akdak

المقالات

قسم التأريخ

تحريف التاريخ

283

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

قال تعالى : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [التوبة: 19] .

طبقاً لرواية وردت في كثير من كتب الآيات أهل السنة الشهيرة، أنّها نزلت في علي (عليه السلام) وبيان فضائله، على أنّ مفهوم الآيات عام واسع «وقد قلنا مراراً بأن أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآي».

إلاّ أنّ بعض مفسّري أهل السنة لم يرغب في أن تثبت للإِمام علي (عليه السلام) فضائل بارزة مع اعتقادهم بأنّه رابع خلفاء المسلمين! وكأنّهم خافوا إن أذعنوا لما يجدونه عند علي (عليه السلام) من الفضائل أن يقف الشيعة أمامهم متسائلين : لم قدّمتم على علي غيره؟

فلذلك أغمضوا النظر عن كثير من مناقبه وفضائله، وسعوا جاهدين لأن يقدحوا في سند الرواية التي تذكر فضل علي (عليه السلام) على غيره أو في دلالتها.

ويا للأسف ما زال هذا التعصب المقيت ممتداً إِلى عصرنا الحاضر، حتى أنّ بعض علمائهم المثقفين لم يسلموا من هذا الداء الوبيل والتعصب دون دليل!

ولا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين بعض علماء أهل اسنة، إذ أظهر كلاماً عجيباً عند ذكرنا لمثل هذه الأحاديث، فقال: في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم «أصولها وفروعها» من مصادرنا وكتبنا، لأنّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة وصحة مذهبهم.

إلاّ أنّه من أجل أن يريح نفسه من جميع هذه الكتب، قال: أعتقد أن أسلافنا كانوا حسني الظن، وقد أوردوا كل ما سمعوه في كتبهم، فليس لنا أن نأخذ كل ما أوردوه ببساطة!! «طبعاً كان حديثه يشمل الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة وما هو عندهم في المرتبة الأُولى».

فقلت له: ليس هذا هو الأُسلوب في التحقيق، حيث يعتقد إنسان ما بمذهب معين، لأنّ آباءه كانوا عليه وورثه عن سلفه، فما وجده من حديث ينسجم ومذهبه قال: إنّه صحيح، وما لم ينسجم حكم عليه بعدم الصحة، لأنّ السلف الصالح كان حسن الظن، حتى لو كان الحديث معتبراً.

فما أحسن أن نختار أُسلوباً آخر للتحقيق بدل ذلك، وهو أن نتجرّد من عقيدتنا الموروثة ثمّ ننتخب الأحاديث الصحيحة دون تعصب.

ونسأل الآن : لماذا سكتوا عن الأحاديث الشهيرة التي تذكر فضل علي وعلو مقامه، بل نسوها وربّما طعنوا فيها، فكأن مثل هذه الأحاديث لا وجود لها أصلا؟

ومع الإِلتفات إِلى ما ذكرناه آنفاً، ننقل كلاماً لصاحب تفسير «المنار» المعروف، إذ أهمل شأن نزول الآيات محل البحث المذكور آنفاً، ونقل رواية لا تنطبق ومحتوى الآيات أصلا، وينبغي أن نعدّها حديثاً مخالفاً للقرآن، فقال عنها: إنّها معتبرة! وهي ما نُقَل عن النعمان بن بشير إذ يقول: كنت جالساً في عدة من أصحاب النّبي إلى جوار منبره، فقال بعضهم: لا أرى عملاً بعد الإِسلام أفضل من سقاية الحاج وإروائهم، وقال الآخر: إن عمارة المسجد الحرام أفضل من كل عمل، فقال الثالث، في سبيل الله أفضل ممّا قلتما.

فنهاهم عمر عن الكلام وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ـ وكان ذلك اليوم يوم الجمعة ـ ولكنّي سأسأل رسول الله بعد الفراغ من الصلاة ـ صلاة الجمعة ـ في ما اختلفتم فيه.

وبعد أن أتمّ صلاته جاء إِلى رسول الله فسأله عن ذلك، فنزلت الآيات محل البحث(1).

إلاّ أنّ هذه الرّواية لا تنسجم والآيات محل البحث من عدّة جهات، ونحن نعرف أن كلّ رواية مخالفة للقرآن ينبغي أن تطرح جانباً ويُعرضَ عنها; لأنّه:

أوّلا: لم يكن في الآيات محل البحث قياس ما بين الجهاد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، بل القياس ما بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة، والإِيمان بالله واليوم الآخر والجهاد من جهة أُخرى، وهذا يدل على أن من كان يقوم بمثل السقاية والعمارة في زمان الجاهلية كان يقيس عمله بالإِيمان والجهاد. فالقرآن يصرّح بأنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا يستويان ـ كل منهما ـ مع الإِيمان بالله والجهاد في سبيله وليس القياس بين الجهاد وعمران المسجد وسقايه الحاج (لاحظ بدقة).

ثانياً: إنّ جملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} تدل على أن أعمال الطائفة الأُولى كانت معروفة بالظلم، وإنما يفهم ذلك فيما لو كانت هذه الأعمال صادرة في حال الشرك، لإنّ القرآن يقول {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13]. ولو كان القياس بين الإِيمان وسقاية الحاج المقرونة بالإِيمان والجهاد، لكانت جملة {والله لا يهدي القوم الظالمين} لغواً ـ والعياذ بالله ـ لأنّها حينئذ لا مفهوم لها هنا.

ثالثاً: إنّ الآية الثّانية ـ محل البحث ـ التي تقول {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً} [التوبة: 20] مفهومها أن أُولئك أفضل وأعظم درجة ممن لم يؤمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا في سبيل الله، وهذا المعنى لا ينسجم وكلام النعمان ـ آنف الذكر ـ لأنّ المتكلمين وفقاً لحديثه كلهم مؤمنون ولعلهم أسهموا في الهجرة والجهاد.

رابعاً: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إقدام المشركين على عمارة المساجد وعدم جواز ذلك: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 17] والآيات محل البحث تعقب على الموضوع ذاته، ويدل هذا الأمر على أن موضوع الآيات هو عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج حال الشرك، وهذا لا ينسجم ورواية النعمان.

والشيء الوحيد الذي يمكن أن يُستدلَ عليه هو التعبير بـ(أعظم درجة)حيث يدل على أن الطرفين المقيسين كل منهما حسن بنفسه، وإن كان أحدهما أعظم من الآخر.

___________________________

1- تفسير المنار ،ج10 ،ص215 ، ذيل الآية مورد بحث .