akdak

المقالات

قسم الثقافة و الفلسفة

‬لماذا‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬المثقف

186

أحمد برقاوي

يجب أن نميز بين نوعين من السؤال حول المثقف في هذه المرحلة العربية الراهنة: السؤال الصادر عن الجمهور الذي يرى في المثقف مصدرا لوعيه ويشعر بغيابه عنه، والسؤال الصادر عن المثقف نفسه الذي يعتقد أن شأن الخطاب الذي يصدر عن مثقف هذه المرحلة أقل بكثير من شأن التاريخ الذي يُصنع الآن. وفي كلتا الحالين نحن أمام عدم رضا عنه وعن فاعليته. ولهذا يعود السؤال عن المثقف.

دعوني الآن من الدخول في تعريفات المثقف، فأنا الآن بصدد المثقف الذي يصدر عنه خطاب ما، سواء كان خطاباً فلسفيا – فكريا أو خطاباً أدبياً أو خطاباً فنياً. ومثقف كهذا كان حاضرا دائماً في تاريخ العرب الحديث والمعاصر.

بل إن الفكر العربي الراهن مازال مديناً للمثقف النهضوي والمعاصر بأطاريح كثيرة، وهذا لا يعود إلا إلى عناد تاريخ لا يتزحزح، وإلى أن ما يجب أن يكون لم يتحقق بعد، ليس لنا أن نهجو مثقفا بسبب عناد التاريخ فليس المثقف بمحرك وحيد له. بل إن المشكل المرعب والذي وضعنا في مأزق تاريخي هو النكوص التاريخي الكوميدي الذي أدّى إلى ركود فاجع وإلى الإطاحة بآمال مثقفين كثر كانوا يظنون أنهم واقعيون جدا.

لم يتطرق لمحمد عبده الشك أبدا بأن الإسلام سيقوم بعملية تلاؤم مع العلم والمدنية، وقد وضع أصول الإسلام الثمانية منهجا لهذا التلاؤم وذلك في كتابه “الإسلام بين العلم والمدنية.

النظر العقلي لتحصيل الإيمان، تقديم العقل على ظاهر الشرع، البعد عن التكفير، الاعتبار بسنن الخلق، قلب السلطة الدينية، حماية الدعوة لمنع الفتنة، مودة المخالفين في العقيدة، الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.

كان محمد عبده بوصفه مصلحا دينيا يفكر في مرحلة دولة مصرية ليبرالية، ويسعى إلى جعل الإسلام السائد قادراً على التلاؤم مع الليبرالية المصرية الرخوة .

ولم تكن الناصرية بحاجة إلى إصلاح ديني، فلقد انتمت إلى مرحلة القومية والاشتراكية وتحرر الشعوب، ولم يعد جمال عبدالناصر، بما يمثله محتاجاً لكتاب علي عبدالرازق “الإسلام وأصول الحكم” كي يحكم.

غير أن النكوص التاريخي الذي بدأ يشق طريقه إلى الحياة بعد زوال الناصرية التي انهزمت بموت “القائد” والذي أدى إلى ركود تاريخي مصري طويل انتعشت فيه الأصولية بكل أنواعها: الجهادية العنفية والإخوانية والسلفية أعادنا مرة أخرى إلى سؤال الإسلام والدولة. والمفارقة الأدهش تلك التي تمخضت عن ثورة الشباب المصري ثورة الحرية والكرامة التي أنهت حكم الركود التاريخي المباركي ألا وهي اكتساح الأصولية بكل أنواعها للمجتمع المصري بوصفها القوة السياسية الأبرز بعد الثورة مباشرة.

فما هو الخطاب الذي يمكن أن يقدمه مصلح ديني ويكون متجاوزاً للخطاب الذي قدّمه عبده وعلي عبدالرازق وخالد محمد خالد؟

فإذا كنا اليوم بحاجة إلى إصلاح ديني يقوم به المثقف في مواجهة الإسلاموية العنفية بكل أنواعها سواء كان رمزها آية الله مرشد الثورة الإيرانيه أو خليفة الدولة الإسلامية فما هو الخطاب الذي يمكن أن يقدمه مصلح ديني ويكون متجاوزاً للخطاب الذي قدّمه عبده وعلي عبدالرازق وخالد محمد خالد؟

ما النقد الممكن لخطاب الإصلاح الديني الذي من شأنه أن يفتح الطريق لإصلاح فاعل في الوعي والممارسة؟

لا شك أن الركود التاريخي الذي ترافق مع دكتاتوريات همجية وبسبب هذه الدكتاتوريات الهمجية قد أيقظ لدى جمهور كبير روح الخلاص الديني عن طريق اليد، فهذا المنكر لا يقوّم باللسان والقلب وليس باستطاعة اللسان والقلب أن يقوّماه، والمثقف العربي يجد نفسه أمام مهمة ليس الخروج من الركود التاريخي فحسب، وإنما الخروج من النتائج الكارثية لهذا الركود.

