akdak

المقالات

قسم الرجال والحديث

فَضِيلةُ الحَدِيثِ وَرِوَايتُه

109

الدكتور الشيخ عبد الرسول غفّاري

لمّا كانت الأحكام والسنن تؤخذ في زمن النص وعصر التشريع من الكتاب والسنّة، وإنّ سيرة أهل البيت جزء من السنّة، فكانوا بعد نبيهم هم الأمناء، والحفاظّ على الشريعة،وهم  الطريق الصحيح لايصال تلك الأحكام إلى المسلمين للسير بهداهاوالعمل بها.

ولمّا كانت النصوص القرآنية فيها المجمل والمطلق والعام والمجاز وغير ذلك من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، جاءت النصوص الشريفة لأحاديث الرسول|، وأخبار أهل البيت (سلام الله عليهم) لتكشف ما غمض على المسلمين من نصوص القرآن، فبيّنوا ^ مجمل القرآن، والمطلق منه والمقيّد، والعام والخاص ... الخ لهذه المناسبات حثّوا أصحابهمعلىحفظالحديث وروايته وتناقله فيما بينهم حتى وردت في فضيلة حفظ الحديث وروايته أخبار جمّه معتبرة.

منها: ما رواه الكشي في رجاله.  بسنده عن الإمام الصادق× قال: «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون رواياتهم عنّا، فإنّا لا نعدّ الفقيه فقيهاً حتى يكون محدّثاً، فقيل له: أو يكون المؤمن محدّثا قال: يكون مفهما والمفهم محدّث».

وعن حمدويه وإبراهيم ابنا نصير، قالا: حدّثنا محمد بن إسماعيل الرازي قال: حدّثني علي بن حبيب المدايني، عن علي بن سويد النسائي، قال:كتب اِليّ أبو الحسن الأول.  وهو في السجن «واما ما ذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك: لا تأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنك أن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائينين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم، أؤتمنوا على كتاب الله جل وعلا فحرّفوه وبدّلوه، فعليهم لعنة الله ورسوله، ولعنة ملائكته، ولعنة آبائي الكرام البررة، ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة».

وفي أمالي الصدوق عن ابن ادريس، عن أبيه، عن الأشعري، عن محمد بن حسان الرازي، عن محمد بن علي، عن عيسى بن عبد الله العلوي العمري، عن آبائه، عن علي× قال: «قال رسول الله|: اللهمّ ارحم خلفائي ـ ثلاثا ـ قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يتبعون حديثي وسنتي ثم يعلّمونها أُمّتي».

وفي بصائر الدرجات اللصفار قال: حدثنا أحمد  بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن سعدان بن مسلم، عن معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله×: رجل راوية لحديثكم، يبثّ ذلكإلى الناس ويسدّده في قلوب شيعتكم، ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيّهما أفضل؟ قال: «الرواية لحديثنا يبثّ في الناس ويسدّده في قلوب شيعتنا أفضَل من ألف عابد».

وفي الخصال: عن ابن الوليد، عن الصفار، عن علي بن إسماعيل، عن عبد الله الدهقان، عن إبراهيم، بن موسى المروزي، عن أبي الحسن× قال: «قال رسول الله| من حفظ من أمتي أربعينحديثا مما يحتاجون إليه من أمر دينهم، بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً».

وفي هذا الباب أحاديث كثيرة جداً بلغت حد التواتر عند الخاصة والعامة. فإنّ مَن حفظ أربعين حديثاً أو أقل أو أكثر من ذلك، يعدّ فقيها عالما والمقصود من هذا:

أولاً: تلك الأحاديث الجامعة لأمهات العقائد والمعارف الإسلامية والعبادات القلبية والمحامد الحسنة والخصال الكريمة والفضائل والأخلاق...

ثانياً: المقصود بكونه يبعث فقيهاً، إنّما مع التدبر والمعرفة الكاملة والإحاطة الدقيقة بمضمون الحديث.

ثالثاً: العالم لا يكون عالماً إلّا بأن يخالف هواه، مطيعاً لأمر مولاه، واقفا على خبائث النفس وآفاتها، التارك للدنيا ولهوها وزينتها، الزاهد فيها، الطامع فيما عند الله من الثواب الجزيل والثناء الجميل... وإلّا ما أكثر الذين يعرفون ذلك ولكنهم للتطبيق هم أبعد ما بين السماء والأرض ( انظر ما قاله الأئمة سلام الله عليهم في صفة العالم):

1 ـ روى الكليني: عن محمد بن العطار عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم».

