akdak

المقالات

قسم القرآن الكريم

رؤى حول سورة الكوثر

684

لطفي عبد الصمد ـ الأردن

لطفي عبد الصمد ـ الأردن

   دكتوراه في الفلسفة

 

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3).

نعيش معاً ربيع القلوب، ونتكأ على أرائك المعاني القرآنية، ونجس على مائدته لنتعذى من رحيقه، ونسترشف عذبه في أقصر سوره الكريمة، أنّها كوثر الروح ودستور مبين، مبوبين ما توصلت الرؤى القاصرة، وملاعبين بعض حصى مداليلها الواقعة على جرف بحرها الوسيع العميق.

 

فضل قراءتها

 

ورد عن الإمام الصادق× قال: «من كانت قراءته ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ في فرائضه ونوافله، سقاه الله من الكوثر يوم القيامة، وكان محدّثه عند رسول الله| في أصل طوبى» (1).

وعند التأمّل: فإن التفكير في معاني الصلاة ـ عموماً ـ يضاعف الأجر فيها، وكل ركعة تعادل أكثر من ستّين ركعة من غير تدبّر.

وفي قراءة سورة الكوثر بوعي تام، وبمعرفة لمشقّة الرسول| في إبلاغ الرسالة وتحمّل الأعباء، وكذلك المؤدي الصلاة المطيع للرسول فيما أمر ونهى؛ عندئذ يسقى من الكوثر...

 

خواص السورة

 

من خواصها لأهل الدين واليقين، ما جاء عن الإمام جعفر الصادق×: «من قرأ سورة الكوثر بعد صلاة يصلّيها نصف الليل، ومن ليلة الجمعة ألف مرّة رأى في منامه النبي|» (2).

ومن خواصّها ـ أيضاً ـ لأهل الخواص: يختلف وردها في العدد والوقت حسب الغرض، لمختلف المراتب، وخاصتها لأهل العرفان بحسب الأحوال والمقامات.

 

أسرارها

 

فيها سرّ عظيم، بل أسرار لأصحاب الدعوات والخلوات، ولأهل الأعمال والرياضة الروحية، وفيها من اللطائف والرشائف، وعوالم من المعارف والبركات والخفايات والمجابات.

 

ترتبها

 

حسب نزولها هي: السورة الخامسة عشر، أو الرابعة عشر.

وبالترتيب المصحفي هي: الثامنة بعد المائة، في الجزء الثلاثين منه. ثلاث آيات ـ غير البسملة ـ، نزلت في مكّة المكرّمة، قبل الهجرة، وآياتها محكمة غير متشابهة ولا منسوخة ولا ناسخة.

 

المفردات اللغوية

 

﴿إنّا﴾.

ضمير المتكلم مع الغير، وهو للجمع ـ من ثلاثة فأكثر ـ 

وأنّ الله أحد لا شببيه له، فجاء بصيغة الجمع للعظمة والتجليل، وإشارة إلى عظمة المعُطى له والعطية.

وهناك معنى آخر دقيق جدّاً، ويحتاج إلى مقدّمة مسهبة لدرك المطلب، تركناه للإختصار.

﴿أعطيناك﴾.

العطية: مبالغة في العطاء وسابقاً كان يطلق على التوزيع على جند الدولة (الجيش)، وهو مأخوذ من المعنى القرآني، وهو خلاف الرزق الذي كان يوزّع من بيت المال على الفقراء و...

وهنا جاءت بلفظة الجمع (أعطينا) دلالة للعظمة ـ أيضاً ـ وتأكيداً لها. وكذلك لعظمة المعطى إليه، (عظيم أعطى عظيماً).

وترادف كلمة (أعطينا)، وهبنا، أتينا، أنفقنا، وهن وإن شابهن العطاء، إلّا أن كل كلمة تعطى معنا يختلف عن الاُخرى ولو جزئي . إذ كل الكلمات المترادفات في اللغة تفيد معنى خاصاً رغم تقاربها.

فالهبة: (إنّا وهبنا لك)، تعطي معنى التمليك المطلق، والعطية تفيد الإتصال بالمعطى له، أو ليرده مرّة اُخرى، أو ليعطيه لغيره، ثم غلب على العطية التمليك أيضاً.

وما ورد في الأولاد فهو:

أ ـ من باب المجاز، إذ يطلق على الولد هبة من الله، لأنّ الله وهّاب ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾.

ب ـ باعتبار أن الموهوب يشترط التربية الصالحة ويضمن مراعاة الإيمان ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ ﴿َفَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً﴾، وحيث يجعل الهداية والصلاح من الله، فلم يصرّح بالتربية الطيبة من عنده.

وأمّا ما ورد في الحكم ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً﴾ وفي السلطان ﴿ وَهَبْ لِي مُلْكاً ﴾ فهي ناظرة إلى التصرّف في السلطان والعدل والحكم بالقسط الكامل وإلّا فالهبة التمليكية الحقيقية هي: مثل الرحمة الربّانية التي تنفعه، وكملك واقعي يستثمره ﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾.

الايتاءك (إنّا آتيناك) لا يفيد التملّك، وحصول الأخذ بخلاف العطية، وأغلب ما تستعمل بمعنى (جاء) ﴿حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ وتأتي بمعنى أعطى ـ أيضاً ـ ﴿وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾.

الإنفاق: (إنّا أنفقنا عليك) وهو اخراج شيئاً من الممتلكات، ونقصها ـ ولو جزئياً غير محسوس ـ بقدر النفقة، والله يعطي من غير نفاذ، إذ لا ينقص من ملكه شيء. ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾.

وما جاء في القرآن الكريم ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ بمعنى يرزق عباده علىقدر فائدتهم ولمصلحتهم، وبالمعنى الدقيق والفلسفي: أنّه تعالى يعطي لينفق العباد، فعبر بالإنفاق منه إشارة إلى عباده لينفقوا ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ﴾، ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾.

وكذا ليجعل منهم عيالاً له، وليرتاح العبد بهذه النغمة من المربي (الرب)، بأن له صاحب وراعي وهو الله الذي ينفق عليه، (كما في ربّ العائلة حين ينفق على عياله).

أمّا (أعطيناك ) ـ هنا ـ ففيها عدّة لطائف منها:

أ ـ أنّ الله بيده مقاليد الأمور وأنّه يعطي ما يشاء ولمن يشاء، من دون إشعار بالمنّة. كما لو كانت للمستقبل (سنعطيك). وأمّا في ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾. قد جاءت بعد ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى﴾، أي سيبالغ في العطاء الغير معلوم ولا محدود شريطة رضاه الكامل وزيادة.

ب ـ لم تذكر الآية إسم الرسول ولا صفته، كأن إنّا أعطيناك يا رسول الله أويا أيها النبي، أو إنّا أعطينا الرسول وما شابه. بل ذكر العطية (الكوثر) ولم يذكر المعُطى إليه، دلالة على كرامة المُعطى إليه (الرسول الكريم).

ج ـ دلالة ـ أيضاً ـ إلى إستحقاقه الذاتي، وليس الوصفي (كصاحب رسالة)، بل ملتصق به، وخارج منه|.

د ـ في العطية احتمال ردّها إلى المعطي، أمّا لفترة أو بحسب طلبه إيّاها، وذلك ما حدث للنبي| حين ردّ العطية في الحسين× أو في نحر الشيعة ـ كما سيأتي ـ .

هـ العطية تعطي مفهوماً للمُعطى له بأعطائها ـ كلّا أو بعضاً ـ لغيره كما في أعطاءه| من حوض الكوثر وغيره.

و ـ جاءت بالماضي، وهي غاية في الإعجاز، وهذا ما يدلّل على كذب ادّعاء وإفتراء الأعداء، وإنّ أعطاء الكثرة الكثيرة حاصل لك من ذي قبل. أمّا بدايةً كما في فاطمة ثم يتمّ التكاثر، وأمّا تدريجاً كما في إنتشار الإسلام بواسطة فاطمة (الذرية)، وأمّا نهاية كما في الشفاعة عن طريق فاطمة.

 

القراءة

 

قرأ طلحة بن مصرف والحسن (أنطيناك) بالنون، وهي لغة في العطاء، وقرأ باقي الفرّاء ـ على الإطلاق ـ (أعطيناك) بالعين.

﴿الكوثر﴾: مبالغة في الكثرة (كثر: بزيادة الواو، على وزن فوعل)، وهي إشارة إلى الخير المطلق، غير محدود وما لا نهاية لحدّه، والبركة العظيمة، ولو أردف بالعطاء أفاد إلى عطاء الأحسن والأجود والأجمل والأكمل، ولو حصل من الله جلّت أسمائه فماذا سيكون الوصف إذن؟

والكوثر: الازدياد معنوياً (محسوساً) ومادياً (ملموساً) وهي تستعمل للكم والكيف على سواء منفصلة عن حالة الاعداد، وتأتي ـ أيضاً ـ للعدد والقَدَر.

والكوثر الشيء الذي من شأنه الذاتي والتلقائي الكثرة والتنامي، والكثرة لها اشتقاقات كثيرة منها:

الكثيراء: الخير المعطاء، ومنه الشجر (كثيراء) له منافع كثيرة وخواص جمّة.

الأكثر: صيغة تفضيل.

الكثار: الجماعات أو المجموعات.

المكثور: الإجتماع الفائق على شيء.

كثر: زاد على شيء فجعله كثيراً.

إكثار: زاد على الكثير فأكثر.

تكوثر: تراكم كثيراً.

