akdak

المقالات

قسم الاقتصاد

البؤس يعشق زُمرة مستهدفي التضخم

77

KOICHI HAMADA

طوكيو ــ في الآونة الأخيرة، حققت الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان خطوات اقتصادية إيجابية. ففي الولايات المتحدة يتجه معدل البطالة نحو الانخفاض، والآن لا يتجاوز المعدل 4%. وتظل البطالة مرتفعة في منطقة اليورو، عند مستوى يقترب من 9%، ولكن هذا يمثل رغم ذلك تقدما كبيرا عن السنوات العشر المنصرمة أو نحو ذلك. كما تمكنت اليابان من تحقيق هدف التشغيل الكامل للعمالة تقريبا، مع ارتفاع الطلب على اليد العاملة، حتى بات بوسع الخريجين الجدد ليس العثور على وظائف فحسب، بل وأيضا الاختيار من بينها.

ولكن يبدو التقدم متباطئا في مجال واحد رئيسي: التضخم. ففي حين بلغ مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة 2.2% في أكتوبر/تشرين الأول، لم يتمكن البنك المركزي الأوروبي ولا بنك اليابان حتى الآن من تلبية هدف التضخم المحدد بنسبة 2% تقريبا، وكان متوسط نمو الأسعار السنوي في منطقة اليورو قريبا من 1.5%، بينما توقف المعدل في اليابان عند مستوى 1% بثبات.

هناك أسباب وجيهة للسعي إلى تحقيق هدف التضخم. فسوف تتخلص أسواق المال من أسعار الفائدة القريبة من الصِفر، وتهدأ المخاوف بشأن ارتفاع قيمة العملة الذي يلحق الضرر بالقدرة التنافسية للصادرات، مع استمرار العولمة والذكاء الاصطناعي في خلق المنافسة للعمال. وسوف تصبح السياسة النقدية التوسعية التي انتهجتها البنوك المركزية الرئيسية على مستوى العالَم مبررة.

ولكن عندما يتعلق الأمر برفاهة الناس العاديين، لا يُعَد تحقيق هدف التضخم الخيار الأفضل دوما. لا شك أن كبح جماح التضخم المرتفع مفيد، لأنه يحافظ على قيمة الأموال الموجودة. لكن رفع التضخم الأقل من المستهدف إلى مستوى 2% يجعل الناس في حال أسوأ، لأنه يجعل مدخراتهم تفقد قيمتها بشكل مستمر، فيقوض فرص ازدهارهم بالتالي.

قام الراحل آرثر أوكون، الذي كان أحد أساتذتي في جامعية ييل قبل أن يشغل منصب رئيس مجلس مستشاري الرئيس ليندون جونسون للمستشارين الاقتصاديين، بإنشاء ما أسماه مؤشر البؤس، الذي يتجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي الأساسي أو معدل البطالة لكي يقدم لنا نظرة ثاقبة إلى الأحوال الاقتصادية للمواطن المتوسط. يستند مؤشر أوكون ــ الذي يتألف من مجموع معدل التضخم ومعدل البطالة ــ على افتراض مفاده أن ارتفاع التضخم، مثله كمثل ارتفاع معدلات البطالة، يخلق تكاليف اقتصادية واجتماعية في أي بلد.

الواقع أن هدف التضخم وسيلة لتحقيق غاية ــ تسهيل التشغيل الكامل للعمالة والتعجيل بنمو الناتج المحلي الإجمالي ــ وليس غاية في حد ذاته. وفي اليابان على الأقل جرى تحقيق تقدم كبير نحو تحقيق هذه الغاية، على الرغم من الفشل في تحقيق هدف التضخم الذي حدده بنك اليابان. وربما تساعد مؤشرات التشغيل الكامل للعمالة في سوق العمال الدائمين في تمهيد الساحة لزيادة معتدلة في الأجور والأسعار. ولم تكن هذه هي الحال قبل عام 2013، عندما أذن تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، والذي عُرِف باسم "اقتصاد آبي"، بنهاية فترة من السياسة النقدية المتقشفة.

بيد أن هذا لم يمنع منتقدي اقتصاد آبي من العزف على وتر عدم تلبية هدف التضخم. والسؤال هو لماذا.

قبل وقت ليس ببعيد، طرحت هذا السؤال على أحد المسؤولين عن السياسة النقدية (والذي لا أملك حرية الإفصاح عن اسمه). وبدلا من الحصول على إجابة مباشرة، جاءني الرد بأن الأمر "بالغ الصعوبة والتعقيد"، وأخيرا صرح المسؤول بوجوب السعي إلى تحقيق هدف التضخم مهما بلغ معدل البطالة من انخفاض.

وهذا النمط من التفكير شائع بين خبراء الاقتصاد، وخاصة الجيل الذي اجتاحته ثورة "التوقعات العقلانية" في الاقتصاد الكلي. تنظر هذه الزمرة إلى عِلم الاقتصاد على أنه دراسة للنماذج، حيث يصبح من الممكن افتراض أن توقعات العملاء عقلانية ومتسقة مع النموذج. ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار توقعات التضخم إما تنبؤات مثالية للمستقبل، أو على أقل تقدير عقلانية، ولا تقوض دقتها وإحكامها سوى القيود المفروضة على المعلومات التي تتلقاها الهيئات الاقتصادية الفاعلة.

كان فِكر أهل الاقتصاد الأكبر سنا مختلفا، فافترضوا أن أغلب النتائج الاقتصادية في العالَم الحقيقي ترجع إلى سلوك غير عقلاني جزئيا على الأقل، بمعنى أن التوقعات ينبغي النظر إليها باعتبارها احتمالات معقولة وليست شبه يقينية. ولأنني أنتمي إلى الجيل الذي درس على حكماء قدامى ــ لورنس كلاين، وفرانكو موديلياني، وجيمس توبين ــ فأظن أن هذا تقييم جدير بالاهتمام ــ تقييم ينبغي تطبيقه على المناقشات الدائرة اليوم حول السياسة النقدية والتضخم.

ولئن كان من المهم أن نعترف بمزايا استهداف التضخم، فإن مؤشر البؤس أيضا من الممكن أن يلعب دورا في مساعدتنا على تقييم حالة اقتصاداتنا ــ ونجاح سياساتنا.