2 ـ الكليني: عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد بن عثمان، عن الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبد الله×، في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28) قال: «يعني بالعلماء من صدّق فعله قوله ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم». الكافي: 1/36.

3 ـ الكليني: عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان النيسابوري، جميعا عن صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن الرضا× قال: «إنّ من علامات الفقه ـ أو الفقيه ـ الحلم والصمت».

4 ـ الكليني: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط، عن الحلبي، عن أبي عبد الله× قال: «قال أمير المؤمنين×: ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمّنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليسي فيه تفهّم، الا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، الا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر..» الكافي 1/ 36.

هذه جملة في صفات العالم الذي يهدي الناس ويرشدهم إلى الحق، فعليك أن تتدبّر ولا تعليق.. على أن هناك أخباراً كثيرة في حق العالم وفضله ومنزله، فإذا عرفت حد العالم وشخّصته فذلك لأنّ منزلته عند الله كمنزلة أنبياء بني إسرائيل وأكثر..

5 ـ الكليني: عن محمد بن علي، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن عمر ابن اذينه، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين× يحدّث عن النبي| أنه قال في كلام له: «العلماء رجلان: رجل عالم أخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه، فهذا هالك وإنّ أهل النار ليتأذون من ربح العالم التارك لعلمه، وإنّ أشد أهل النار ندامة حسرة رجل دعى عبداً إلى الله فاستجاب له، وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه، واتباعه الهوى، وطول الأمل، أمّا أتباع الهوى فيصد عن الحق وطول الأمل ينسى الآخرة» الكافي للكليني: 1/ 44.

6 ـ عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن محمد القاساني، عمن ذكره، عن عبد الله بن القاسم الجعفري، عن أبي عبد الله× قال: «ان العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا» الكافي للكليني: 1/ 44.

فكم من مطلع وعارف لاخبار وأحاديث أهل البيت^، ومستنبط للأحكام والتقليد والدرس والتدريس، لكنك لو فتّشت لوجدته إلى الدنيا ميّال، وغلى بناء الذات قد شمر ساعديه، يقضم مال الله قضما، وينكر أهل العلم والفضل تطاولا وتعنّتا، فتلك منازلهم في الدنيا، وما شموخهم واعتزازهم إلّا بزينتها الفانية، وفي الآخرة هم أخزى، ﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾.

رابعاً: أما الحفظ: فقد صوَّره الفقهاء عدّة صور: فمنهم من قال: يراد به الحفظ عن ظهر قلب، وآخرون قالوا: حفظه بالكتابة خوفاً من الاندراس والضياع، طالما أنّ القلوب الواعية للأحاديث إذا أدركها الموت تضيع ولم تدركها الإجيال اللاحقة، أمّا الذي يحتفظ بالقرطاس ويدّون فهو أسلم من غيره من الضياع، وقسم ثالث قال: يراد بالحفظ أن يعي الحديث ويتدبّره، وهكذا؛ فمنهم من يحفظه لفظاً دون المعنى، وبعضهم يحفظه معنى دون اللفظ، وثاث يحفظه بالنص لفظا ومعنى، وإلى غير ذلك من الوجوه التي قيلت..

في الإختصاص عن جعفر بن الحسين المؤمن، عن الوليد، عن الصفار، عن ابن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن اسحاق بن عمار، عن أبي بصير، عن أحدهما× في قول الله عز وجل: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ قال: «هم المسلمون لآل محمد| إذا سمعوا الحديث ادّوه كما سمعوه، لا يزيدون ولا ينقصون».

وفي الكنز للكراجكي: قال رسول الله|: «نصر الله أمرءاً سمع منّا حديثاً فأدّاه كما سمع، فربّ مبلّغ أوعى من سامع».

وفي غوالي اللئالي: روي عن النبي| أنه قال: «رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فادّاها كما سمعها، فربّ حامل فقه ليس بفقيه».

وفي رواية أخرى: «فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه».

وفي نهج البلاغة، قال أمير المؤمنين× ـ فيما كتب إلى الحارث الهمداني.. «ولا تحدّث الناس بكل ما سمعت فكفى بذلك كذباً، ولا تردّ على الناس كلما حدّثوك به فكفى بذلك جهلاً...» .