غير أن سنوات طويلة من الركود سنوات طويلة من اختمار الخلاص الديني، مع وجود الكارثة الإيرانية وتأثيرها المتخلّف على المنطقة ستصعّب من مهمة المساهمة في تشكيل الوعي المطابق لأسباب الخلاص الأرضي المنشود. إن القول بصعوبة المهمة لا تعني أن على مثقف الحرية والكرامة والمواطنة والعرب أن ينزوي في يأس المهزوم بل على الضد من ذلك إنه اليوم كما سنرى مثقف الشعب وقد صار إرادة جاهزة للفعل التاريخي وأمامه فاعلية مضاعفة ومثمرة.

وقس على ذلك الصورة الأخرى للمثقف العربي الذي لم يغادر ساحة التاريخ باحثا عن البديل المتقدم على غرار التاريخ الأوروبي في صورته الأخيرة من الحداثة. منذ فرح أنطون مروراً بالحصري وانتهاءً بياسين الحافظ وعشرات المثقفين الذين رسموا صورة المستقبل مستخدمين شبكة المفاهيم الحديثة: الأمة، التقدم، الحرية، الإشتراكية، الديمقراطية، تحرر المرأة، ونحن ما زلنا أسرى الحلم القومي العربي بصورته الأوروبية، حتى الاتجاه الذي نشأ ونما وتطوّر من وحي أكتوبر الروسي راح يرسم في الوعي صورة موسكو في دمشق والقاهرة ونواكشوط. صحيح أننا احتفلنا بانزياح إلياس مرقص وعبدالله العروي ومهدي عامل عن الصورة النمطية غير أن هذا الانزياح لم يتعدّ الأثر الغربي المتمرد قليلا على سلطة الأب، فلو تناولنا مفهوماً واحداً من مفاهيم فكر الحداثة العربية كمفهوم الحرية مثلا لأدركنا قصور العقل الخلّاق في التناول النظري لهذا المفهوم. بوصفها خطابا أيديولوجيا، لم ننتبه لخطورة وعي الحريّة في خطابنا الحداثوي .

الأيديولوجيا القومية ربطت الحرية بفكرة “حرية الأمة” من آخر، من الاستعمار، فكرة الاستعمار ولدت هذا المفهوم وهذه الطريقة في التفكير “حرية العرب واستقلالهم عن الآخر.

وحرية الأمة هذه تحتاج الطليعة الثورية التي تحقق حرية الأمة؛ الطليعة المتحررة بوعيها من الاستتباع للآخر. وبالتالي لم ينظر للكائن الفرد على أنه حر بذاته بوصفه فرداً، بل بارتباطه مع “الأمة الحرة” التي تحقق حريتها من سيطرة الآخر.

كل الأيديولوجيات الشمولية هي ضد الحرية الفردية، ولم تنتقل من حرية الأمة إلى حرية الفرد إطلاقاً. وبالعكس صار قمع الفرد مترابطاً بالدفاع عن حرية الأمة، وبالتالي فقد الفرد حضوره الذاتي .

من هنا ضاقت حرية الفرد فصارت حرية للأمة فقط، ووقع الظن بأنه كلما ضاقت حرية الأمة ضاقت حرية الفرد ولم يعد للفرد وجود، لم تعد حريته موضوع دفاع، حيث تقود حرية الأمة إلى حرية الجماعة وليس إلى حرية الشخص. لذلك كل أيديولوجيا تتحدث عن الكل تخلق الوعي القطيعي وليس الذات ..

والخطاب الماركسي لم يختلف كثيرا لأنه ركز على الطبقة وعلى حرية الطبقة من استغلال طبقة أخرى واعتبرها هي الحرية واعتبر أن كل انزياح عن هذا الهدف الطبقي هو خضوع للمعنى البورجوازي الصغير، وعندما انتقد الشيوعيون سارتر اتهموه بأنه بورجوازي صغير.. ولدى الشيوعية لا تتحقق حرية الطبقة إلا بانتصارها على طبقة أخرى وتحقيق العدالة الاجتماعية.