تكاثر: المكاثرة والمباهات والتفاخر.

كاثر: الزائد على مثيله.

وغيرها من المشتقّات، وأغلبها مذكورة في كتاب الله على سياق مطلب الآية، بنحو 167 مرّة.

والآية ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ فيها مفهوم:

عظمة المعطي سبحانه، وعظمة المعطى إليه|، وعظمة العطية‘. ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾.

صلِّ: الصلاة أصلها اللغوي الدعاء. وكذا التقرّب.

وتأتي بمعنى الوصول بالرابطة والإيصال بالعلاقة الخاصة. ثمّ إصطلح في الإسلام على هذه الكيفية من قيام وركوع وسجود و...

والصلاة: إحدى أساليب السلوك العرفاني، ومفردة من الطريق المستقيم إذا إشتملت على صلاة القلب والعقل مع صلاة الجوارح واللسان، فتكون عبادة يتقرّب بها العبد إلى ربّه بأفضل وأشرف وأعظم وسيلة.

ربِّك:

الربّ: الذي ربى بالتربية وديمومتها الأبدي، واستمرار الارشادات والتوجيهات والشؤون الصالحة للحال والمستقبل، وتأتي بمعنى السيّد المتصرّف بملكه.

وكاف المخاطبة لاشعار النسبة، وليأنس العبد بالإنتساب إلى الخالق الذي ربّاه، وباشر بتربيته.

النحر: يطلق لذبح الإبل عادةً، وهي طعن الرقبة حيث يبدأ الحلقوم من اعلا الصدر. ومجازاً نحر أوّل الشهر أو آخره، ونحر الدار ـ أي قابله ـ وفي العلم الغزير في قولك نحر العلم نحراً (النحرير) أي المتقن الفطن والحاذق الماهر.

ويأتي بمعنى قطع العلائق الجسمانية (الفسيلوجية) في الاستقبال ورفع العلائق النفسانية (السيكلوجية) في التوجه.

شانيء: ولها خمسة عشر مصدر فعلي، وبعدّة معان مستلّة من البغض، والكره، والعداء، والغيظ.

البتر: القطع، المنقطع، القاطع، الإنقطاع، وغيرها حسب صيغتها الفعلية، وبحسب مجيئها في الكلام. وأيضاً بمعنى الخاسر، القصر.

وتأتي تسمية للشيطان ـ كذلك ـ أي لا يراه أحد ويفرّ بسرعة بعد الاغواء فهو أبتر الذنب.

ـ وهنا ـ تشمل قطع الخير والذكر والنسل.

كما وجاءت على نحو التأكيد الواقعي والفعلي، والحصر. والجزم للماضي أو للحال في أبترية العدو، وليس للمستقبل ـ القريب منه أو البعيد ـ وتأتي للمستقبل بعد تحقّق الزمنين (الماضي والحالي) ـ كما في هذه الآية ـ .

 

التفسير

 

نحن ـ البشر ـ غير قادرين على معرفة غرض وسرّ وهدف الآيات القرآنية إلّا إجمالاً، فالذي نعرفه من القرآن الكريم أنّه هداية ونور وتشريع وأحكام ودستور وما شابه وما عدا هذه الكليات والإجمال لا يصل عقلنا إلى الغاية الأساسية من القرآن الكريم.

والمفسّرون إنّما يأتون بأقوالهم استناداً على بعض الروايات التي توصّلوا إليها، أو وصلت إليهم. وهذه الأخبار والأحاديث تختلف في إعطاء المعنى (تفسيراً أو تأويلاً) وذلك:

أ ـ بحسب تحمّل وعاء وذهنية السائل أو السامع.

ب ـ الآيات تحمل عدّة معان وبطون.

ج ـ تأتي بسياق الحديث كشاهد أو تبيان.

لذا فلا يمكن للإنسان ـ مهما بلغ من العلم والتوصل ـ أن يقول هذا تفسير أو تأويل، إلّا من باب المجاز، أو التمييز عن غيره من العلوم. وإلّا فلا يدرك العقل البشري ـ فرداً أو جمعاً ـ كلام الخالق البارئ.

نعم يمكن أن يكون من باب الرؤى الفكرية المستندة على العقل السليم ـ وعلى نحو الإحتمال لا الجزم ـ ويستنبطها من روايات صحيحة المتن والسند. ثم يقسّمها على مطلبه (تفسير علمي، تفسير فلسفي، تفسير روائي، تاريخي، قصصي، فكري، أدبي، إجتماعي، عسكري، ... إلى آخره).

أمّا التفسير بالرأي فهو ممنوع عقلاً ومحرّم شرعاً، لكن الاشمام الفكري جائز شريطة عدم الجزم بأنه قصدّ قرآني، وعدم تعارضه لمبادئ القرآن الواضحة، ويخالف الشريعة الصحيحة؛ وما عداه فالإسلام أعطى حرية الفكر بسلامة العقل، والإستفادة من الآيات المحكمات للحياة العملية والسير والسلوك.

ومن هذا المنطلق سيكون حديثنا.

 

الهدفية

 

يحتمل الغرض من سورة الكوثر إجمالاً:

البشرى لأمّة محمد| ونبيّها، بكثرة الخيرات والنعم، وأنها المرحوحة من بين الأُمم، أو الحصول بكثرة النسل للرسول| ونشر دينه على الدنيا وبسطه في ا لنفوس.

وإلزام الإنسان بالشكر المتواصل، والتقرّب بالقرابين. ووعيد الأعداء والتنديد بقطع دابرهم مهما سعوا.

 

الرؤى الإجمالية

 

المعنى لمجمل السورة جمعناه من أقوال المفسّرين، ومستلّ من كتبهم بشكل عام:

﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ يا رسول الله  ﴿الْكَوْثَرَ﴾ الشيء الكثير ـ الكثير من كل خير ـ النعم الجمّة، كثرة الفضائل.

فضّلناك على العالمين، فضلناك على الأنبياء والرسل، فأنت سيّدهم، جعلنا رسالتك أفضل الرسالات القرآن باقٍ إلى  آخر الدنيا نعمة التحدّي ونعمة البقاء ونعمة المحافظة فلا يتغيّر، ولا يحرّفه المتلاعبون الذين يكتبون بأيديهم ولا يبدّلونه ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ كما تغيّرت وحُرّفت كتب الرسل من قبلك.

منك النسل الكثير والذرّية عوضاً عن أولادك الثلاثة الذين ماتوا وهم صغار.

الكوثر: نهر لك خاص في الجنّة يسمّى الكوثر مميّز على باقي أنهار الجنّة، حوض ماء عذب في يوم القيامة يوم الفزع الأكبر يوم العطش والجوع لعامة البشرية وهو بين يديك يا رسول الله تسقي بيد علي بن أبي طالب الظمأى لمن أحببت ولم شئت، وهو من أعظم النعم ومظهر الكرم حيث يشح عن الآخرين ويعطش وأنت تهب لمن تشاء ماءاً حلواً من حوضك (الكوثر)، تروي الموالين كي لا يظمأ بعدها أبداً ويبرد فؤادهم وينطفي عنهم لهيب الحرّ القائض الشديد ويسكن روعهم من الهول الأعظم ويُزال منهم الذهول الذي يُصيب كل شخص.

في أُمّتك خير العلماء أعطيناك الحكمة أنت السيد (الكونين)، السخي، صاحب يد كثيرة الخير، وغيرها من معان الكوثر.

 

وصف حوض الكوثر

 

رغم أن الماء العادي وسقيه يتمنّاه الإنسان في ذلك الوقت الحرج حيث العطش والجزع والفزع، لكن مع ذلك كرم الله لنبيّه يظهره بوصف الحوض:

عن الرسول| قال: «... إنّ الله أكرمني به دون الأنبياء، وأنّه ما بين أبلة إلى صنعاء يسيل فيه خليجان من الماء، ماؤهما أبيض من اللبن وأحلى من العسل، بطحاؤهما مسك أذفر، حصبآؤهما الدرّ والياقوت، شرط مشروط من ربي لا يردهما إلّا الصحيحة نيّاتهم. التقيّة قلوبهم، الذين يعملون ما عليهم في يسر ولا يأخذون مالهم في عسر المسلّمون للوصي من بعدي يذود من ليس من شيعته...» (3).

وهناك أوصاف اُخر.

وفي وصف نهر الكوثر في الجنة: «الكوثر: نهر في الجنة عليه آنية عدد نجوم السماء لأهل الأرض» (4).

«الكوثر: نهر في الجنّة حافتاه من ذهب وفضّة يجري على الدرّ والياقوت ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل وتربته أطيب من ريح المسك» (5)... وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ (6)، وغيرها من الأوصاف.

 

مع المفسّرين

 

ديباجة:

في القرآ ن الكريم آيات كثيرة تنزل لوحدها حب الحدث أو الحكم أو غير ذلك. ثم جمعت على هيئة سورة، فلربّما تجد في سورة واحدة آية أو آيات مدنية النزول تسبق آية أو آيات مكية السابقة النزول، كما في السور الطوال.

وهناك سورة تنزل كاملة، بمقتضى الوضع أو الوقع كما في بعض متوسط وقصار السور.

ومن تلك السور القصار ـ بل أقصر سورة في القرآن ـ (سورة الكوثر) والتي نزلت دفعة واحدة ولموضوع واحد.

ففي مثلها يكون تناسق في آياتها لمحتوى واحد، نتشكّل من عدّة مواضيع مرتبطة بفحوى واحد، أو لها إرتباط بالحدث الواحد.