وفي منية المريد عن أبي عبد الله× قال: «قال أمير المؤمنين: إذا حدثتم بحديث فاسندوه إلى الذي حدّثكم، فإن كان حقاً فلكم، وإن كان كذباً فعليه».

فضل تدوين الحديث وكتابته

لعظم خطر الكتابة وحاجة الناس إليها، ولكونها أحد الأساليب المهنمة لحفظ تراث أي أمّة من الأمم وحضارة من الحضارات على مرّ التاريخ؛ فقد اهتمّ الإسلام بالكتابة والتدوين، ولهذه الأهمية الكبيرة، جاء الذكر الحكيم ليقسم بها، فقال عز وجل ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾. وقوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.

أما أحاديث أهل البيت وأخبارهم في هذا المقام فهي مستفيضة، نذكر منها:

ـ عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله× فقال: «دخل عليّ أناس من أهل البصرة فسألوني عن أحاديث وكتبوها، فما يمنعكم من الكتاب؟ أما إنكم لن تحفظوا حتى تكتبوا».

ـ وعنه أيضاً قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «اكتبوا فانكم لا تحفظون حتى تكتبوا».

ـ وعنه أيضاً عن أبي عبد الله× قال: «القلب يتّكل على الكتابة ».

ـ عن الحسن بن علي× أنه دعا بنيه وبني أخيه فقال: «إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلّموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته».

ـ وعن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله×: «احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها».

ـ وروي عن النبي| انه قال: «ققيّدوا العلم، قيل: وما تقييده، قال: كتابته».

ـ وروي أنّ رجلاً من الأنصار كان يجلس  إلى النبي| فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكى ذلك إلى النبي | فقال له رسول الله|: «استعن بيمينك، وأومأ بيده» ، أي خط.

قال النجاشي في ترجمة يونس بن عبد الرحمن

ـ وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان في كتاب مصابيح النور، أخبرني الشيخ الصدوق أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمه الله قال: حدّثنا علي بن ال حسين بن بابويه قال: حدّثنا عبد الله بن جعفر الحميري قال: قال لنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري رحمه الله: عرضت على أبي محمد صاحب العسكر الإمام العسكري× ـ كتاب يوم وليلة ليونس، فقال لي «تصنيف من هذا؟ فقلت: تصنيف يونس مولى آل يقطين فقال: «أعطاه الله بكل حرف نورا يوم القيامة».

ـ والكليني، عدّة من اصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن بعض أصحابه، عن أبي سعيد الخيبري، عن الفضل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد الله×: «اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم».

وروى المجلسي: عن البصائر، عن عبد الله بن محمد، عمّن رواه، عن محمد بن خالد، عن حمزة بن عبد الله الجعفري، عنأبي الحسن قال:كتبت في ظهر القرطاس: إنّ الدنيا ممثّلة للإمام كفلقة الجوزة فدفعته إلى أبي الحسن× وقلت: جعلت فداك أنّ أصحابنا رووا حديثا ما أنكرته غير إني أحببت أن أسمعه منك، قال: فنظر فيه ثم طواه حتى ظننت أنه قد شقّ عليه ثمقال:«هو حقّ فحوّله في اديم».

في الجملة، يتعيّن أن كتابة العلم وتقييد الحديث بالكتابة والحفظ،من الأمور المحبّذة عند الشارع بل حثّ عليها وأوصى بها وشوّق الرواة والحفّاظ بالإستعانة في الحفظعلى الكتابة وكما مرّ عن أبي عبد الله× أنّه قال اكتبوا فانّكم لا تحفظون حتى تكتبوا، وعنه أيضاً قال: القلب يتّكل على الكتابة... الخ.

