akdak

المقالات

قسم القرآن الكريم

ما هو تفسير سُورة الفلق

780

السيد حسين الحسني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على خير خلقه وأفضل بريته محمد وآله الطيبين الطاهرين.

إلى اختنا في الله أفراح جواد عواد وفقها الله لمراضيه وجنبها معاصيه... سلام عليكم.

نشكركِ على إهتمامك بالقرآن وتعلم أحكامه ومعانيه فقد قال رسول الله|: (خيركم من تعلّم القرآن وعلَمه وعلّمه) وإنكِ بعملك هذا قد استجبت لنداء رسول الله| حيث قال: (إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً) فالتمسك بالقرآن وبأهل البيت أمان من الضلال ويكون التمسك بالقرآن بتلاوته وتعلم أحكامه ومعانيه وتطبيقها ثم تعليمها للآخرين أما التمسك بأهل البيت^ فيكون بحبهم ومودتهم وبغض أعدائهم وأتباعهم في أوامرهم ونواهيهم ونشر فضائلهم وإقامة شعائرهم والفرح بأفراحهم والحزن لمصائبهم وأخذ معالم الدين منهم لا من أعدائهم والتوسل بهم إلى الله في حوائج الدنيا والآخرة لأنّه تعالى يقول ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ وهم نعم الوسيلة إلى الله. جعلكم الله وإيانا والمؤمنين من المتمسكين بهذين الثقلين (القرآن والعترة الطاهرة) ... وقيل الدخول في تفسير السورة لابدّ من ذكر مقدمة

أولاً

إنّ القرآن معجزةٌ عجز كلُ الفصحاء من العرب أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فهو يحتوي على علوم كثيرة، لذلك ورد عن أمير المؤمنين× أنه قال «لو شِئتُ لاُوقرتُ بعيراً في تفسير قوله تعالى (الله الصمد)». أي لو شئت لشرحت هذه الجملة في عشرات المجلدات من الكتب بحيث لا يحملها إلّا البعير من الدواب لكثرتها.. وينقل ابن عباس الملقب بحبر الأمة وهو تلميذ الإمام علي× بأنّ أمير المؤمنين× أخذ بيده في بعض الليالي وبدأ يشرح له تفسير آية البسملة وهي (بسم الله الرحمين الرحيم) واستمّر الإمام في تفسير الآية طوال الليل حتى طلع الفجر... ولا عجب من ذلك لأنّ الإمام علي باب مدينة علم الرسول| وهو من الراسخين في العلم الذين قال الله عنهم في كتابه (لا يعلم تأويله) ـ أي تأويل القرآن ـ ﴿تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾، فأهل البيت^ مطهرون بنص آية التطهير والله تعالى يقول ﴿لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾ أي لايمس معاني القرآن بكاملها إلّا المطهرون، أمّا ما وصلنا من التفاسير فهي قليلة ومع ذلك القليل فإنّ هناك مئات التفاسير للقرآن كلٌ منها يشرح جانباً من عظمة القرآن بل في كل يوم تظهر للناس جوانب جديدة من عظمة القرآن الكريم.

ثانياً:

لو أنّ شخصاً من عامة الناس دخل كلية الطب أو الهندسة وأخذ كتاباً يُدرس في المراحل النهائية فيهما،

فهل يستطيع فهمه بسهولة، أم أنّ ذلك يحتاج إلى دراسة طويلة لكي يفهم مطالب ذلك الكتاب .. وهذا القرآن يحتاج إلى دراسة كالدخول في الحوزة أو على الأقل بالحضور في دروس التفسير، ولكن هناك فرق بين القرآن وغيره من الكتب العلمية وهو أنّ الله وضع القرآن بشكل يفهم الإنسان العادي شيئاً من ظاهر عبارته وأمّا العالم فيستنبط منه أكثر ويستفيد حب علمه وطهارة نفسه بشكل أوفر أما لو تلاه الأولياء فإنّهم يستخرجون من اشاراته ما لا يستطيع غيرهم أمّا النبي والأئمة^ فيعرفون كل حقائق القرآن وعلومه وإشاراته ولطائفه ومعانيه وأحكامه وأمثاله وناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده وخاصه وعامه وفيمن نزل وعلى ماذا ينطبق من المصاديق وغير ذلك مما لا نعلم منه إلّا النزل اليسير. وفقنا الله تعالى لتلاوة القرآن وفهمه وتطبيق ما جاء فيه بحق محمد وآله|.