فالقرآن ينزل لسبب معيّن: لكن يبقى ساري المفعول إلى آخر يوم من الدنيا، كقانون ثابت ودستور تسير عليه البشرية.

 

المطلب

 

وممّا يظهر من سياق الآيات الثلاثة في ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، لم يقابل الله تعالى رسوله بما بتر شانئه، في الحوض مثلاً فهل كان لشانئ الرسول حوض ثم هدم، أو له رسالة لكنها انتهت أو سوف تضمحل، وما شابه ذلك، لربّما نجد للشانئ (ابن وائل) شأن اجتماعي لطبقته وبني الشرك من نحلته في قريش أوكان ذو مال كثير لنظائره، لكن مقتضى الوضع ومجرى الحديث، وإكمالاً للمعنى أن يكون (الكوثر) بمعنى النسل الكثير ليقابل الأبتر في النسل لشانئه ـ كما سيتضح بعد قليل ـ وعندئذٍ يكون المعنى إنّا أعطيناك فاطمة (الكوثر) والتي منها الأئمّة الأطهار ـ ولدِها ـ ومنهم نسل الرسول الكثير، وبهذا يحصل التوافق في السياق والترابط بالمعنى.

وأن جميع معاني الكوثر التي سردها المفسّرون وغير ما ذكروه هو حاصل للرسول سواء قبل نزول هذه السورة أو بعدها وسواء في الحياة الدنيا أو في يوم القيامة أو في الجنة، والذي ذكره المفسّرون قليل من حق الرسول العظيم، وهنا لم أذكر جميع الأقوال ـ أيضاً ـ .

لكنّا في هذه السورة (الكوثر) في معرض التقابل مع الشانئ ومفهوم العملية التي بتر العدو منها.

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ نبدأ باقوال المفسّرين ـ إجمالاً ـ في جملة معاني هذه الآية الشريفة.

صلِّ لله كاملة، صل صلاة الشكر وتوجه، صل صلاة العيد وانحر الابل كأضحية العيد، صل صوب وإتجاه القبلة، ضع يديك محاذاة الرقبة (النحر) ... وغيرها من الأقوال لربّما نذكر بعضها ـ أثناءاً ـ 

 

مع المفسّرين

 

1 ـ الأقوال التي تعطي حدّاً خاصّاً بالصلاة والنحر لا تتوافق ـ من قريب أوبعيد ـ مع سياق الآية التي قبلها ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ولا مع بعدها ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، ولا تعطى مفهوماً منسجماً ومعنى متكاملاً، لا في تحدّي المشركين، ولا في إقتداء المؤمنين. باعتبار السورة نازلة لحدث واحد ولموضوع واحد. وإنّ أفادة الشكر على العملية لكنها غير مترابطة ولا محورية.

2 ـ إنّ النبي| معصوم قبل البعثة وبعدها، وكان يصلّي قبل البعثة ـ كما شوهد ذلك ـ (في غار حراء وغيره)، وكان يصلّي بعد البعثة مباشرة، ويأمر بالصلاة (كما في صلاة علي وجعفر خلفه|). وبما أن سورة الكوثر نزلت بعد البعثة بفترة. على أنّها سورة مكية ـ وهي كذلك ـ ، أما على قول أنها مدنيّة* فيصبح الأمر أوضح*) الذين قالوا بأنها مدنية قليلون جدّاً، واشتباههم لربّما جاء من اُمور:

أ ـ كان رسول الله| يردّد هذه السورة وغيرها في المدينة، أما لمناسبة في الوضع، أو لاحساس الآخرين بالنعم، أو لتذكير الناس بفضل فاطمة، أو لأمرٍ آخر. وكان المسلمون حينما يسمعون القرآن من فم الرسول| فينغمهم بحلاوة وطراوة وكأنها نازلة توّاً، فلربما الذين قالوا بأنها مدنية وصلتهم أحاديث وابار من هذا القبيل، فظنوها أنها نازلة في المدينة ولم تصلهم أخبار مكة.

ب ـ حين مات إبراهيم ابن النبي وهو من غير خديجة وكان يومها في المدينة لربّما قرأت سورة الكوثر مرّة اُخرى فتصوّر بعض الرواة أنّها نزلت حينها ـ وهو بعيدٌ أيضاً ـ .

وأفضح.

وعندئذ:

أ ـ كيف يُعلّم الرسول في كيفية الصلاة وهو قبلاً مؤديها ومقيمها

ب ـ لم تأتي الآية بأشياء مهمّة جدّاً في أداء الصلاة كالأركان والواجبات مثل الركوع والسجود مثلاً. إنّما جاءت بكيفية وضع اليدين قرب النحر.

ج ـ إذا أخذنا بقول حركة اليد في رفعها عند تكبيرة الاحرام وقبل الركوع وقبل السجود وهكذا إلى آخر الصلاة ـ كما ورد في بعض الأقوال ـ فإن هذه الحركات في رفع اليدين محاذاة الرقبة كلّها مستحبة حتى في تكبيرة الاحرام، فكيف تنزل آيةفي هذه الحركة المستحبة بمقابل عطية الكوثر، وبمقابل التحدّي بأبتربة الشانئ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم توضح الآية الكيفية والحركية كما لو قيل (وارفع يديك لنحرك).

3 ـ وانحر فعل أمر، ولم تأتي للغاية أو لنهاية حركة اليد كأن لو كانت (النحر) مثلاً.

4 ـ إذا كان رسول الله| لم يصلّ الله خالصةً، اذن فمن يصلّي لله كاملة؟ كي تأمره الآية بذلك، وهل كان يشرك بها (سواء الشرك الخفي كالرياء أو لتعليم الغير، أو الشرك الظاهر) ـ والعياذ بالله ـ وإلّا فلست أدري ما القصد في قول: صلِّ لله كاملة وانحر لله كاملة؟!

أو ـ كما ورد ـ قول: صلِّ صلاة الصبح المفروضة بجمع خالصاً لوجه الله ولا تكن كذلك الساهي عنها المرائي فيها!!

لست أدري؟!

5 ـ إذا كان الأمر بالصلاة نحو القبلة، فبأي اتجاه كان يصلّي الرسول ولأي قبلة كان يأمر الناس بالصلاة؟!

مع أنّ المعروف أن القبلة الأولى كانت نحو القدس ثم حولت نحو الكعبة. والآية (هذه) لم تكن أوّل آية بالتوجّه ولاآية التحول. كما في آية ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.

6 ـ أن الرسول| كان يشكر الله في كل الأحوال (في السراء والضراء والمرض والشفاء) ولكل الأشياء.

فهو الشاكر الذي لا مثيل له على الإطلاق فكيف إذا أولاه الله نعمة كبيرة وكثيرة يمتد مداها دنيا  وآخرة، فكيف لا يشكر؟! حتى تأتيه ىية تأمره بالشكر، أو تذكِّره على الشكر ـ على أقل التقادير  ـ .

7 ـ لو اطّلعنا على شيء ـ ولو بسيطاً ـ من حقيقة الرسول| وأنه العابد الحقيقي قبل البعثة، ولمعرفة ـ ولو ببصيص ـ عن ماهية الرسول| المخلوق النوراني وأنه كان يعبد الله ويسبّح حول عرش الله قبل أن تخلق السماوات والأرضين، بل خلقنا الله وخلق الكون كلّه لأجله . لو عرفنا ـ ولو بقدر قليل ـ لاتضح لنا أنّ عبادة الرسول بأصولها وقواعدها ومستحباتها وأنها كانت من ذي قبل.

بل هو علمها قبل البعثة لخديجة ـ اُمّ المؤمنين ـ  وغيرها بكل موارد الصلاة.

﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾.

قال المفسِّرون: أن الذي عابك بأنك مبتور النسل، هو الأبتر؛ أبتر النسل، أبتر الخير، أبتر الذكر.

وقد أجمع المفسّرون واتفقوا على الحدث ـ الذي سنورده ـ بأن شانئ الرسول هو الأبتر، وإن اختلف البعض في الإسم لكن الأغلبية الساحقة ذكرت إسم العاص بن وائل.

ولأجل معرفة من هو الشانئ والأبتر علينا معرفة سبب النزول.

 

أسباب النزول

 

عن ابن عبّاس: أنها نزلت في العاص (بن وائل السهمي)، وذلك أنّه رأى رسول الله| يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدّثا، وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلمّا دخل العاص قالوا له: من الذي كنت تتحدّث معه؟ قال: ذلك الأبتر ـ يعني النبي ـ وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله| وهو من خديجة، وكان يسمّون من ليس له ابن أبتر (7). فسمته قريش عند موت ابنه أبتر...

وفي سند آخر: كان العاص بن وائل يمرّ بمحمّد|، ويقول: إني لأشنؤك وإنك لأبتر عن الرجال، فأنزل الله تعالى ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، وغيرها من أسباب النزول التي تتّحد بالمفهوم وتختلف بالتعبير.

 

أقوال المفسّرين

 

ذكر بعض المفسّرين عبائر وكلمات تتعلّق بنزول هذه السورة وسببها: هي أشبه بتحليلات نفسية من أنفسهم، وتخيّلات حاكها خيالهم، أو مراعاة لأحاسيس منطلقة من أحاسيسهم، نورد بعضها:

(... فأنزل الله هذه السورة على نبيّه تسلية له...).

(... نزلت سورة الكوثر، ماسحة على قلبه الشريف بالروح والندى...). (... ان قول الكافر الذي نعت رسول الله الأعظم| بالنعت المؤذي قد أثار في نفسه الشريفة أزمة، فأنزل الله تعالى هذه السورة ترد عليه، وتحمل البشرى والتطمين لنبيّه الكريم...).