وقد اشتغل الأصحاب الأوائل زمن الأئمة^ في كتابة مجالس الأئمة الأطهار، وتدوين كل ما يسمعونه عنهم^، وقد نتج من خلال ذلك الإهتمام بقول المعصومين، أنْ دوّن أصحاب الأئمة الآف الكتب في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية، وقد فقد الكثير منها لتطاول الزمان،وللتقية، وللخوف والإضطهاد الذي كان يلاحق أصحاب أهل البيت، حتى أخذ حكام الجور والمتسلطين على رقاب المسلمين من حكام بني أمية وبني العباس أن يتتبعواالشيعة في كل مكان،وقد أُحرقت لهم الكتب الكثيرة، وضاع القسم الآخر،وما وصل إلينا منهم إلّا الشيء النزر القليل، وقد أطلق على تلك المصنّفات التي نقل منها علماؤنا الأوائل الأصول الأربعمائة، وإنّ جملة من تلكالأصول قد عرضت على الأئمة المعصومين^ فاقرّوها، وما كان مخالفاً لأقوالهم نبّهوا عليه وأنكروه.

لفظ «الشيعة» وظهورها

انها وردت في القرآنالكريم: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ﴾.

وقد كان استعمالها على عهد النبي| حيث هو أطلقها سلام الله عليه، فقال:

«يا علي أنت وشيعتك الناجون...».

وقد انتبه إلى  ذلك أبوحاتم السجستاني في كتابه (الزينة) ج1 و3 في باب الألفاظ  المتداولةبينأهل العلم فقال:

(أول إسم ظهر في الإسلام على عهد رسول الله| هو الشيعة، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة وهم: أبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الاسود الكندي، وعمّار بن ياسر، إلى أوان صفين، فانتشرت بين موالي علي×).

حكاه في (الروضيات)، وقد ذكر صاحب كشف الظنون كتاب الزينة لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني المتوفى سنة 250 هـ.

ومما يؤيّد السجستاني ما ذكره محمد بن إسحاق المعروف بابن النديم، في كتابه (الفهرست) في أوّل الفن الثاني من المقالة الخامسة، لمّا خالف طلحة والزبير على علي رضي الله عنه وأبيا إلّا الطلب بدم عثمان، وقصدهما× ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جل اسمه تسمّى علي ومن اتّبعه على ذلك الشيعة فكان يقول: شيعتي...

أما لفظة السّنة والجماعة، فهي تسمية متأخرة، وذلك كانت عندما استغلّ معاوية ابن أبي سفيان الأمارة بعد مصالحة الحسن المجتبى بن أمير المؤمنين×.

الشيعةن وتدوين الحديث 

كان الإهتمام بتدوين الحديث ديدن بعض الصحابة منذ زمن الرسول|، وقد فصّلنا ذلك في كتابنا علم الرجال. لكن مما ينبغي الغشارة إليه هنا: إنّ الإمام علي× كان في طليعة أولئك الصحابة، حيث أنه وعى وحفظ كل ما قاله الرسول| له، وإن علم رسول الله| لا تجده مجتمعا إلّا عند الإمام أمير المؤمنين علي×، حتى قال عنه الرسول| «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتي الباب». والحديث رواه جمع غفير من علماء الجمهور.

ثم إنّ الإمام علياً كان أوّل من صنّف في أحاديث الرسول| قال الشيخ النجاشي في ترجمة محمد بن عذافر.

أخبرنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد، عن محمد بن أحمد ابن الحسين، عن عباد بن ثابت، عن عبد الغفار بن القسم، عن عذافر الصيرفي قال: كنت مع الحكم بن عيينه عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر÷، فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرها، فاختلفا في شيء فقال أبو جعفر: «يا بني قم فأخرج كتاب علي»، فاخرج كتاباً مدرجاً عظيماً ففتحه وجعل ينظر حتى أخرج المسألة، فقال أبوجعفر: «هذا خط علي وإملاء رسول الله|»، وأقبل على الحكم وقال: «يا  أبا محمد  إذهب أنت وسلمة والمقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل الحديث...» .

وللإمام علي× كتاب آخر في الدّيات سماه (الصحيفة) كان يعلقه× بقراب سيفه، وكانت لهذه الصحيفة نسخة منها عند محمد بن الحسن الصفار صاحب كتاب (بصائر الدرجات) وهو من معاصري البخاري صاحب الصحيح، وقد روى البخاري في صحيحه عن هذه الصحيفة في باب كتابة العلم 1/ 40 وفي باب اثم من تبرّأ من مواليه 4/ 289.