ثالثاً:

إنّ للقرآن صفة تخالف غيره من الكتب الأخرى وهي أنّ النظر إليه عبادة وإنّ لتلاوته ثوابٌ حتى لو كان قارئه لا يفهم معانيه، لذلك نشاهد المسلمين من غير العرب في كل العالم يتلونه صباحاً ومساءً رغم أنهم لا يفهمون من العربية شيئاً كل ذلك استجابة لأمر الله والرسول بتلاوة القرآن والإستماع إليه فإنّ في ذلك فائدة للقارئ والمستمع ولكن هذا لا يعني أنّ لا نتدبر آيات القرآن ولا نتعلم أحكامه فإنّ ثواب القراءة مع الفهم والتدبر أضعافاً مضاعفة عن ثواب قراءته بغير فهم ولا تدبر، ثم إننا مأمورون بالتدبر فيه، قال  تعالى ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾.

أما عن سؤالك الكريم حول تفسير (سورة الفلق) فنقول لك أنّ ما ننقله هنا مستفادٌ من بعض كتب التفسير ولكن صغناه بعبارةٍ سهلة لعل الله يوفقنا في ذلك وفي كل الأمور وأكثرنا من ذكر الأمثلة.

في البداية نقول إنّ الإنسان في هذه الدنيا محاطة  بأنواع الأخطار، ومعرض في كل لحظة لمختلف الشرور .. وإذا كان رسول الله| رغم انه مؤيد بوحي السماء ومصون برعاية الله وعنايته ومع ذلك فإنّ الله تعالى يأمره في هذه السورة بأن يستعيذ بالله ويستجير به ويعتصم بكهفه المنيع ويلجأ إلى ركنه القوي ـ لأنّ هذا هو معنى التعوذ بالله ـ من شرّ كلّ ذي شر خُلق في هذا الكون، حيث خاطبه الله في هذه السورة يا محمد ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ﴾، فكيف بباقي الناس الضعفاء الذين هم دون رسول الله| في المنزلة.. فهل هم في أمان من الأخطار أو غير محتاجين إلى الإستعاذة بالله من الشرور؟ كلا... لذلك فإنّ السورة رغم أنها تخاطب النبي| ولكنها تخاطب الناس بأنكم أولى من رسول الله بهذه الإستعاذة لأنكم ضعفاء أمام الأمراض والزلازل والأعاصير والوحوش وو ... أما لماذا الإستعاذة بالله دون غيره وتجيب السورة: لأنه (رب الفلق) الذي فلق الحبّ والنوى فأخرج كل أنواع النبات، وفلق خلية الحيوان واإنسان الأولى في رحم الأمهات، فأخرج أنواع الحيوانات وملايين البشر، وهو فالق الاصباح.. فإنّ ضياء الصبح يفلق ويشق ظلام الليل وهكذا فهو فالقُ كل شيء من ظلمة العدم إلى نور الوجود وبيده ملكوت كل شيء وله جنود السماوات والأرض وهو رب كل شيء ومربيه ولولا هذه التربية لما استطاع مخلوق أن يهتدي لفعل شيء. فمن كان بهذه المنزلة وهذه الصفات وليس له شريك معه يشابههه فيها إذن الإستعاذة لا تكون إلّا به فهو قادر أن يفلق ظلمات الشر بنور الخير. ثم أنّ السورة الشريفة تعلمنا أن نستجير ونستعيذ أولاً من كل نوع من أنواع الشرور التي تصدر من سائر المخلوقات من الجن والإنس والنبات والحيوان والجماد وغيرها فهو قادر على دفعها جميعاً وهو يجيب الدعاء وهو كريم العطاء ولكن السورة تعلمنا بعد ذلك أن نستعيذ من بعض الشرور الخطرة بالقياس إلى غيرها، وقد خصها الله تعالى بالذكر لكثرة أضرارها ولعظمتها وشدة أذاها وهن.

أولاً: ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾: و(الغاسق) هو الليل على ما فسره المفسرون وهو الذي يهجم بشره على ما ذكر أهل اللغة و(إذا وقب) أي إذا دخل وخيّم... ومن المعلوم أنه في الليل تخرج السباع والوحوش والهوام من مخابئها وأوكارها للإفتراس والاصطياد... وفي الليل يخرج اللصوص وقطاع الطريق للسرقة والقتل والاغارة على القوافل في القفار... وفي الليل تغير جيوش العدو لإحتلال الأراضي وإنتهاك الاعراض وسلب الخيرات... وفي الليل تشتد الأمراض الجسدية والنفسية وتهيج الأوجاع كالصداع وآلام الضرس والحمى وغيرها... وفي الليل يشعر الإنسان بالوحشة وتقتله الغربة وتؤذيه الوحدة لذلك فهو ينتظر الصباح بلهفة... وفي الليل تقوى وساوس الشياطين وهواجسهم ويكثر اضلاله واغواؤه للعباد... وفي الليل يقدم الفساق على الفساد والسفاح والزنا وهكذا.. ثم أنّ كل مصيبة نراها تتضاعف شدتها ورهبتها أثناء الليل عمّا في النهار، فالحرائق الليلية تثير الرعب أكثر منها في النهار وموت الميت تشتد رهبته في الليل عمّا لو حدث في النهار وهكذا في اللص وهجوم العدو والزلزال، فلذلك كله ولغيره مما لم نذكره أم لم نعلمه طلب الله منا أن نستعيذ به من الليل إذا دخل والظاهر أنه ليس المقصود هو نفس الليل ولكن من شر ما يحدث أثناء الليل من الشر والمكروه.