لهذا فإن حصر الحرية بجانبها الاجتماعي الطبقي أنشأ نظاما سياسيا متعاليا ضد الحرية كما أنشأها النظام القومي.

كل الأيديولوجيات الشمولية هي ضد الحرية الفردية، ولم تنتقل من حرية الأمة إلى حرية الفرد إطلاقاً. وبالعكس صار قمع الفرد مترابطاً بالدفاع عن حرية الأمة

لكن القومية والماركسية هي أيديولوجيات دنيوية قابلة للتمرد عليها ورفضها وتحطيمها أما إذا ذهبنا للتيار الديني سنجد أن العبودية مطلقة لله المتعين بالنص وتفسير النص وشرحه وتأويله خضوعا تاماً لهذا النظام المتعالي.

في التيار الشيوعي حاز النص على صفة القداسة، فالبيان الشيوعي مثلا أصبح مقدساً رغم أن أنجلس نفسه قال عنه أنه شاخ في أكثر أجزائه ولكن أبقيته كوثيقة تاريخية، لكن بقي البيان لدى الشيوعيين نصاً مقدساً. ولكن من جهة أخرى يمكن تمزيق هذا النص “المقدس″ الأرضي، وقد مزقه غورباتشوف وانتهينا ولكن المقدس الديني والنص الإلهي المتعالي المطلق في السماء لا يمكن تمزيقه، والحوار مع النظام الأرضي المتعالي نسبيا ممكن بينما الحوار مع الخاضعين للنص الديني غير ممكن لأن النص لديهم هو المرجع وليس الكائن… لذا يغيب الكائن وينتهي ويموت… مثلا الحوار حول جواز الحرق في الإسلام يكون من باب “يوجد نص أم لا يوجد نص”، فإن وجد نص فهو مسموح وإن لم يوجد فهو محرم، أي لا يوجد أيّ ارتباط بالحياة، فالقول الفصل هو للنص، فلا اجتهاد مع النص. لذا فكرة الحرية في الدين هي عدم.

الخطاب الليبرالي العربي لا يختلف عن مثيله الغربي مثلا لطفي السيد. ولكن بعض الناس أرادوا أن يلعبوا بالاحتفاظ بعقابيل الأيديولوجيا كلها مثلا مفكر مهم مثل محمد عابد الجابري في كتابه “نقد الخطاب العربي” قال إن علينا التحرر من كلتا سلطتي السلف، السلف العربي والسلف الأوروبي، لتحقيق الاستقلال التاريخي التام للأمة العربية، ويقصد لا مرجعية إسلامية ولا مرجعية أوروبية، بل إنشاء مرجعية عربية ذاتية، فتحقق الأمة استقلالها التاريخي، وهذا مأخوذ عن غرامشي الذي قال بتحرر الطبقة التاريخي، أي الاستقلال التاريخي للطبقة. ولكن الجابري راح يجمع بين ابن خلدون والشاطبي وابن رشد وميشيل فوكو، وهذا لأن الجابري بنيوي يحقب تاريخ الوعي العربي كما ميشيل فوكو، لذا لم يستطع الجابري أن يتحرر لا من السلف العربي ولا من السلف الأوروبي.

مثلا حسن صعب تحدث عن التحرر من سلطة العقل إلى سلطة الفعل فننتقل إلى التجربة مع أن طريق الوعي هو الانتقال من التجربة إلى العقل.

التعيين السياسي للحرية هي الديمقراطية قولا واحدا في أعلى صورها الممكنة وليس الواقعية فقط. وراسل يعرف الديمقراطية بأنها “التوزيع العادل للقوة”، وهذا يعني أن العبودية هي احتكار القوة، فإن عرفنا الديمقراطية بأنها عدم احتكار القوة فهذا تعريف بسيط، ولكن يجب أن يشعر الكائن أنه يمتلك القوة الضرورية لتحقيق وجوده، فالمال قوة سلطة، وإن لم تمتلك الطبقة العاملة قوة لمواجهة الرأسمال ستكون حريتها غائبة.

