لا إشكال في صحّة عقاب العبد وحسنه على مخالفة المولى على ضوء نظريتي الإماميّة والمعتزلة ، حيث إنّ العقاب على ضوئهما عقاب على أمر اختياري، ولا يكون عقاباً على أمر خارج عن الاختيار ليكون قبيحاً، ومن الطبيعي أنّ العقل يستقلّ بحسن العقاب على أمر اختياري..
التقريب الأول
ومجمل القول فيهأنّ القاعدة المذكورة مختصّة بالمعاليل الطبيعية ولا تنطبق على الأفعال الاختياريّة ، والوجه في ذلك أنّ القاعدة المذكورة مبتنية على مسألة السنخية والتناسب التي هي الأساس للعلّية ...
لمّا كانت قدرة العبد بالنسبة إلى الفعل والترك على حدّ سواء وإنّما المرجّح لأحدهما هو الشوق النفساني الذي هو الإرداة ، فلا بأس بصرف عنان الكلام ـ وإن كان خارجاً عن المرام لكنّه لا يخلو عن مناسبة للمقام ـ إلى مجمل القول في الترجيح بلامرجّح والترجّح...
بقي الكلام في دفع شبهات الأشاعرة القائلين بالجبر وأنّ العباد مجبورون في أفعالهم ، ولذا أنكروا التحسين والتقبيح عقلا بدعوى أنّ الأفعال كلّها مخلوقة لله تعالى ، وتصرّفه يكون في ملكه وسلطانه ، والظلم إنّما هو التصرّف في سلطان الغير..
ذهب الأشاعرة القائلون بالجبر إلى أنّ[ العباد مجبورون في أفعالهم ، ولذا أنكروا التحسين والتقبيح عقلاً حيث إنّ موضوعهما الفعل الاختياري لا الجبري ، وتحفّظوا بذلك قدرته وسلطنته تعالى وأنّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد..
إنّ الأفعال الاختياريّة لا تكون متعلّقة للإرادة الأزليّة أصلاً ، فلا تكون الإرادة الأزليّة متعلّقة بصدورها ولابعدم صدورها ليدور الأمر بين الضرورة والامتناع ، بل الإرادة الأزليّة قد تعلّقت بكون العبد مختاراً ، إن شاء فعل وإن شاء ترك..
ثمّ بما ذكرناه ظهر الخلل في كثير من عبارات الكفاية في المقام ، ونحن نتعرّض إلى موردين منها
أحدهما : ما ذكره من انقسام الإرادة إلى التكوينيّة والتشريعيّة ، فإنّ الإرادة على ما عرفت بمعنى البناء القلبي ، ولايعقل تعلّقه بفعل الغير ...
وقد استدلّوا على الجبر بظواهر آيات من الكتاب الكريم من قبيل:
قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء)([1]) ، وأفعال العباد شيء ، فهو خالقها ، وغير ذلك ممّا دلّ على نفي الشرك
وفيه أوّلاً : أنّ المسألة عقلية لا يمكن الرجوع فيها إلى الظهورات...
إنّ الشوق المؤكّد بأعلى مرتبة التأكيد المحرّك للعضلات نحو الفعل المطلوب هل هو علّة تامّة لصدور الفعل بحيث لا يكون بينه وبين صدور الفعل توسّط شي آخر ، أو لا يكون علّة تامّة له ؟ فبعد تحقّق هذا الشوق المؤكّد له أن يفعل وأن لا يفعل ..
وأمّا البداء الثابت في حقّ بعض الأئمة(عليهم السلام) ـ وأوّلهم الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)بالإضافة إلى إسماعيل بن الصادق(عليه السلام) ، وثانيهم الجواد ، وثالثهم الهادي ، ورابعهم الحسن العسكري (عليهم السلام) ، كما هو وارد في زياراتهم...
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية
1 ـ إنّ حقيقة البداء عند الشيعة الإمامية هي بمعنى الإبداء أو الإظهار ، واطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل وبعلاقة المشاكلة . . .و أنّه لا مناص من الالتزام بالبداء بالمعنى الذي ذكرناه..
فالنتيجة على ضوء هذه الروايات ، هي أنّ البداء يستحيل أن يقع في القسم الأوّل من القضاء المعبّر عنه باللوح المحفوظ وباُمّ الكتاب والعلم المخزون عند الله ; بداهة أنّه كيف يتصوّر البداء فيه ، وأنّ الله سبحانه عالم بكنه جميع الأشياء بشتّى ألوانها...
إنّ قضاء الله تعالى على قسمين : محتوم ، وغير محتوم
أمّا المحتوم فهو لايتخلّف عن تعلّق مشيئته بما تعلّق به قضاؤه ، ولا يقع فيه البداء
وأمّا غير المحتوم فالبداء إنّما يقع فيه
وتفصيل ذلك : أنّ قضاء الله تعالى إذا جرى على شيء فهو إنّما يجري عليه
أولاً البداء إنّما يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بلوح المحو والإثبات ، والإلتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله...
ذهبت اليهود إلى أنّ قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلّق المشيئة بخلافه([1]) ، ]لأنّ[ جَري قلم التقدير والقضاء على جميع الأشياء يستلزم سلب قدرته تعالى ، واستحالة تعلّق مشيئته بغير ما جرى عليه القلم في الأزل...
لايخفى أنّ العامّة الذين شنّعوا على الشيعة بل استهزؤا بهم لالتزامهم بالبداء أيضاً التزموا به ، والأخبار الواردة عن النبي(صلى الله عليه وآله) من طرقهم في ذلك أكثر ممّا ورد من طرق الخاصّة قد حكاها جماعة من الصحابة عن النبي(صلى الله عليه وآله)...
]يتلخّص وجه التسمية بالبداء في أمرين
الأول : المشاكلة ، فإنّ تعلّق مشيئته المقدّسة بعدم تحقّق ما تحقّق المقتضي لثبوته شبيه بالبداء الحقيقي ، ومن هذا الباب قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً)...
اتّفقت كلمة الشيعة الإماميّة على أنّ الله تعالى لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق بشتّى أنواعه بمقتضى حكم العقل الفطري ، وطبقاً للكتاب والسنّة وقد التزم الشيعة بالبداء في التكوينيّات ، وخالف في ذلك العامّة ، وقالوا باستحالة البداء فيها...
لا ريب في أنّ العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته ، وأنّ وجود أيّ شيء في الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى ، فإن شاء أوجده وإن لم يشأ لم يوجده .
ولا ريب أيضاً في أنّ علم الله سبحانه قد تعلّق بالأشياء كلّها منذ الأزل..
بمناسبة الحديث عن النسخ في الأحكام وهو في اُفق التشريع ، وبمناسبة أن النسخ كالبداء وهو في اُفق التكوين ، وبمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين . . . بمناسبة كلّ ذلك وجب أن نذكر شيئاً في توضيح البداء ...