(... فغاظه ذلك، فنزلت ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ تعزية له..).

(.. تطمين وتعظيم وتطيّب لنفسه الشريفة.).

وةغيرها وما شابه هذه والتي هي تكهنات ذاتية لارهاصات صادرة وكأنه من إنسان عادي ـ وعادي جدّاً ، ولربّما من غير قوي الإيمان.

 

وقفة تأمّل

 

نحن مع مقام الرسول|، مع المقام المحمود، والمنزلة السامية والذات المقدّسة ومعلّم البشرية في كيفية الإرتباط الوثيق بالله عز وجل، وقد جعل الله نبيّه المعصوم حبله الذي يستمسك به المؤمنون ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً﴾، ونحن في حضرة الروح العالية، والأخلاق الواقعية ـ الداخلية (الذاتية)، والخارجية (التعاملية)، مع هذه الرفعة التي قال عنها خالقه ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ بوصف العظمة المطلقة.

كيف يتسنّى لبعض القول بأن هذه السورة نزلت لتسلّي النبي، ولتمسح على قلبه ليرتاح ولتطمأن نفسه؟! بعد أن فكّر، بأنني واقعاً أبتر النسل ـ كما يزعم المشركون ـ ها قد مات أولادي كلّهم، وكأنّما الأفكار أصبحت تحوم في ذهنه، ومضايقات وساوس الأعداء أخذت مأخذها منه.. فأنا أبتر حقيقةً، وكأنه قد شغله هذا التفكير إلى حدّ الضجر والأذى، فنزلت هذه السورة لتُذهب عنه الروع والفزع وترفع التفكير بالأبترية، ولئلّا يتباطئ عن المهمة التي أرسل لها أو تحول دون تحقّقها، فطمأنه بألا يعبأ بقولهم وأنك تُرزق من النسل الكثير، فعلام هذا اليأس!!

ويا للأسف فإنّ القائل بمثل هذه الأقوال أرسلها مرسلة المسلّمات وأنزلها منزلة البديهيات أو اعتبرها  من الضروريات لتثبيت قلب النبي واُنسه ولترفع عنه المحبة وتدفع أزمته النفسية.

وكأن الله اختار إنساناً مكوّناً من غرائز بشرية خليطة، ونوازع نفسية مضطربة، وكأنه لم يقل في حقّه بذهاب عنه الرجس المكنون في الباطن وطهّره من كل درن تطهيراً.

انّ أدنى معرفة بالرسول| ولو بسيطة جدّاً ـ وأدنى احترام له| لا يجيز لنا التفوّه ـ بل التفكير ـ بمثل هذه الكلمات التي لا نطلقها على إنسان مؤمن عادي، فلو فكّر ـ المؤمن ـ بالعقمية ـ مثلاً ـ نستنكر عليه ونقول له: أين إيمانك؟! وأين قولك: إنّ الله أعرف بتشخيص المصلحة و﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ... وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾.

فهذا المنطق مرفوض من الإنسان المكوّن من عدّة غرائز ومتناقض الركائز متفاوت الحواجز، فكيف بسيّد الرسل المصطفين المعصومين، وإمام الخلائق أجمعين؟

وكيف يسمح لنا ضميرنا أن نحوم حول الساحة القدسية، والتي هي: هالةٌ شامخةٌ لا يمكن اختراقها بالذهن، وأنى لنا! وقد عرف نفسه بنفسه بقوله: «يا علي لا يعرف الله إلّا أنا وأنت ولا يعرفني إلّا الله وأنت، ولا يعرفك إلّا الله وأنا».

وقد عبّر القرآن الكريم اشارةً إلى المقام العلوي العظيم، الذي نحن غير بالغيه ـ ولو بشقّ الأنفس ـ ﴿ وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ لقد رأى من آيات ربّه الكبرى، وبهذا المختصر الوجيز وبصيرة من بصائر لتُشعر ذوي البصائر واُولي الألباب بعدم اختراق الحجاب النبوي والنور المحمّدي.

 

تأمّل وتألّم

 

انّ رسول الله كان في كل اُموره ومسيرته مع الله فهو لا يرى شيئاً إلّا ورأى الله قبله وفيه ومعه وبعده، فكيف يتأثّر من قول كافر خاسر، وما يشنشنه شانئه عليه؟ وهو جاء وبعث لهدايتهم وقد علمنا من مسيرته الطيبة مع قومه وهو يبلّغهم رسالات ربّهم ويريد نجاتهم دنيا وخلاصهم آخرة، وينقذهم من شفى حفرة هاوية ومن براثيم الجاهلية الخاوية ويعلّمهم نور العلم ويزكّي عملهم ومع ذلك كان يلاقي ما يلاقي من قومه ويُرمى بالحجر وغيره فتسيل الدماء الزكية منه ثم يرفع يديه بالدعاء لهدايتهم «اللهمّ ارحم قومي فإنّهم يجهلون...».

فأين التأثير الباطني أو الظاهري كي يتأثّر من كلام ابن واثل وهو الذي يُصبّر أصحابه على تحمّل الأذى النفسي والجسدي، ويوصيهم بربط أحزمة الجأش في ذات الله ولا تأخذهم في الله لومة لائم.

 

استدراك

 

1 ـ المفسّرون الذين أوردوا معاني الكوثر والصلاة والنحر، استندوا على روايات مختلفة ـ كما أوردنا ـ وكل رواية ناظرة إلى معنى واحد من جملة المعاني التي تحتويها الآية.

ولكن المفروض من المفسّرين أن يراعوا الجمع بين غرض تفسيرهم الذي يروم شكلاً معيّناً مثل التفسير الفلسفي، أو التفسير التاريخي، أو التفسير الروائي، أو التفسير العلمي، وغيرها.. ويجمع بين الرواية التي هي أقرب لمجمل السورة وغرض النزول، ويلاحظ آثار الكوثر والشانئ في زمانه (مع البعد الزمني بين المفسِّرين). إلّا اللهمّ أن الرواية الاُخرى لم يحصل عليها ـ وهو بعيد جدّاً ـ .

2 ـ أن ما ورد من روايات في تفاسير الآيات هو وارد لها، ولا منافاة بين قول وآخر، ومعنى وغيره لكن لا يمكن لأي إنسان أن يقول عن المعنى الواحد هو: هذا التفسير والغرض لهذه الآية أو تلك، بل من باب الاحتمال ـ كما أسلفنا سابقاً.

2 ـ جزا الله المفسّرين خيراً، فقد اتبعوا أنفسهم كثيراً، وأورثوا للأجيال ثروة كبيرة، ينهل منها طلّاب معرفة القرآن فهم ـ بحق ـ أصحاب فضل على الجميع، والجميع مدانون لهم.

4 ـ خلال البحث لمأذكر أي إسم من المفسّرين، ولا أي غسم كتاب تفسير، لئلا يظنّ القارئ انّي فاقد احترامهم ـ والعياذ بالله ـ والمناقشة معهم هي من باب ابداء رأي وطرح فكرة.

نعم ذكرت بعض مصادر الروايات التي لا تتعلّق بالتفسير، فالرجاء ملاحظة ذلك. ورحم الله الماضين، ووفّق الله الباقين، وأنا لهم من الشاكرين.

5 ـ جميع ما ذكرت من معان هو مسنود إلى تفسير ما ولكن لم أذكره للغرض نفسه، وخصوصاً في مناقشتها.

6 ـ ليس كل ما ورد من روايات في التفاسير هي صحيحة المتن، وخصوصاً إذا تعارضت مع خُلق الرسول| وأدبه، وتخالف عبادة سيّد الموحدين.

7 ـ علم الدراية المختص بالرواية من متن وسند، وعلم الرجال يبحث عن صدق الراوي وصلاحه وثقته، فالمفروض عرض روايات التفسير على هذين العلمين وغيرهما، ويتوقّف قلياً قبل سردها في تفسيره ليراها هل توافق الرواية متناً مع القرآن الحكيم والسيرة النبوية الصحيحة وغيرها.

8 ـ نعم يمكن لكتاب أن يجمع الروايات التي لها ربط بالآية (أي آية) كجمع سواء الصحيح منها أو غير ـ كما في التفاسير الروائية ـ ثم يأتي عالم آخر فيحقّقها ويدقّقها.

9 ـ تتمنّى من علمائنا الأعلام، أن لو كل واحد منهم يأخذ سورة واحدة من القرآن الكريم، ويكتب عنها وحولها بشيء مسهب ويستخرج من دررها حلية يلبسها المسلمون، ولوصرف كل عمره وقضى كل حياته في هذه السورة الواحدة، لكان عطاءً جميل للأجيال وتراث ضخم، ثم يأتي غيره ويحوم حول سورة اُخرى ـ غيرها ـ وهكذا حتى تكمل كل سوره الشريفة.

وهذا بزمن واحد ـ باتفاق أو بدونه ـ أو بتعاقب الأزمان ومرّ القرون.

صحيح كان لبعض الأعلام قدس سرهم مؤلّفات خاصة عن أسرار بعض الآيات، ولبعضهم علوم القرآن، وآخرون لآيات الأحكام وغيرهم استخراج كنوز العرفان في فقه القرآن والبعض  في قصص القرآن وفي أمثال القرآن و...

وكان لبعضهم ـ نوّر الله ضريحهم ـ حول سورةواحدة بامعان واتقان مثل سورة الفاتحة.

