akdak

المقالات

قسم الأدب و اللغة

الشعر ظاهرة حضارية عريقة

192

د. خليل إبراهيم المشايخي

يعدُّ الشعر في نظر العلماء ظاهرة حضارية عريقة موغلة في القدم، اهتدى اليها الإنسان بإحساسه المرهف، ذلك لأنّ الشعر صفة مميّزة للبشر تشير الى رقيّ في التكوين وسمو في التفكير.
والشعر احساس ذكي بالواقع يرتبط بباقي الفنون الجميلة، وبوجه خاص بفن الموسيقى وما يتصل به، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يتصل بعبقرية اللغة وتطورها.
وقد بالغ القدماء في أسرار صنْعة الشعر حتى جعلوه وحياً أو إلهاما يتلقّاه العرب من عالم الغيب عن طريق جنّي او شيطان.. وهذا المعتقد يستوي فيه العرب وغيرهم من أمم الأرض يومذاك كأنهم اتفقوا جميعا على التسليم به.

إن التعريفات العديدة للشعر ابرزت لنا عنصرا أساسيا الى جانب عنصري الوزن والقافية، تلك هي المعاني التي يذكيها الشعور النبيل ويشدّها الهدف البنّاء، وأما اللفظ فهو اللغة والفاظها وحسن اختيارها واستعمالها لكي تأخذ موقعها من النفس، ومكانها من القلب، فتملك على السامع او القارئ لبّه ومن ثم احاسيسه ومشاعره.
عناصر قوّة الشعر:
والشعر العربي مظهر قومي تمارسه الأمة العربية، وقد احتفظ بخصوصيته المتميزة عبر آلاف السنين، وقد يزدهر فنيا، فلا يمر عصرٌ الا وينبغ شاعر عربي عظيم فيه، ولا يتوقف ذلك ما دامت الحياة والحضارة الإنسانية، فلا غرابة اذا لم يفقد الشعر تأثيره وقوة أسره في الجماهير العربية وفي الأحداث حتى لدى المغتربين بين المهاجر في الاصقاع البعيدة حيث المدنية الغربية والمؤثرات الجديدة في اية بقعة اخرى عرفت التقدم الحضاري.
وقد قيل ان (الشعر ديوان العرب) ففيه مثل العرب الاخلاقية ومكارمهم القومية وقيمهم الإنسانية، وهو يعين العاملين في بناء الوطن والأمة وينمي الإحساس ويزكي العقل، فالشعر تكون الصورة فيه كأحسن ما تكون، فلا تفقد ابعادها أو بعض اجزائها الجميلة ولا تحرم من تراكيب ورموز تجعل من تناسقها سحرا ومن لغتها تجلياً جماليا أخاذا.
نشأة الشعر العربي:
لقد قال العلماء بأن الشعر كان في نشأته واصوله نسكا دينيا وثنيا، وهذا ما عكسته ملحمة جلجامش والملاحم اليونانية والهندية، وقد كان الإسلام والشعر في بعض أغراضه على مفترق طرق حتى جاء التنزيل العزيز بالبيان والفصل في هذا الأمر.
إن ظاهرة النغم والحركة التي تصاحب الشعر تبدو بشكل واضح في اناشيد العمل ايضا، اذ يختار العامل شعره ونغمته الموسيقية او العروضية بما يناسب طبيعة العمل، فظهر لدينا في الأدب العربي قبل الإسلام ما يعرف بالأراجيز وبالأخص تلك التي تنظم عند استخراج المياه او حفر الآبار وشعر الترقيص مما ينشده الوالدان في ترقيص طفلهما.
وظهرت نظرية تقول ان الأراجيز اصل الشعر، بينما ذهب غيرهم ممن ادعوا أسبقية النثر على الشعر الى ان الشعر خرج من النثر الفني المسجّع، فعندما سقطت سجعتان موزونتان من فم كاهن تطورتا الى مقطوعة ثم الى قصيدة.
واجمالا يمكن القول بأن الشعر بدأ بداية دينية تتصل بالآلهة وطقوسها وبالعبادات وتراتيلها وانغامها وحركات الرقص المقدس فيها، واستمرت هذه الحالة زمنا طويلا الى ان أخذ شكله الفني المتطور لدى الشعراء المحترفين أرباب الصنعة والدراية فتحول الى فن يخدم المجتمع في أطواره المختلفة.
إن هذه الصورة المصغرة لنشأة الشعر وتطوره تنطبق على شعرنا العربي وعلى الشعر الأجنبي دون تفريق، لأن تجارب البشر على وجه الأرض متقاربة ومتشابهة في ظروفها، فضلا عن التبادل الحضاري بين الأمم.
مرحلتان مرّ بهما الشعر:
ولذلك يمكننا القول ان لشعرنا العربي مرحلتين: مرحلة أولى تتعلق بتلك المرحلة الغارقة في القدم من تاريخه الطويل، وهو تاريخ ما قبل الكتابة عندما كان الإنسان مجاهدا في سبيل الاهتداء الى ذاته والكشف عن بيئته وعن الطبيعة والأكوان المحيطة به، فكان الشعر والموسيقى اول حدث في حياة الإنسان عبّر عن طريقهما وبوساطتهما عن جزء غير يسير من مشاعره ومعتقداته حتى لبعض المعارف الأولية، وهذه الأولية تتعلق بشعرنا المعروف الذي نظم في غير عربيتنا الفصيحة، وهي اولية الشعر التي تمثل ملحمة جلجامش أقدم مظهر لها.
اما المرحلة الثانية للشعر العربي فهي التي بدأت مع بدء الرواية الشفوية للشعر العربي، أي سبقت مرحلة تدوين الشعر في القرن الهجري الثاني بزمن طويل، فهي مرحلة تتعلق بالشعر الذي نظم بعربيتنا الفصيحة التي ظهر بها أشهر الأوائل من شعراء العرب كـالمهلهل بن ربيعة، وامرئ القيس، والأفوه الأودي، وعبيد ابن الابرص وطرفة بن العبد وغيرهم.
فالمتأمل لشعرهم يجده شعرا ناضجا من جميع وجوهه الفنية والتعبيرية، فهل معنى ذلك أن هذا الشعر عندما ظهر انما ظهر في هذه الصيغة التامة الناضجة ولم يعرف المحاولات البدائية والأوليات الساذجة؟

نشرت في الولاية العدد 79