وليس غريباً أن يتفوق الإمام علي أمير المؤمنين× على أقرانه في حفظه لأحاديث الرسول، وأن يعيها، ثم يكتبها خوفاً من ضياعها وتلاعب أيدي المغرضين والطامعين بها، وقد أسلفنا أنّ أمير المؤمنين لازم الرسول طيلة حياته، في حضره وفي سفره، بينما بقية الصحابة فمنهم من أثر الجهاد ومنهم من آثر الحياة والمنصب ومنهم من آثر الحياة والمنصب ومنهم من آثر الحياة والدعة والآثرة والصفق في الأسواق وهذه كتب القوم تشهد بذلك، حيث رووا عن عمر قال: خفي عَليٌ هذا من رسول الله| الهاني عنه ألصفق في الأسواق.

صحيح مسلم 2/ 234 في كتاب الآداب. صحيح البخاري 3/ 837 ط هند.

مسند أحمد 3/ 19.

سنن الرازي 2/ 274.

سنن أبي داود 2/ 340.

مشكل الآثار 1/ 499.

وقال أبيّ لعمر بن الخطاب: انه يلهيني القرآن، ويهليك الصفق في الأسواق.

وفي قول آخر: أقرأنيه رسول الله| وإنك لتبيع القرظ بالبقيع وأنت تبيع الخيط.

وممن جدّ في كتابة الحديث، فاطمة الزهراء سلام الله عليها وكتابها يسمى (مصحف طه)، وبعد أمير المؤمنين جاء أبو رافع مولى رسول الله| وصنف في الأحكام والسنن. قال عنه النجاشي في ذكر الطبعة الأولى من مصنفي الشيعة:

أبو رافع مولى رسول الله|، وإسمه أسلم، كان للعبّاس بن عبد المطلب رحمه الله، فوهبه للنبي، فلما بشّر النبي| باسلام العباس اعتقه. أسلم أبو رافع قديماً في مكة وهاجر إلى المدينة وشهد مع النبي مشاهده، ولزم أمير المؤمنين من بعده كان من خيار الشيعة وشهد معه حروبه، وكان صاحب بيت ماله بالكوفة، وابناه عبيد الله وعلي كاتبا أمير المؤمنين×...

ثم قال: ولأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا، ثم ذكر اسناده إليه باباً باباً؛ الصلاة والصيام والحج والزكاة والقضايا... .

وبعد أب يرافع ـ ومن المصنفين الأوائل ـ أبو عبد الله سلمان الفارسي المحمدي، كما سمّاه رسول الله|، وهو من أكابر الصحابة والمقربين إلى الرسول وإلى وصيه من بعده أمير المؤمنين علي×، صنف سلمان الفارسي كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم إلى النبي. وذكر الكتاب شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في فهرسته.

وكذلك ذكره ابن شهرآشوب المازندراني في معالم العلماء.

ومن الصحابة الذين صنّفوا في الحديث:

ـ أبو  ذر الغفاري صاحب رسول الله|، والذي قال فيه: «ما اظلّت الخضراء ولا أقلت الغبراء على رجل أصدق لهجة من أبي ذر».

له كتاب (الخطبة) يشرح فيه الأمور التي جرت بعد النبي|، ذكره الشيخ الطوسي في (الفهرست) والمازندراني في (معالم العلماء) .

ـ الأصبغ بن نباتة المجاشعي الكوفي، وهو من خواص أصحاب أمير المؤمنين×، روى عن الإمام أمير المؤمنين (عهد الأشتر)، وهو كتاب معروف عند أهل السيرة والتاريخ والحديث، وكذا روى عنه× وصيته غلى ابنه محمد بن الحنفية، والشيخ النجاشي يذكر طريقه إلى روايتهما.

ـ عبيد الله بن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين×، ومن خواصه، شهد مع الأمير حروبه، الجمل وصفين والنهروان، له كتاب (قضايا امير المؤمنين)، وكتاب (تسمية من شهد مع أمير المؤمنين الجمل وصفين والنهروان من الصحابة) .

ـ علي بن أبي رافع وهو أيضاً كاتب أمير المؤمنين، والخازن على بيت ماله ومن خواصه، قال فيه النجاشي:

تابعي من خيار الشيعة، كانت له صحبة مع أمير المؤمنين، وكان كاتباً له، وحفظ كثيراً، وجمع كتابا في فنون الفقه، الوضوء والصلاة وسائر الأبواب... .

ـ ربيعة بن سميع، له كتاب في زكاة النعم، يرويه عن أمير المؤمنين علي×، ويعد من الطبقة الأولى، ومن كبار التابعين، كان من أصحاب الإمام أمير المؤمنين× كما ذكره النجاشي.