لكن ـ للأسف ـ لم يتناول المهمّة غيره من بعده في سورة اُخرى أو حدث لآيات قليلة مثل آية الكرسي.

نأمل ونتمنى أن يتخذ الباقون ما تبقى من القرآن في تبيان وبيان ولا يكون همّ أحدهم إكمال وإتمام شرح مفردات القرآن بأكمله فينهيه على وجه السرعة بلا غوص في أعماق الآيات لئلا يدركه الموت ولم يكمله، فعندئذٍ يخرج تفسيره مختصراً وشرحاً موجزاً.

على الذين أكملوه (كتفسير) لهم فضل كبير، ومرجع اكسير، ولهم أجر كريم وكثير، وهذا لا اشكال ولا ريب فيه.

وياليت آخرون تناولوا القرآن سورة سورة وفي السور الطوال، آيات مجموعة مجموعة.

فعلماؤنا الكرام قلمهم سيّال ينطق بعلم، وغزارة فهم، ودلوهم إذا أدلوه في القرآن لا يخرج إلّا جواهر ثمينة ودرر يتيمة، ومع ذلك فإنّ علمائنا ـ رحم الله الماضين وحفظ الله الباقين ـ هم حفظة الدين، وأعمدة كيانه، ولكن نريد منهم أكثر ممّا أعطوا، لأنّ علمهم من منهل علم أهل بيت الوحي ولأن عطائهم منهمر، وغذائهم ثمرّ.

 

الاعجاز

 

الاعجاز في القرآن كله، واعجازه ما يعجز البشر عنه في كل شيء فليست البلاغة لوحدها، وإنّما الفلسفية والعلمية والتاريخية والعددية والفلكية وغيرها، والأخبار عن قصص الماضين كعبر واعتبار، والأخبار المستقبلية من ملاحم وبشارات وفتن ووقاية وحذر أو أي شيء آخر، وتحديه ليس في أن يأتو ـ ولو اجتمعوا ـ بسورة واحدة في موضوع الربط البلاغي والموضوعي، بل تحديه في كلّ شيء.

ولكل علم ورد فيه هو: قانون ثابت وليس نظرية علمية (تحتمل الصواب والخطأ)، ودليل وشاهد لغيره لأنّ غيره دون.

ويكفينا أنه كلام الخالق تبارك وتعالى، وكفى. وغرضنا في اعجاز سورة الكوثر بالذات لأنّ حديثنا حولها، والاعجاز نقصده هنا من باب المستقبلية فقط، بما يتوصل إليه القلم.

فهي رغم قصر آياتها، وقلّتها، وتقابل تشاكلها، تتمتّع بسهورة سجع راء المخرج، ومجاري الحروف بصيغة التحدّي والحتوف، وهي: شمول بالقول وإيجاز باعجاز يهام على اتلالها بقاء رباعها، ويسحر بغمرة الأذعان في بقاع سبائكها، بلطائف الابداع، ورشائف الاشباع.

 

رؤى في الاعجاز

 

ومن تلك رؤى لفظية باعجاز مستقبلية:

﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾ هي: عطية الله جل جلاله وهو يذكرها في كتابه الخالد ـ الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه ـ ويبالغ بكثرتها ﴿ الْكَوْثَرَ﴾ على صيغة (فوعل) أي الكثرة (بزيادة الواو) والكيثر.

اذن فماذا تكون هذه العطية؟ وهي من الله الذي يملك بلا حدّ وخالق كل شيء، وبيده مقاليد كل شيء.

وهذه العملية جاءت بعد منحه الحياة بما فيها من تصرّف وسلامة الخلقة وصوره في أحسن صورة.

وإذا كانت للرسول| خاصة، فقد اُعطيت له الكوثر بعد البعثة بالغسلام، وبعد وعده بأن دينه سيظهره على الدين كلّه وعلى الدنيا كلّها ويدخل لكافة القلوب، وجاءت ـ هذه العطية ـ بعد مقارنة إسم الرسول مع إسم الله في الآذان الذي يرفع على المآذن يومياً ليملّ صداه فضاء الأرض وفضاء الروح، وجاءت بعد مكافاته سواء في الدنيا أو الآخرة، وجاءت ـ أيضاً ـ بعد نزول القرآن العظيم وهو من العطايا الظيمة للرسول ولاُمّته.

وعطية حفظ القرآن من كلا تلاعب تذكره آية اُخرى غير آية الكوثر، مثل ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ و ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وعطية كثرة الأصحاب ونوعيتهم أيضاً آيات اُخرى مثل ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... ﴾وغيرها.

ولو قارنا زمن نزول السورة مع زمن ولادة الزهراء‘ لوجدنا تناسب العطية بولادتها‘ ومنها جاء نسل الرسول| وغيره من النعم المستفيضة.

ولا نعتقد بالنسل الكثير منها هو التولّد فحسب، وإنّما النسبية المباشرة بالرسول (ذريّته). وإلّا فنحن البشر جميعاً جئنا من نفس واحدة وكلّنا من آدم. ولكن لم نجد ولم نسمع (سابقاً ولاحقاً) أن عائلة واحدة حملت لقباً واحداً وانتسبت لشخص واحد بهذه الأعداد الهائلة والكثيرة، إلّا هذا النسل الشريف المنسوب إلى الرسول الكريم|، وإلّا فالعشائر كثيرة ولربّما صارت كبيرة ثم تفخذت وتفرّعت ثم انسخلت من نسلها الواحد (لقباً) .ومع الفرض ـ ولو بعد التي واللتيا ـ لو جمعنا الأفخاذ والفروع جميعها ـ من النسل الواحد ـ لما صار ووصل العدد بما هو في عدد نسل الرسول ولو بنسبة واحد بالمئة أو قل بالألف.

فعدد السادة (نسل الرسول) بما يزيد على خمس وخمسين مليوناً منتشرون في أغلب بقاع العالم ـ بتفاوت النسبة بين قطر وآخر ـ وهذا العدد ليس باحصائية دقيقة، وإلّا فهو أكثر من هذا العدد. وقد اجريت قبل سنوات احصائية في كافة البلدان في جدول احصائي كمسحة جغرافية سكانية مميزة. فكان المجموع أكثر من هذا العدد الذي ذكرناه.

مع العلم أنّ هذا العدد ليس معناه أن كل فرد ـ من السادة ـ له صلة رحم قريبة مع الىخر (كابن عم أو خال)، ولكن الجميع هم ينحدرون من شجرة طيبة واحدة ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار:

أ ـ أنّ السادة (العلويين) قد مرّوا بعصور غاشمة معادية لهم ـ بظلم  وعدوان ـ مثل الدولة الأموية التي طالت قرن ونصف تقريباً ثم الدولة العبّاسية مباشرة بعدها طالت حوالي أكثر من خمسة قرون وما بعدهما تعاقبت الدول المناوئة لأبناء وذريّة الرسول|، وقد تولوهم بالقتل والسجن والمضايقة الإجتماعية والمحاصرة الاقتصادية، والنفي والإبعاد والتشريد، وخصوصاً في الدولتين (الأموية والعبّاسية).

هذا ما  يقلّل ـ بشكلٍ أو بآخر ـ نسبة التوالد والتكاثر.

ب ـ الكثير من العوائل المهاجرة والمشرّدة من جراء الاضطهاد والجور، والمعاملة التعسفية. حينما كانوا يفرّون إلى بلدان اُخرى وبعيدة ضاربين بوجوههم في مناطق نائية أو غير نائية لكن سكّانها لا يعرفونهم، فعندما كانوا يقطنون بلداً لم يظهروا انتسابهم لآل الرسول (كسادة وعلويين) لئلّا يتفشّى أمرهم إلى السلطات فتطاردهم أو تعتقلهم بجريمة الإنتماء للشجرة المحمّدية أو العلوية، حتى انهم لم يوضّحوا نسبهم لأبنائهم أنفسهم خوفاً من إفشائه، ثم ينقرض الوالدان، والأبناء لا يعلمون أنّهم سادة إطلاقاً، فكيف بالأحفاد. ومن هذا القبيل عدد كبير جدّاً وخصوصاً ـ هذه الظاهرة ـ كانت سائدة أيّام الحكم العبّاسي الجائر.

(مع ملاحظة أن أغلب هذه العوائل لم تكن ثورية ومجاهدة ومناوئة كما كان لغيرهم من العلويين في المقاومة والتحدي والصمود).

بل أن هناك الكثير من العوائل والعشائر (غير السادة) «عوام» لربّما هم من ذريّة الرسول وهم لا يعلمون. والبعض من هؤلاء ـ غير الأغلبية ـ راودهم الشك في الانتساب إلى الدوحة المحمّدية ـ بحسب نسبة ودرجة الشك ـ معتمدين على بعض الامارات، لكن لا يستطيعون الجزم بذلك، لئلا يقعوا بالحرمة الشرعية في الانتحال والتقمص ـ لسبب أو لآخر ـ بالنسب إلى الرسول وهذا العامل ـ أيضاً ـ قلّل من نسبة الانتساب إلى السادة.

وبالمقابل نجد العبّاسيين ـ مثلاً ـ حكموا وملكوا وسرحوا ومرحوا ولكل رجل منهم عدّة أزواج وأولاد كثيرة، وبقوا فترة طويلة يتمتّعون بالحرية المطلقة والإستقرار والأمان و.. لكن ـ يا سبحان الله ـ لا تجد ـ الآن ـ أحداً من نسلهم ويدّعي انتسابه إلى هذه الشجرة (لا افتخاراً ، ولا احتقاراً، ولا استنكاراً، ولا انتساباً)، وكذا آل أميّة، وىل زياد!!