ثانياً: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾: وقد فسرت (النفاثات) بالنساء الساحرات اللاتي ينفثن ف يالعقد، والنفث هو النفخ والعقد هي خرق وقماش يوضع فيها مواد  السحر ويعقدنها ثم يرمينها في بئر أو في بيت الشخص المسحور. والسحر كان يستخدم بكثرة في الأمم السابقة حتى إنّ فرعون استخدم السحرة لدعم ملكه ضد نبي الله موسى× ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ واليوم يكثر السحر في الهند والصين ومصر وغيرها ويروى أنّ سبب نزول سورة الفلق هو أنّ يهودية صنعت سحراً لرسول الله| فمرض النبي| فأرسل النبي| علياً إلى بئر واستخرج السحر وبدأ يقرأ السورة وإنحل السحر عنه| وشعر| بالراحة منه وشفي مما هو فيه والقرآن يذكر في سورة البقرة أن اسحرة يتعلمون اسحر ليفرقوا به بين المرء وزوجه حيث يلقون العداوة بينهما بواسطته، فتأثيره خطير لأنّ بناء المجتمع قائم على الأسرة، وتهديم الروابط الأسرية يؤدي إلى أضرار خطيرة وعداوات بين اسرتي الزوج والزوجة ويتسيب الأولاد ويضيعون فيكونوا بؤرة للفساد والجريمة بل سوف يحقدون على كل المجتمع وفي المستقبل ينتقمون من الجميع... ولما كان الإسلام يعتبر الزواج من أهم الروابط المقدّسة حتى قال النبي| «ما بني بناء في الإسلام بعد الإيمان بالله أعظم من التزويج» لذلك كانت اضرار هدم هذا البناء وخيمة العواقب، هذا بعض آثار السحر فكيف بما لم يذكر من أضراره مما نعلم أو لا نعلم.

ثم أنّ المفسرين ذكروا (للنفاثات في العقد) معنى آخر وهو أن (العُقدَ) معناه عقد المودة وروابط المحبة بين أبناء المجتمع الإسلامي ، بين الأب وإبنه والأخ وأخيه والزوج وزوجته والجار مع جاره والصديق مع صديقه (والنفث) هو كل كلام خبيث أو قول مسموم يلقيه الإنسان لكي يفرق بين الأحبة أو الأقرباء فيزل روابط الود ويحل عقد الحب بينهم، ولعل الآية تشمل كلا المعنيين معاً أي السحر الذي يستخدم للتفريق بين الزوجين أو الكلام المفرق بين الأحبة من المؤمنين، فإنّ كل منهما نفث في العقد لذلك أمر الله بالتعوذ به منهم، لأنّ ذلك يفكك كيان المجتمع، بل يؤدي إلى هدمه وإنهياره.

ثالثاً: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ والحسد هو تمني زوال النعمة عن غيره والحاسد يغتاض إذا رآك في نعمة أنعمها الله عليك، لذلك يحاول جاهداً أن يزيلها عنك أو يوقعك في الأذى والشر من دون أن تعلم به لأنّ الحسد موطنه القلب وإذا كان الله يقول ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ فنعمُ الله على كل إنسان كثيرة لا تحصى ثم أنّ الحسد مرض يبتلى به أكثر الناس وحتى ربما يصيب المؤمنين (نستجير بالله منه) فالمؤمن يحاول أن يزيل منه هذا الهاجس بالإستغفار وبالرضا بقضاء الله، فعلينا أن نستعيذ من شر كل حاسد بالله... ثم ذكروا أنّ الحاسد يصيب بعينه أيضاً وقد ورد في الحديث (ان العين حق) لذلك أمر يعقوب بنيه أن يدخلوا من أبواب متفرقة لئلا يصابوا بالعين وهم على هذه الهيئة من الإجتماع والجمال والفتوة وكثرة العدد، فيعلمنا الله أن نستجير به من أمثال هذه الشرور وهو نعم المجير...

أعاذنا الله وإياكم من شر الدنيا والآخرة بحق محمد وعترته الطاهرة (صلوات الله عليهم أجمعين) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.