ـ ميثم التمار بن يحيى أبو صالح من حواري أميرالمؤمنين× ولسان التشيّع في زمن معاوية ومن بعده، له كتاب في الحديث ويبدو أنه كبير، حيث ينقل منه الشيخ الطوسي في أماليه، وصاحب كتاب (بشارة المصطفى) ينقل عنه، وكذلك أبو عمرو الكشّي في كتابه (الرجال) . قتله عبيد الله بن زياد في الكوفة وقصّته معروفة.

ـ سليم بن قيس من حواري أمير المؤمنين له كتاب معروف ومشهور ويعدّ أصل من الأصول الأربعمائة، قال فيه النعماني؛ محمد بن إبراهيم في كتابه الغيبة:

وليس بين جميع الشيعة؛ ممن حمل العلم ورواه عن الأئمة، خلافاً في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أحد كتب الأصول التي رواها أهل العلم، وحملة حديث أهل البيت^ بل وأقدمها. مات (رض): زمن الحجاج بن يوسف الثقفي.

ـ وهكذا فإنّ الذين الّفوا في الحديث وصنّفوا فيه من الشيعة زمن الرسول والإمام علي والخلفاء الذين قبله هم كثيرون أمثال ربيعة بن سميع، ومحمد بن قيس البجلي التابعي، ويعلى بن مرّة، وجابر بن يزيد الجعفي، والإمام علي بن الحسين بن علي زين العابدين، وزيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين، وأبو الجارود، وزياد بن المنذر، وهؤلاء جميعاً من علماء ومشاهير التابعين، وكذلك زرارة بن أعين توفي 150، وأبو عبيدة الحذّاء؛ من أصحاب الإمام الباقر×، ومعاوية بن عمار توفي 175.

وبعد هؤلاء تأتي طبقة أخرى، والتي تتلمذت على الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق×، وهم فوق حد الاحصاء، ألا أنّ الشيخ المفيد في كتابه (الإرشاد) عند ذكره لحياة الإمام الصادق× قال: ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان انتشر ذكره في البلاد ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخيار ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله× فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقاة على إختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة الآف رجل.

وقال العلّامة الطبرسي في اعلام الورى:

قد تضافر النقل بأنّ الذين رووا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق× من مشهوري أهل العلم أربعة الآف إنسان، وصنّف عنه أربعمائة كتاب معروفة عند الشيعة تسمّى (الأصول)، رواها أصحابه وأصحاب ابنه موسى×، وهذا العدد الذي ذكروه [4000] هم أشهر الرواة للإمام الصادق× وإلّا فإنّ الكثير منهم كان يلبس رداء التقية ويتنكّر بين أقرانه بل والكثير ممن لم يدّون لهم إسم كانوا من أقطار أخرى نائية.

وقال الشهيد محمد بن مكي العاملي في كتابه (الذكرى) ص6: وكتب من أجوبة مسائل أبي عبد الله الصادق صلوات الله عليه أربعة الآف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام، وكذلك عن مولانا الباقر× قال والرجال الباقون مشهورون أولو مصنفات مشهورة.

وقد أدرك الحسن بن علي الوشاء في عصر واحد تسعمائة رجل منهم في مسجد الكوفة كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد:

وقال نجم الدين المحقق في المعتبر: ما يشبه ذلك ص5.

وقد ذكر شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في رجاله 3197 رجلا من أصحاب الإمام الصادق، وهم من أبرز اصحابه وأكابر علماء عصره وممن صنّف منهم في مختلف العلوم، ومن أصحاب الإجازة ويعدّون من مشايخ الأصحاب.

هؤلاء جميعاً الّفوا في علم الحديث، ومن أراد التفصيل في ما ذكرناه فعليه مراجعة كتب الفهارس، والرجال، والتراجم، والاعلام، يجد ذكرهم هناك.

هذا ما يخص الصدر الأول حتى أواخر القرن الثاني الهجري تقريباً، والذي يمكن أن نعدّ منهم ثلاث طبقات لرجال الحديث.