اذن فما بال نسل العاص بن وائل، أو عمرو بن العاص!!؟ أليس هذا اعجاز بيّن، ومطابقة الواقع، لمصادقة القرآن الساطع.

هذا كلّه إذا قلنا نسل الرسول| بالنسبية، أمّا إذا قلنا بالحسبية اذن فقد شمل نسل الرسول كل مسلم على الأرض، فالرسول هو أب هذه الأمّة ومربيها وحاميها وشفيعها و.. وعندئذٍ خسئ شانئ الرسول وهم الأعداء جميعاً).

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾.

وأنك يا رسول الله أنت المصلّي الشاكر في كل الإناث، ولكن شكرك لهذه العطية شكراً خاصاً وهو: أن تظهر فضل هذه العطية (فضل الزهراء بكل نعمها) وتنشره لاُمّتك كي تعرف الاُمّة طريق الحقّ لتقتدي به لأنّ الإنسان عندي (أي عند الله تعالى) محبوب وأحب له كل خير وأفضل من خير اتباع الزهراء لا يوجد فلذلك عليك ـ يا رسولي ـ اظهاره للإنسان.

روى ابن الصباغ المالكي قال: خرج رسول الله| ـ وهو آخذ بيد فاطمة ـ ، فقال: «من عرف هذه فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي: فاطمة بنت محمد، وهي: بضعة مني وهي قلبي وروحي التي بين جنبيّ، فمن  آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله» (8).

وانحر يا رسول الله ـ لمقدمها ولوجودها (الزهراء العطية ) انحر العطية نفسها وما يلد منها وانحر نفسك وروحك وما أنت منها وهي منك.

وشكرك لربّك (الصلاة) هو قبولك بالنحر هذا.

﴿انْحَرْ﴾: فعل أمر يفيد المستقبل، بينما العطية ﴿َأَعْطَيْنَاكَ ﴾كانت تسبق النحر.

وهو دليل على قبول الرسول لنحر العطية. ولقد نحر الرسول نفسه وأبناءه ونساءه.

فالرسول| نحر بقول: (أن الرجل ليهجر) عام 11 هجرية (28 صفر) والإمام علي بن أبي طالب× هو نفس الرسول| بنص القرآن ﴿أَنْفُسَنَا﴾في آية المباهلة المفسّرة بعليّ نفس الرسول وغيرها من الآيات.

وقد نحر لأجل دين محمّد| بسيف ابن ملجم في 21 من شهر رمضان عام 40 هجرية.

وفاطمة الزهراء‘ هي: روح الرسول، كما قال| علنها: «فاطمة روحي التي بين جنبيّ» (9). والتي نحرت لأجل دين محمّد| بعصرها وكسر ضلعها في 3 جمادى الآخرة عام 11 هجرية *.

والإمام الحسن× ريحانة الرسول | «ان ابني هذين ـ أي الحسن والحسين ـ ريحانتي من الدنيا» (10). الذي نحر لأجل الحفاظ على دين محمد| بسمّ معاوية بن أبي سفيان له في شهر صفر عام 50.

والإمام الحسين× هو من الرسول والرسول منه كما عبّر عن ذلك| بقوله: «حسين منّي وأنا من حسين» والذي نحر لأجل بقاء دين محمّد| بسيف بزيد بن معاوية في واقعة الطف 10 محرّم عام 61 هجرية.

والإمام زين العابدين بن الحسين نحر بسمّ هشام الأموي في 25 محرّم عام 95 والإمام الباقر محمّد بن علي÷ نحر بسمّ هشام الأموي في 7 ذو الحجّة عام 114 والإمام الصادق جعفر بن محمّد÷ نحر بسمّ الدوانيقي العبّاسي في 25 شوّال عام 148 والإمام الكاظم موسى بن جعفر÷ نحر بسمّ هارون العبّاسي في 25 رجب عام 183 .

*ـ لأجل التناسب في نحر الكوثر الزهراء‘ إذ المطلب في المعنى الحقيقي للكوثر هو: الزهراء فاطمة‘ أحببنا ذكر بعض ما ذكره المؤرخون ـ من أبناء العامة ـ في قصة نحوها اخترنا موضعين

1 ـ روى أبو الفداء في تاريخه (ج1): أن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة وقال: ان أبوا عليك فقاتلهم فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار، فلقيته فاطمة، وقالت: إلى أين يابن الخطّاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم.

وعلى رواية اُخرى قيل له: يا ابا حفص! أن فيها فاطمة، قال: وإن.

وذكره بما يشابه جماعة آخرون من ابناء العامة ـ أيضاً ـ اُنظر : العقد الفريد / كنز العمال/ اعلام النساء/ الإمامة والسياسة/ تاريخ الطبري/ الأموال/ تاريخ اليعقوبي/ هامش الكامل/ وغيرها الكثير.

2 ـ ذكر الشهرستاني في الملل والنحل: أن عمراً ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين (محسن) من بطنها، وكان يصيح: احرقوا دارها بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين.

والمؤرخون من أبناء العامة جميعهم ذكروا ذلك في كتبهم منها: المحاسن وأنفاس الجواهر / تاريخ الطبري/ لسان الميزان/ الوافي بالوفيات وغيرها.

والإمام الرضا علي بن موسى÷ نحر بسمّ المأمون العبّاسي في آخر صفر عام 203 والإمام الجواد محمّد بن علي÷ نحر بسمّ المعتصم العبّاسي في آخر ذي القعدة عام 220 والإمام الهادي علي بن محمّد÷ نحر بسمّ المعتز العبّاسي في 3 رجب عام 254 والإمام العسكري الحسن بن علي÷ نحر بسم المعتمد العبّاسي في 8 ربيع الثاني عام 260 ونُحر أتباعهم وأولادهم على مرّ الأعصار والأمصار.

 

تشبيه بالنحر

 

للغمام الحسين× تشبيه خاص بالنحر بثلاث نقاط:

1 ـ المشابهة والمقارنة بالصورة فقط مع فارق القداسة والجلالة.

أ ـ النحر: هدي وأضحية وقربان يتقرّب العبد لربّه، والإمام الحسين× قدّم نفسه، أو قدّمه الرسول| قرباناً للدين، وقول زينب‘ عندما وقفت على جسد أخيها الحسين×: «اللهمّ تقبَّل منّا هذا القربان».

ب ـ نحن نعرف أن المتقدّم بالقربان إذا كان من الإبل هو خير من البقر والبقر خير من الشاة، ولذا عبَّر عن الحسين بالنحر تشبيهاً (بنحو الإبل) أي بأفضل القرابين.

ج ـ إشارة إلى قتل الإمام الحسين× في صحراء جرداء (كربلاء) ، كما يعرف عن الإبل أنّه صحراوي.

د ـ عند نحر الإبل يضرب من عنقه (القفا)، والإمام الحسين× ذُبحَ من القفا (السلام على المذبوح من القفا) كما جاء في الزيارة.

والمعروف أن الذبيحة تسقى ماءاً، لكن الإمام قُتل وأهل بيته وأصحابه حتى طفله الرضيع عطاشا من دون سقي ماءٍ من قبل أيام.

وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد أي منقلبٍ ينقلبون، والعاقبة للمتّقين السالكين درب الحسين السائرين على نهجه.

إنّما عليك يا رسول الله البلاغ وعلينا الحساب.

2 ـ ورد في تفسير ﴿وَانْحَرْ﴾ (.. أي واقبل نحر ولدك الحسين بن علي÷ يوم عاشوراء عوضاً عن الكوثر).

3 ـ ما جاء عن لسان النبي وأمير المؤمنين والحسين نفسه^ من مقتل الإمام الحسين سواء في يوم ولادته أو حياته وسواء وصوله أرض كربلاء وما ذكره على ما أخبره جدّه وأبوه . نذكر غيثاً من فيض واختصاراً واقتصاراً:

أ ـ لمّا بشّر الرسول الأعظم| بسبطه المبارك خفَّ مسرعاً إلى بيت بضعته فاطمة فنادى بحزن: «يا اسماء هلمي ابني» فناولته أسماء فاحتضنه النبي وجعل يوسعه تقبيلاً، وقد انفجر بالبكاء، فذهلت أسماء: «فداك أبي واُمّي مِمَ بكاؤكَ»؟!! فأجابها والعيون تفيض دموعاً: «من ابني هذا» قالت مستغربة «انّه ولد الساعة»!! قال الرسول بصوت متقطّع حزناً وأسىً «تقتله الفئة الباغية من بعدي لا أنالهم الله شفاعتي...»(11).

ب ـ روي عن أمير المؤمنين ـ وهو في طريقه إلى صفّين أنّه قال: «صبراً أبا عبد الله، صبراً أبا عبد الله، بشط الفرات»، ودار الحوار مع أحد أصحابه إلى أن قال×: «دخلت على رسول الله| ـ وعيناه تفيضان ـ فقلت يا نبيّ الله اغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تقيضان؟!! قال: قام من عندي جبرئيل فحدّثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، وقال هل لك أن أشمك من تربته؟ قال: قلت: نعم، فقبض قبضة فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا » (12).

