجرائم البشعة والمجازر الوحشية غير السلب والنهب والعدوان والإثم وهتك الحرمات والاعتداء على الأعراض ؟ بأي وجه سيواجهون الله وقد خلت قلوبهم من الرحمة ؟ بأي وجه أحلوا الدماء البريئة التي حرمها الله وهتكوا الحرمات ؟
بدأت جرائم إبادة الشيعة في أفريقيا عندما شنّ حماد بن زيري الصنهاجي من قلعته بسجلماسة حملة شعواء على الشيعة، وارتكب بحقهم مجزرة بشعة وكان عمله هذا مفاجئاً وغير متوقّع، فقد كان عاملاً للفاطميين على الجزائر، فأظهر التسنّن، وأعلن خروجه عن طاعة الفاطميين ليحيلها للعباسيين، وكان قربان إعلانه التسنن وخضوعه للعباسيين هو بتقديم دماء آلاف الشيعة في سلجماسة وباجة، وبدأ يحرّض الناس على قتل الشيعة في تونس طاعة لشيطانه العباسي.
ثم ظهرت أم المعز هذه المرأة الشيطان على مسرح الجريمة، وهي العقل المدبّر لها في تونس بالإشتراك مع الوزير ابن أبي الرجال (معلم المعز) وعدد من فقهاء المالكية في الأندلس الذين قدموا إلى تونس لهذا الغرض الإجرامي والذين أفتوا: إن قتل الشيعة أفضل من قتل المشركين فكانت المؤامرة، وكانت عملية كبو الجواد والترضّي على الشيخين مسرحية أجاد تمثيلها ابنها المعز كما أجاد من كلفتهم هي والوزير والفقهاء بتنفيذ الجريمة، ولا يستبعد أن يكون لهؤلاء كلهم يد في قتل زوجها باديس الذي كان على طاعة الفاطميين، وكما قتل باديس بظروف غامضة فقد بقيت الأسباب التي دفعت بهذه المرأة إلى التخطيط لهذه الجريمة غامضة أيضاً، ولكن مهما تكن تلك الأسباب فستبقى لعنة الله والتاريخ والأجيال تلاحقها ومن اشترك معها كلما ذكرت هذه الجريمة.
وربما نجد اعترافاً من شيخ وهابي حاقد على الشيعة وهو يشير إلى ارتكاب الجريمة ويتضح منه أن سببها الإختلاف المذهبي فقط لا غير رغم أنه وضع تلفيقات ابن عذاري في قوله، ففي مقال تحت عنوان (ذبح الشيعة في القيروان .. عرض لفلم جديد) للأستاذ علاء الزيدي المنشور في وكالة براثا في (13/7/2007) ينقل الزيدي عن كتاب (تاريخ الفتح العربي في ليبيا) للطاهر أحمد الزاوي (وهو شيخ سلفي ليبي) وفي طبعته الرابعة التي صدرت في آذار من عام (2004) بموافقة سلطات القذافي عن دار نشر (المدار الإسلامي الليبية)، (ص223-224) مانصّه:
(وقد اقتنع المعزّ بن باديس بفساد مذهب الشيعة، واعتزم القضاء عليه في أفريقية ولكنه كان يتحين الفرص للتخلص منه ... وكان يوجد في عسكر المعز كثير من الشيعة أنصار الفاطميين ... وكان المعز ذات يوم يسير في موكبه فكبا جواده فقال: أبو بكر وعمر، فسمعها الشيعة فتنادوا لقتله وحال بينهم وبينه أنصاره ومن كان يميل إلى مذهب أهل السنة ويكتم أمره ، ووضعوا السيف في الشيعة حتى قتل مايزيد على ثلاثة آلاف ، حتى سمّي ذلك الموضع (بركة الدم)
وما يهمنا هو بداية قوله من اقتناعه بفساد مذهب الشيعة وقد خُفي على الشيخ المأفون إن المعز كان وقتها يبلغ من العمر سبع سنين وشهرين ولا يميّز في اعتقاده الخطأ من الصواب وأنه كانت هناك يد تحركه وتلقنه على هذا العمل كانت تعتقد بفساد مذهب الشيعة وهم أمه و(فقهاء الجريمة) وقد صار هذا اعتقاد المعز بعد أن كبر حيث تربى عليه، أما بالنسبة إلى محاولة قتله الملفقة فقد أجبنا عليها في قول ابن عذاري.
برز هذا الإسم على مسرح جرائم الإبادة كمجرم سفاح، ووحش دموي انسلخ عن آدميته وتحول إلى شيطان، وقد ادعى نسبته إلى أبي بكر غير أن عبد العزيز المجدوب نفى هذه النسبة في كتابه (الصراع المذهبي) (ص187)، وقد ارتكب هذا المجرم سلسلة جرائم ضد الشيعة وقاد عمليات إبادة منكرة في تونس نترك الحديث عنها لابن خلكان في (وفايات الأعيان) (ج5ص233) حيث يقول:
(وقد قاد محرز بن خلف من جهته، في عهد باديس الصنهاجي،حملة إبادة للشيعة في تونس، ثم تلتها حملة أخرى في القيروان والمهدية، بعد اعتلاء المعز بن باديس سدة الحكم إثر مقتل أبيه، وهو لم يتجاوز الثماني سنوات، وانتشر القتل وعم النهب دور الشيعة، فلم يسلم منهم أحد تقريبا) وقد كافأ المعز محرزاً على جرائمه وسُمي سلطان المدينة، وكانت له الكلمة العليا فيها وقد ارتكب محرز هذا أبشع جريمة بحق الشيعة عام (435هـ).