أقول هذا الذي ذكرناه ممّا يؤكد أنّ تدوين الحديث بدأ منذ صدر الإسلام واستمر إلى يومنا هذا، فمن الواضح أن ما تقدم ذكره خير دليل في الرد على العلّامة السيوطي الذي زعم أن تدوين الحديث بدأ في رأس المائة، قال في كتابه تدريب الراوي:

(وأما إبتداء تدوين الحديث فإنه وقع في رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره، ففي صحيح البخاري في أبواب العلم، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أب يبكر ابن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله| فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء)، وأخرجه أبو نعيم في تاريخ اصفهان بلفظ آخر قال: (كتب عمر بن عبد العزيز إلى الافاق انظروا حديث رسول الله فاجمعوه)، قال في فتح الباري يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي، ثم أفاد أنّ أول من دوّنه بأمر عمر بن عبد العزيز ابن اهاب.

قال العلّامة السيد حسن الصدر:

كانت خلافة عمر بن عبد العزيز سنتين وخمسة أشهر مبدئها عاشر صفر سنة ثمان أو تسع وتسعين ومات سنة إحدى ومائة لخمس أو لست مضين، وقيل لعشر بقين من رجب، ولم يؤرّخ زمان أمره ولا نقل ناقل امتثال أمره بتدوين الحديث في زمانه، والذي ذكره الحافظ ابن حجر من باب الحدس والاعتبار، لا عن نقل العمل بأمره بالعيان، ولو كان له عند أهل العلم بالحديث أثر بالعيان لما نصّوا على أنّ الإفراد لحديث رسول الله| كان على رأس المائتين كما اعترف به شيخ الإسلام أو غيره قال: فأوّل من جمع الآثار ابن جريح بمكة، وابن اسحاق أو مالك بالمدينة، والربيع بن صبيح، وسعيد ابن أبي عروبة، أو حمّاد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، وهيثم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن عبد الحميد بالري، وابن المبارك بخراسان، قال العراقي وابن حجر: وكان هؤلاء في عصر واحد فلا ندري أيّهم سبق.

قال: إلى أن رأى بعض الأئمة أن تُفرد أحاديث النبي| خاصة وذلك في رأس المائتين وعدّد جماعة، وقال الطيّبي: أول من كتبه وصنّف فيه من السلف ابن جريح وقيل: مالك وقيل الربيع بن صبيح، ثم انتشر التدوين وظهرت فوائده. ثم قال: ألا تراه لم يذكر تدوين أحد قبل ابن جريح، وكذلك الحافظ الذهبي في تذكرة الحفّاظ نصّ أن أوّل زمن التصنيف وتدوين السنن وتأليف الفروع بعد انقراض دولة بني أمية وتحول الدولة إلى بني العباس، قال ثم كثر ذلك في أيام الرشيد، وكثرت التصانيف وأخذ حفظ العلماء ينقص، فلما دوّنت الكتب اتّكل عليها، وإنّما كان قبل ذلك علم اصحابة والتابعين في الصدور...) .

إلى هنا عرفنا متى بدأ تدوين الحديث ومن الذي الّف فيه من الصحابة والتابعين، بضمنها الأصول الأربعمائة، غير أنّ أغلب تلك المصنّفات لم تصل إلينا بسبب يد الحدثان وجور الزمان وتعسف الولاة والحكام في إضطهاد الشيعة الموالين لأهل البيت^ ومع كل ذلك فقد وصلنا جملة مهمة من تراث الأوائل بحيث عليها مدار الإستدلال، ومنها تستنبط الأحكام وقد شغلت أرباب الفقه والحديث والسيرة والأخلاق وعلى سبيل المثال نذكر منها:

كتاب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي ت 280 أحد كبار الشيعة ومن أصحاب الإمام الجواد والهادي×.

وكتاب كامل الزيارات لأبي القاسم جعفر بن قولويه توفي 368 ويعدّ هذا الكتاب من الأصول المعتبرة وقد اعتمد عليه كل من الصدوق والشيخ الطوسي وهكذا من جاء بعدهم. وكتاب تفسير علي بن إبراهيم القمي وهو أيضاً من الكتب المعتبرة.

وكتاب بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن فروخ الصفار القمّي من أصحاب الإمام العسكري× ومن مشاهير الشيعة آنذاك.

وكتاب قرب الاسناد لأبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري من أصحاب الإمام العسكري×. والاشعثيات لأبي علي محمد بن محمد الأشعث الكوفي من أعلام القرن الرابع الهجري.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.