ج ـ روت اُم سلمة قالت: كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبي في بيتي فنزل جبرئيل فقال: يا محمّد أن اُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك ـ وأشار إلى الحسين ـ فبكى رسول الله وضمّه إلى صدره وكان بيده تربة فجعل يشمّها وهو يقول (ويح كرب وبلا) وناولها اُمّ سلمة فقال لها: «إذا تحوّلت هذه التربة دماً، فاعلمي أن ابني قد قتل»، فجعلتها اُم سلمة في قارورة، وجعلت تتعاهدها كل يوم وهي تقول: ان يوماً تتحوّلين دماً ليوم عظيم (13).

ولربّما كانت تنظر لها أيّام سنة الستين وما بعدها لأنها روت بقولها عن رسول الله: «يقتل الحسين بن علي على رأس ستين من مهاجرتي» (14).

وروايات كثيرة جدّاً في هذا الصدد وأن اختلفت بالزمن فهذا معناه أن جبرئيل والرسول كانا دائماً يذكرونها.

﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ﴾.

في هذه الآية عدّ’ تأكيدات.

فضلاً عن أنّه كلام الله العزيز الذي لا يحتاج إلى تأكيد، لأنّه تأكيد بحدّ ذاته ، لكن مع ذلك ـ نحن ـ نأخذ الظاهر من التأكيدات في الآية.

(ان) تفيد التأكيد إذا سبقت الكلام، وإلّا فيمكن للإخبار أن يأتي مباشرةً: (شانئك) من دون أن التأكيدية. (هو) تأكيد بالضمير المنفصل، وإلّا فيصح أن يكون (شانئك أبتر) ، ويضاف إلى التأكيد التصريح بالتحدّي ـ أيضاً ـ .

ويلاحظ في كلمة (أبتر) أنها جاءت على نحو الحصول الفعلي (بتأكيد حاصل في حصوله وكينونته)، ولم تأتي بنحو المستقبل (سيبتر).

وهذا دليل على ان شانئ الرسول (العاص بن وائل) كان في وقته أبتر من النسل (امّا عقماً، أومرضاً، أو تبياناً إعجازياً).

فالحاصل أنّه في وقت بغضه وشنئه وإعابته للرسول كان هو أبتر، وكذا ما بعده.

وقد اُشتهر عن عمرو أنّه ابن العاس بن وائل السهمي، لكن القرآن أسمى وأصدق من أن يكذبه نقل المؤرّخين، إلّا أنّهم يأتون باسم عمرو  بن العاص، من باب الغلبة ومن باب التعريف والتميز عن غيره.

وقصّة عمرو بن العاص: أنّ أُمّه (امّ عمرو) كانت قعرة تتنقل بين أحضان الرجال، وتتمتّع بمائهم، فكان أبو سفيان، والنضر بن الحارث، والوليد بن المغيرة، وعثمان بن الحارث، والعاص بن وائل، وهؤلاء من بين الذين يتردّدون عليها، فلما ولدت عمروا، تنازع هؤلاء دون غيرهم على الوليد الجديد، فغلبهم العاص في التحاقه إليه وأسماه (عمرو).

وفي مجتمعهم كان المتعارف عندهم في أولاد البواغي (صاحبات الرايات) البنين دون البنات، وذلك يعتبر مفخرة لمن ينتسب إليه ليضيفه إلى بنيه.

بضابطة:

أ ـ يتم التقاسم فيه لأصحاب الوجاهة الإجتماعية، أو ذوي الأموال وليس لغيرهم الحقّ في الدخول بالنزاع أو المقاسمة.

ب ـ للمرأة ـ صاحبة الحمل ـ الحقّ في إلحاقه لأي عميل لها، فأمّا لكثرة مراجعته دون غيره، وأمّا لاغداقه عليها بالمال، وأمّا لتهديدها بالقتل.

ج ـ لربّما يتراحموا على من ليس له ولداً ذكراً ، فيتنازلوا له.

د ـ أو يتم التناصف فيما بينهم باعتبارهم أصحاب وأصدقاء  وندماء، فينصف بعضهم بعضاً، في الولد من فلانة لشخص ما، والولد من غيرها لشخص آخر.. وهكذا. كما حدث لزياد بن أبيه عندما أخذه أبو سفيان، وجعله ابناً له من بعد عدّة مفاوضات واغراءات.

وهذا كان مألوفاً في ذلك المجتمع في أوساط الفئة غير الملتزمة بالعرف الجاهلي، والغير المحافظة على التقاليد الجيدة في الجاهلية الاُولى.

اذن هذا هو عمرو المنتسب غلى العاص. وهو صاحب معاوية بن أبي سفيان، وصديقه في الجاهلية، وشريكه في المؤامرة على الإسلام، وعمرو بن العاص ـ هنا ـ يتولّى إمرة مصر كنحلة من قرينه معاوية (وهب ما لا يملك)!!

وياللطامة الكبرى: قد هجم آل اُميّة وأمثالهم على البلاد الإسلامية هجوم المفترس كما قال أبو سفيان ـ وقد أخذه الكبر عتيا ـ وهويرى عثمان بن عفان يحكم من جهة ومعاوية من جهة اُخرى ووكلائهما الأمويون موزّعون على البلاد، قال قولته المشهورة: (تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة ـ بيد الصبيان فو الذي يحلف به أبو سفيان فلا جنّة ولا نار).

أنّها كارثة حلّت على الاُمّة الإسلامية..!

ولتبيان بعض الروايات بصدد نسبة عمرو نحتاج إلى حيز وجيز و:

تمهيد:

بعد أن سيطر معاوية بن أبي سفيان على دفّة الحكم في الشام بتعيين من عمر بن الخطّاب، أخذ معاوية يربّي أبناءها بحسب رغبته، وبما تمليه مصلحته وأهواءه.

والشام كانت بعد فتح الإسلام بيد أخيه يزيد بن أبي سفيان ولمدّة أربع سنوات ثم تحوّلت إلى معاوية، فلعبا بها دوراً بارزاً في اعطاءها الإسلام الأموي، واستغلا بُعد الشام المكاني عن المدينة المنوّرة، وعدم احتكاك أهلها بأصحاب الرسول| فكان معاوية يختلق أحاديثاً ويسندها إلى الرسول، ويفسّر القرآن بما يريد وكيفما يرغب، ويعينه على ذلك عمرو بن العاص وغيره ممّن كان يضمر العداء للإسلام.

وكان وعّاظ السلاطين (اذاعة ذلك الزمان) يبثّون سموم معاوية بين الناس ضمن خطّة مبرمجة ومنسقة* وقد حفظ لنا التاريخ أرقاماً كثيرة ، وصوراً عديدة*

واعتبر معاوية الشام معقلاً له وحصناً منيعاً، بل ملكاً خاصّاً وجعل الحكم فيها وراثياً يرثه أبناءه كيزيد وأضرامه. وكان يضيّق الخناق على أصحاب الرسول| إذا نفاهم عثمان بن عفّان إلى الشام ليتخلّص منهم ببعدهم عنه. كما فعل مع الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، وعدي بن حاتم، وغيرهما، كما وجهّز جيشاً جراراً من الشام لمحاربة غمام زمانهم علي بن أبي طالب×، ودارت معركة صفّين، وكادت تقع معركة النخيلة لمحاربة الإمام الحسن×.

وأهل الشام لا يعرفون من هو الإمام علي غير أنّهم يعلمون ـ كما ضللّهم معاوية ـ أن سبّه ولعنه واجب ديني وخصوصاً عقب كل فريضة صلاة وإلّا بدونه لا تقبلـ للوضّاعين نصيب وافر من المال والجاه، لمن يضع حديثاً يُضلّ به عن سبيل الله، أويختلق رواية تمدح معاوية وجميع ما يوضع بسند عن الرسول (كذباً وزوراً).

** ـ كان وضع الأحاديث من قبل معاوية لغرض إبعاد المسلمين عن روحية الغسلام، وواقع الدين وأثره الثوري في النفوس، وبما أن اسم الإسلام لا يمكن أن يبدله، وتغيره أصبح محالاً، وإلّا لفعل ولأرجع الجاهلية الأولى.

وهذا المخطّط المدروس كان مبعثه حزب حسيكة النفاق الذي كان يتربّص بالرسول، وقد سيطر على الحكم من بعد النبي مباشرة، وهدف هؤلاء هو محو الدين ـ ولو تدريجياً وبعد فترة ـ فمنعوا أي تفسير للقرآن وآياته، ومنعوا أي حديث عن الرسول يتناقل في المجتمع الإسلامي وقالوا : (كفانا كتاب الله)، كي يأوّلوه حسب خطّتهم.

فوالله لولا وجود المعصومين (الإمام علي وأبناءه الأئمّة^) لاستطاع حزب النفاق من تغيير مجرى الإسلام بإسم الإسلام ثم محوه تماماً من الوجود.

والمتتبع للتاريخ يلمس بوضوح الخطة وأسلوب تنفيذها التدريجي، ولكن شاء الله أن يحفظ دينه بوجود الأئمة، وردّ الشبهه وإبطال المخطط، واعطاء دمهم الطاهر للحفاظ على أصل الدين، وهم مصداق الآية ﴿... وانحر﴾.

 الصلاة، هكذا غذّاهم معاوية من ثديه السميم.

 

عمرو الشانئ

 

في تلك الظروف كان عمرو المنسوب للعاص بن وائل، يخطب على الشاميين وأمام شهود الناس ويقول: أنا ابن شانئ محمّد (ولا يقول رسول الله، للتنكيل) يقولها بفخر واعتزاز ليُثبت للعالم كذب القرآن في تحديه بقطع وبتر نسل العاص ويُثبت كذب الرسول ـ أيضاً ـ الذي يوحى إليه، وبالتالي تكذيب الله جل وعلا.

