akdak

المقالات

قسم القرآن الكريم

الحروف المقطّعة في القرآن الكريم

221

الشيخ مصطفى ابو الطابوق

الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)
من المسائل التي تثار دائماً في القران الكريم ظاهرة الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية التي هي (114) سورة حيث نلاحظ من خلال التأمل البسيط في سور القرآن أن (29) سورة منها تبدأ بمثل هذه الحروف المقطعة ومن الأمثلة على ذلك:
حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . وقوله تعالى: (كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى‏ رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا). وقوله تعالى: (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) . وقوله تعالى: (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ. وقوله تعالى: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ).
بحث المفسرون هذه الظاهرة وسلّطوا عليها النظر فتوصلوا في تأويلها إلى آراء متعددة بلغت حوالي (27) رأياً أشهرها ثلاثة:

الرأي الأول: أنها من الرموز والأسرار التي تعبّر عن تاريخ معين تنتهي فيه الدنيا، أو تتمثل فيه بعض الحوادث في حساب الجمل في العصور القديمة، وذلك على أساس الحروف الأبجدية الذي يجعل لكل حرف منها رقماً معيناً، وبتعبير أوضح عبارة عن أسرار تحتوي على سجل الحوادث التي ستصدر على مسيرة التاريخ عبر القرون والأجيال، وهذا شبيه ما يسمى عند الأدباء بالتاريخ الشعري حيث يأتون بقصيدة أو مجموعة من الأبيات ويجعلون في البيت الأخير منها كلمة أرخ أو إحدى مشتقاتها ثم تحسب الجملة الواقعة بعدها، فمجموع الحروف يعطينا تاريخ حدث معين ولادة، أو وفاة، أو تتويج، فالحروف المقطعة عبارة عن اختصار وتلخيص لأحداث خطيرة وأمور مهمة في سجل الدنيا.
وهذا التفسير باطل، ولا دليل عليه، ولا يمكن الاعتماد عليه، والحساب الواقع فيه غلط، هذا أولاً.
وثانيا: لأن القرآن الكريم ما جاء ليربط الناس بأسرار والغاز وطلاسم يختلف الناس في فهمها، بل جاء للهدى والمعرفة ورسم معالم الطريق للناس بكل وضوح وجلاء، بالإضافة إلى أنه ندّد بالذين لا يتدبرون القرآن بقوله تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها).

الرأي الثاني: أنها من كلام النبي لإثارة انتباه الناس إلى الآيات التي يريد أن يقرأها عليهم فقد كان المشركون في ذلك الوقت يعملون على إثارة الضوضاء واللغو عند قراءة النبي للقران؛ ليمنعوا الآخرين من الاستماع إليه، فجاءت هذا الكلمات غير المألوفة لديهم لتؤدي دورها في إثارة الانتباه من خلال غرابتها على أسماعهم؛ لأنها ليست من نوع الكلمات التي تعرّفوا عليها، فليس لها مدلول معين ومضمون واضح، ومن هنا يبدأ التساؤل الداخلي الذي يهيئ النفس لانتظار ما بعدها لتستوضح معناها من خلال ذلك وتتحقق الغاية من سماعهم لآيات الله ومن الذين ذهبوا إلى هذا الرأي طه حسين الأديب المصري الذي يقول إن هذه الحروف لصقت بالقرآن على مرور الزمان، وأخذ هذا الرأي من المستشرق (رود ويل)حيث ظن أن هذه الحروف المختلفة رموز إلى جامعي القران ف(حم) رمز إلى مصحف ابن عباس، و(طس) رمز إلى مصحف ابن عمر وهكذا.

والجواب:
أولاً: هذا نص صريح على تحريف القران الذي يقول عنه القران (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).
ثانيا: أن اللغو والأجواء العدائية التي كان المشركون يثيرونها أمام النبي(صلى الله عليه واله) إنما هي في مكة بينما يغلب على السور التي اشتملت على هذه الحروف الطابع المدني وهذه الأجواء لم تكن مثارة في المدينة؛ لأن المشكلة لم تكن مطروحة هناك، فهذا الرأي باطل، ولا يصمد أمام التحقيق والنقد الموضوعي.

الرأي الثالث: أن الله تحدى الناس بالقران وبالغ بالتحدي بطرق متنوعة فأراد أن يبين لهم أن هذا القرآن الذي أعجزهم الإتيان بسورة من مثله لم يكن مؤلفا من حروف جديدة مبتكرة نازلة من السماء يجهلونها وإنما المادة الخام التي صنع القران منها تحت متناول أيديهم وهي هذه الحروف المتنوعة المعلومة لديهم فإذا كانت عندهم القدرة لصنع مثل هذا القران فهذه المواد الخام جاهزة عندهم ولعل هذا من ابلغ أنواع التحدي تماما كما تواجه إنسان واقف أمام مبنى جميل متقن فتقول له هل تستطيع أن تبني مثل هذا ثم تعقب ذلك بان المواد جاهزة إذا كنت تملك الفكر والممارسة الفنية فانه سيقف عاجزا أمام عظمة المبنى وجهله .فقد يكون هذا التفسير اقرب التفاسير إلى الفهم والواقع وهو المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام)في تفسيره.
والحق كما يقول السيد السبزواري في تفسير مواهب الرحمن إن هذه الحروف المقطعة من المتشابهات التي استأثر الله تعالى علمها لنفسه أو من علمه الله عز وجل لان هذه الكلمات المقطعة أعيت العلماء عن الوصول إلى آثارها فضلا عن العلم بكيفية تراكيبها والاطلاع على حقائقها وأسرارها فلا يلزم الفحص عن حقيقتها وبذل الجهد في فهمها بل لابد من إيكال الأمر إلى الله تعالى وقد ورد بذلك روايات عن النبي والأئمة الأطهار نعم الآراء التي يذكرها المفسرون هي حكم وفوائد لهذه الحروف ليس إلا.

نشرت في الولاية العدد 99