إذا كان داروين قد قال إن لدى كل كائن غريزة البقاء ولكننا الآن نمتلك ثقافة البقاء كما نريد أن نكون،

لا يوجد أعمق من شعار “الشعب يريد” لأنه مرتبط بالإرادة، فأن تريد يعني أنت حر… ومن هنا العبودية هي سلب الإرادة، بينما الحرية هي تعيين الإرادة.

الديمقراطية هي التوزيع العادل للإرادات حيث لا تتحكم إحدى الإرادات ببقية الإرادات… دولة الحربة هي دولة ديمقراطية بالضرورة ودولة الحرية هي دولة تسامح.. أوروبا انتقلت إلى الدولة بوصفها تعيين لحقل الحرية الفردي والاجتماعي. لذا ما من دولة يمكن أن تحقق الحرية للكائن لأنها أداة سيطرة وقمع، إنها تحتكر أدوات القمع ولكن كي يتحقق التوزيع العادل للقوة والإرادة.

دون وعي الحرية على هذا النحو لا يتحقق السلوك المناسب للكفاح من أجل الحرية وإلا سننتقل من الاستبداد إلى حالة أخرى من الاستبداد والخطر المتأتي من الشموليات خطر كبير لأن هذا النظام الذي يريد أن يبقى متعالياً ومحتكرا للقوة وحده.

لنطرح على أنفسنا السؤال الآتي: هل آن الأوان لنقيم قطيعة مع المفكرين العرب النهضويين والمعاصرين؟

أعتقد أننا اليوم بحاجة إلى مثقف في أعلى درجات الراديكالية الواقعية، وليس في أقصى درجات الراديكالية الطوباوية.

لقد سادت الثقافة الفكرية الطوباوية بأعلى درجات راديكاليتها، وكانت مخلصة لذاتها أيّما إخلاص، بل وسارت خلفها قوى مجتمعية متعددة، وحملت لواء التقدم التاريخي قبل أن يهزمها التاريخ عن طريق الطغم العسكرية المتخلفة ذات الوعي الضيق بالهوية والحياة والانتماء، والتي جعلت من السلطة مقدّسها، وحولت الأوتوبيا الجميلة إلى مسخرة قبيحة.

لقد أعلنت الثورات العربية العفوية بداية عالم جديد الآن، لا في تلك البلدان التي انفجرت فيها بل في الوطن العربي كله. والتي بدورها خلقت على نحو بطيء ظاهرة الراديكالية الواقعية والتي تتطلب مثقفها المطابق.

إذ منذ عصر النهضة وحتى الآن لم يشهد الوطن العربي ظاهرة شبيهة بالظاهرة التي نعيش، أقصد ظاهرة عدو المثقف خلف تاريخ تصنعه القوى المجتمعية .

وعندي أن ترك حركة التاريخ عزلاء من أسلحة المثقف وخلواً من وعي الحركة ذاتها أمر لا يضر بالثورات فحسب بل وبالمستقبل أيضاً .

نحن أمام أربع قضايا طرحتها حناجر الثوريين العرب والحركة الثورية عموماً: الإرادة، الحرية، الكرامة، الأمة.

صحيح إنها أخذت طابع العفوية، لكن الصحيح أيضاً أنها حمـّلت المثقف مسؤولية إنتاج الوعي المطابق لهذه الأهداف الراديكالية والواقعية معاً.

لماذا هي واقعية وراديكالية معاً؟ واقعية لأنها عبّرت عن الأهداف المعيشة والعميقة للذوات التي ضاقت ذرعاً بالسلط التي حالت بينها وبين تحقيق المعيش المأمول.

منذ عصر النهضة وحتى الآن لم يشهد الوطن العربي ظاهرة شبيهة بالظاهرة التي نعيش، أقصد ظاهرة عدو المثقف خلف تاريخ تصنعه القوى المجتمعية

وجملة الشعب يريد، لا تعني سوى استعادة إرادة مسلوبة، وصارت عاجزة لا بسبب بنيوي فيها بل بسبب إرادة سالبة لإرادتها. إنها إذ وعت سلب إرادتها وعت كفاحها لاستعادتها، إن المثقف العاجز عن فهم هذا الديالكتيك الواقعي براديكاليته بحجة بعض الأُهب الدينية المؤقتة، إذا افترضنا حسن النوايا، يخون ماهيته التي تبرر حضوره، فالإرادة هنا لا تنفصل عن الحرية.