يقول عبد العزيز المجدوب في كتابه الصراع المذهبي متحدثا عن تلك الأحداث: (حيث أنزل المالكية بالشيعة الويلات، وامتحنوهم شر امتحان، وفتكوا بهم أينما وجدوهم، وكانت مجازر رهيبة عرفت لدى المؤرخين بمحنة المشارقة).
لقد أقسم محرز على نفسه الدموية أن يبيد التشيع ويمحوه من تونس محواً تامّاً، فلم يكتف بالجرائم المنكرة التي ارتكبها ضد الشيعة بإراقة دمائهم في كل مكان، بل صادر أملاكهم وبيوتهم ومنحها لليهود الذين كانوا يسكنون منطقة (الملاسين) الخاصة بهم، فدمجهم محرز مع المسلمين بدلاً من الشيعة لأنهم: (يمثلون أهل الذمة، وقد أوصانا الإسلام بالإحسان إليهم) !!
وكان هذا تبريره لفعله القذر والرد على من اعترض عليه، فالمبررّات تلفّق عند هؤلاء كشربة ماء لأي فعل قبيح مهما ازدادت قباحته، كالخنزير وهو يرى المستنقع الآسن جنة ناضرة، وكان لهذا الفعل أثره (العظيم) عند اليهود، وقد حقق لهم أفضل أمانيهم ومطامحهم بقتل المسلمين الشيعة.
وهل أعظم من هذه الأمنية التي حققها محرز لهم ؟
هل أعظم من هذه الهدية وهي قتل شيعة علي بن أبي طالب قاتل مرحب اليهودي وقالع باب خيبر وهازم اليهود وقامعهم في عقر دارهم ووهب مساكنهم وممتلكاتهم وأراضيهم ومزارعهم لليهود ؟
هل أشفى لغليل اليهود عمل أعظم من هذا ؟و
لم ينس اليهود لمحرز هذا (الفضل العظيم) وظلّوا يجلّونه في حياته ويوقدون الفوانيس على قبره.
فليهنأ المسلمون بهذا (النصر العظيم) الذي حققوه هم بأنفسهم لليهود وليشعلوا الفوانيس مع اليهود على قبر محرز.
لينظر كل من يتهم الشيعة باليهودية إلى هذا الفعل، فإذا كان يمتلك ذرة من حياء أو دين فليستغفر ربه ويتوب عن قوله، وإذا كان منسلخاً من حيائه ودينه فليخسأ أمام هذه الحقيقة.
ولا تتوقف المهازل والتبريرات والأعذار لهذه الجرائم عند حد فهذه مهزلة أخرى ومبرر آخر لهذه الجرائم أتحفنا به ابن خلكان حيث يقول: (إن المعز جمع أهل المغرب على التمسك بمذهب مالك وحسم مادة الخلاف في المذاهب إلى يومنا هذا) !!!
كم هو عظيم هذا الرأي الذي لم تفطن له الأمم المتحدة ومجالس الأمن والبنتاغون إلى الآن !
فَلِمَ تُعقد المؤتمرات والتسويات والإجتماعات بين السلطات والمعارضة وبين الدول نفسها وتقام مؤتمرات التقريب وغيرها، فالأمر أسهل من ذلك بكثير وهو أن تبيد إحدى الدول منافستها الأخرى إبادة تامة وينتهي كل شيء ثم تبيد الدول القوية الدول الضعيفة وهكذا حتى يحسم الخلاف !!
بدورنا لا نرد على هذه المهزلة التي لم تطبقها حتى القبائل البدائية التي عاشت بسلام سوى بسؤال واحد وهو: يا سيد ابن خلكان هلا سألت نفسك لِمَ لم تحسم الدولة الفاطمية هذا الخلاف بين المذاهب وتجمع الناس بقوة السيف على المذهب الشيعي ؟
وبشر القاتل بالقتل
هذا الحكم الإلهي الذي جاء على لسان سيدنا ونبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الجزاء العادل من الله لمن يعتدي على حرماته ويعصي أوامره ويفسد في الأرض، الجزاء العادل لسلسلة جرائم عديدة راح ضحيتها آلاف الآلاف من المسلمين الشيعة طوال (30) عاماً بين عامي (405/435)، هو القتل فلنستمع إلى الأستاذ أحمد شلبي وهو يذكر نهاية المعز وأتباعه القتلة على يد الهلاليين في (موسوعة التاريخ الإسلامي) (ج4ص294) فيقول:
(وصلت أخبار المذابح وعمليات الإبادة الجماعية التي تعرض لها الشيعة في تونس إلى المستنصر بالله الفاطمي في مصر من الفارين بأرواحهم بأعجوبة من تلك المجازر، فغضب غضباً شديداً، وأعلن الحداد، واستشار وزيره أبو محمد اليازوردي في ما يمكن عمله ؟ فأشار إليه بالتقرّب إلى القبائل العربية من بني سليم وبني هلال الذين كانوا يتخذون من صعيد مصر شرقي النيل موطناً لهم، فأرسل وزيره إليهم ليقلّدهم عمالة أفريقية ويهبها لهم، وحمل الوزير معه عطاءً كثيراً لأمرائهم، ووصل عامتهم ببعير ومال لكل واحد منهم، فانطلقوا سنة (444 هجرية) وكان عددهم يناهز (400 ألف نسمة)، فدخلوا أفريقية وانتقموا من قتلة المسلمين الشيعة أشد الإنتقام،وقتل المعز الصنهاجي وسقط ملكه بين أيدي القبائل العربية الغازية)
لا تزال مدينة (بئر مشارقة) تحمل اسم ذلك البئر بالرغم من أن مياهه غارت وجفت واندثرت معالمه وآثاره، ولكن دماء الشيعة التي سالت في جوفه عندما كانت جثثهم ترمى فيه لم تجف بعد وقد وسمت اسم المدينة.
اكثر قراءة