الإرادة إما أن تكون حرة أو لا تكون، وها هي تتعين بثورة، إن الثورة هي الإرادة الحرة ذاتها وقد صارت واقعاً، والمثقف حين يجعل من الإرادة الحرة خطابا: نصاً، أثرا، حجرا ذا ملامح، قصيدة تحافظ على توقد الروح، فكرا يعزز من قوة الإرادة ويكشف الظلام من أمام طريقها، يتحول إلى جزء لا يتجزأ من إرادة الشعب، الشعب الذي يريد، ويعيد النظر في حق تقرير المصير، لا بوصفه حق التحرر من الغاصب الخارجي فقط وإنما التحرر من المغتصب الداخلي أيضا، لا بوصفه حرية الأمة فقط وإنما حرية الفرد أيضاً.

الشعب الذي ربط بين الحرية والكرامة أدرك بتجربته نفسها فقر الخطاب الأخلاقي الأيديولوجي الذي يعزل مفهوم الكرامة عن الحرية ، كما أعاد للحرية معناها الضائع في شعارية فقيرة.

لم يحصل أبداً أن جعل المثقف العربي من مفهوم الكرامة الفردية، الشخصية موضوعاً أثيراً له، وبخاصة ذلك الارتباط بين الإرادة الحرية والحكم والكرامة. فالحرية مفهوم شامل وثري وكل انتقاص من معانيه إفقار له، فكيف إذا ما اغتيلت كل معانيه ولم يبق منه إلا اللفظ.

ها نحن مرة أخرى أمام السلب الذي ولد روح الشعب الراديكالية. دولة السلطة تسلب حرية الفرد، فيتولد النقيض الشعبي: سلطة دولة تؤكد حرية الفرد، سلب حرية الفرد سلب لكرامة الوجود، استعادة كرامة الوجود مستحيلة دون حرية الفرد، حرية الفرد وكرامة الفرد والسلطة المعبرة عنهما سلطة الشعب التي تحدثنا عنها سابقا.

هذا الدروس التي قدمتها عفوية الشعب للمثقف من شأنه أن تزوده بكل شروط التجديد الخلاق للثقافة كلها، لتصبح الثقافة هي صورة الراديكالية الواقعية، وليس صورة الراديكالية الطوباوية، فالراديكالية الواقعية هنا نشأت من قلب الحدث التاريخي ولم تُستورد من حدث خارجي ومن رغبة في الذهن وأمنية رومانسية أخلاقية.

ولهذا فإن المثقف، التلميذ النجيب عند التاريخ الواقعي، وهو يعيد صياغة الثقافة بوصفها التعبير عن الحركة الواقعية الثورية، يحرر مفهوم العرب من ذلك تلك الأحكام المسبقة، ويعيد لهم وجودهم المفقود تأسيساً على مفاهيم الإرادة والحرية والكرامة المعبرة عن أمّة أيضاً.

فالترابط الواقعي للحركة الجارية الآن أكدت استحالة استمرار واقع التذرر، فلم يعد الخطاب القومي خطاب استعادة مجد، بل خطاب صناعة وجود أمامه قوى نابذة متعددة. فالقوى النابذة اتحدت جميعها مرة أخرى أمام تاريخ جديد تصنعه الإرادة الثورية الشعبية بكل تناقضاتها السلبية والإيجابية.

أمام هذه الإرادة التي أنتجت مفهوم الربيع العربي تقف الدول المناهضة .

ولعمري إن مصطلح الربيع العربي ليس مصطلحاً بلاغياً، بل واقعياً. تعيدنا صفة العربي إلى حقيقة واقعية، وليس إلى شعار زائف، فالعربي هنا ولد من قلب الانفجار من حيث هو المفهوم الكلي للحدث، ولهذا اتخذ العداء صفة كلية وطائفية للربيع بوصفه ربيعا عربيا.

وعندي أن العربية أو العروبة أو أي مصطلح يعبر عن الهوية القومية للتاريخ الذي يصنع الآن سيكون واقعيا في تأثيره، لأنه هو الآخر تعبير عن راديكالية الشعب الواقعية.

إن المثقف العربي يقف اليوم تلميذا صغيرا أما حركة التاريخ الواقعية الراهنة ليتحول إلى عقل التاريخ، وأنّى له أن يتحول إلى عقل التاريخ إذا لم يندرج في روح التاريخ فاعلاً.

كاتب من فلسطين مقيم في الإمارات