وبين فترة واُخرى يعيد مقولته المشؤومة، فتارة يُبينها بنوع من الاستهزاء بالدين، وتارة يُظهرها بسخرية: أين وعد ربّ العالمين، ونبرات الخبث بأوتار حنجرته تسفر عن عداءٍ دفين للرسول|.

وكان الأئمة الهداة ـ أهل البيت ـ وهم في المدينة المنوّرة تأتيهم مثل هذه الأخبار، فيردون عليها مُبينين حقيقة عمرووأنّه لم يكن ابناً للعاص: كي يتفاخر بتكذيبه للقرآن مدّعياً أن نسل شانئ الرسول لم يبتر.

فعن الإمام الحسن المجتبى× ـ في حديثٍ طويل ـ قال : «امّا أنت يا عمرو بن العاص الشانئ اللعين الأبتر، فإنّما أنت كنت أول أمرك، أن أمّك لبغية، وإنّك ولدت على فراش مشترك، فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبو سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، وعثمان بن الحارث، والنضر بن الحارث بن كلدة، والعاص بن وائل، كلّهم يزعم إنّك ابنه، فغلبهم عليك من بين قريش الأمهم حسباً وأخبثهم منصباً وأعظمهم بغية، ثم قمت خطيباً، وقلت: أنا شانئ محمّد|، وقال العاص بن وائل: انّ محمّداً| رجل أبتر لا ولد له، فلو مات إنقطع ذكره. فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ﴾، وكانت أمّك تمشي إلى عبد قيس تطلب البغية تأتيهم في دورهم ورحالهم وبطون أوديتهم») (15).

مرّة أخرى ذمّه فقال×: «أنت كالكلب لا يحمد منه رأس ولا ذنب، قديُمك مذموم، وحديثك بالشرك موسوم، ولدت على فراش مشترك، واختصم فيك خمسة، فغلب عليك الأمهم نسباً وأخبثهم منصباً، وأنت للأبتر شانئ محمّد|، وأنت الراكب إلى النجاشي لانتقاص جعفر وتعريضه للتلف، وأنت الهاجئ رسول الله| سبعين بيتاً حتى قال|: اللهمّ العنه بكلّ بيت لعنة...» (16).

ليت تنعثلات عمرو ـ هذه ـ كانت في المدينة أو مكة أمام مسمع الهاشميين، ليلقموه حجراً، ويطعنوه خنجراً. وأنى له ومعاصريه وعارفيه (أصلاً ومولداً) لا يزال أغلبهم حي يرزق، فكيف يتسنى له أن يعتزّ بأنّه ابن شانئ الرسول| وهم يعلمون أنه ابن زنا حقير وابن كثير.

وأنّى له، يتفاخر بالشانئية أمام جمع المسلمين ولا يزال بعض أصحاب الرسول أحياء واُمناء، فهل سيسكتون عنه؟ انّه الشانئ والعدوّ اللدود للرسول، ومن قبله كان العاص الشانئ المبغض، وكل شانئ للرسول يحكم عليه بالقتل (شرعاً).

ولكن عمرو كالكلب العاوية الذي ينبح في بيت صاحبه ورفيقه بالهوى والهاوية معاوية.

وفي يوم ذهب عبد الله بن عباس إلى الشام، وكان عمرو عند معاوية فوقع بينهما هذا الحوار: (خاطب عبد الله بن عبّاس عمرو بن العاص قائلاً: أمّا والله يا عمرو اني لأبغضك في الله وما اعتذر منه، إنّك قمت خطيباً فقلت: أنا شانئ محمّد| فأنزل الله عزّ وجلّ ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ﴾، فأنت أبتر الدين والدنيا، وأنت شانئ محمد| في الجاهلية والإسلام، وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ، وقد حاددت الله ورسوله قديماً وحديثاً، ولقد جهدت على رسول الله جهدك وأجلبت عليه بخيلك ورجلك حتى إذا غلبك الله على أمرك وردّ كيدك في نحرك: وأوهن قوّتك وأكذب احدوثتك نزعت وأنت حسير، ثم كدت بجهدك لعداوة أهل بيت نبيه من بعده، ليس بك في ذلك حبّ معاوية، ولا آل معاوية إلّا العداوة لله عزّ وجلّ ولرسوله| مع بغضك وحسدك القديم لأبناء عبد مناف، ومثلك في ذلك كما قال الأوّل:

تعرّض لي عمرو وعمرو خزاية تعرض ضبع القفر للأسد الوردِ فما هو لي ندّ فأشتم عرضه ولا هو لي عبد فأبطش بالعبدِ فتكلّم عمرو بن العاص، فقطع عليه معاوية وقال: أما والله يا عمرو ما أنت من رجاله، فإن شئت فقل، وإن شئت فدع، فاغتنمها عمرو وسكت، فقال ابن عبّاس: دعه يا معاوية فو الله لأسمنّه بميسم يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة تتحدّث به الإماء والعبيد، ويتغنّى به في المجالس ويحدث به في المحافل.

ثم قال ابن عبّاس: يا عمرو: (وابتدأ في الكلام) ـ فمدّ معاوية يده فوضعها على فيّ ابن عبّاس ألا أمسكت وكره أن يسمع أهل الشام ما يقول ابن عبّاس.

وكان آخر كلامه: اخسأ أيها العبد وأنت مذموم فافترقوا (17).

فماذا يتوقّع من الهاشميين ـ لو كانت تزعبلات عمرو ـ في بلاد الهاشميين، وهو بعيد عمّن يحميه مثيله معاوية ويقيه؟ وماذا سيُفعل به؟!

ومن مكائد الأمويين، تهريجهم بتوهين النبي الأقدس| في أن الحسن والحسين ليسا ابناءه، لأنهما أولاد ابنته، وبزعمهم أن أولاد البنت لا يلحقون بأبي البنت أي الرسول|، وبذلك ليبارزوا الله ورسوله، وينفوا ما أثبته الرسول بأنهما ولداه.

قال|: «كل بني امّ ينتمون إلى عصبتهم إلّأ ولد فاطمة فأني أنا أبوهم وعصبتهم»، وقد تواتر عنه بأحاديث كثيرة وبأساليب متنوعة على أن الحسنين ابناي «الحسن والحسين ابناي، من أحبّهما أحبني»، وأنهما ريحانتي من الدنيا، وهذا حكم خاص بالنبي|، وقد أشار القرآن إلى أن النبي عيسى أنّه من ذرية النبي إبراهيم مع أن نسبته إليه عن طريق الأم (مريم) إذ لا اب له، قال تعالى: ﴿ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ ﴾، وقال عزّ وجلّ ـ عندما صحب الرسول الحسن والحسين معه في المباهلة: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا....

لكن الخطّة الأموية تحاول إضعاف الرسول ثم الانقضاض عليه وعلى الإسلام.

وذات مرّة كان عمرو يشيع مثل هذه النفاثات السامة فقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب× لرفيق عمور: «قُل للشانئ ابن الشانئ  لو لم يكونا (أي الحسن والحسين) ولديه (أي ولديّ الرسول) لكان أبتر كما زعمه أبوك» (18).

وحينما كان عمرو في مصر كرّر بغضه وشنئه للرسول، وفي يوم انتقص من الإمام علي×، فوجّه إليه الإمام الحسن× كتاباً جاء فيه:

(من الحسن بن علي× إلى عمرو بن العاص، أمّا بعد فقد بلغني أنك تقوم على منبر مصر... تنتقص علياً×، ولعمري لقد أوترت غير قوسك ورميت غير غرضك، وما أنت إلّا كمن يقدح في صفاة في بهيم أسود فركبت مركباً صعباً، وعلوت عقبة كؤدا، فكنت كالباحث عن المدية لحتفه يا ابن جزار قريش، ليس لك سهم لي أبيات سؤددها، ولا عآئد بأقنية مجدها، ولا بفالح قداحها، لا أحسبك تحضى بما تذكر قدرك الحقير ونسبك الدخيل، ونفسك الدنيئة الحقيرة التي آثرت الباطل على الحق، وقنعت بالشبع، والدني من الحطام الفاني، لقد مقتك الله فابشر بسخطه وأليم عذابه، وجزاء ما كسبت يداك، وما الله بظلام للعبيد) (19).

مبغض علي عليه السلام

جعل الله سبحانه وتعالى عليّاً ميزاناً ـ .

ميزان في الدنيا بين الحق والباطل، بين المؤمن والمنافق بين طاهر النطفة والنجس، وغيرها.

دوميزان يوم القيامة: قسيم الجنة والنار، الجواز على الصراط بولاية علي، وساقي محبيه بيده من حوض النبي (الكوثر) وغيرها.

أي محبه حقيقة: مؤمن مع الحق طاهر المولد، يدخل الجنة.

ومبغضه في الواقع: منافق مع الباطل غير طاهر النطفة، النار مثواه.

ولربّما تستر بإسم الغسلام وشهد الشهادتين، لكن الإيمان لم يدخل قلبه ﴿... قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ....

ومعناه: أن من الطبيعي من بغض علياً (نفس الرسول) فقد بغض الحق ورجاله، وكرهه كرهاً باطنياً، ولو توفّرت له الإمكانيات لحارب أهل الحق والحقيقة.

ولذا نجد كل من حارب علياً، أو بغضه، هو: ابن زنا، أو ابن نطفة غير طاهرة (حيضة)، أو اختلطت نطفته من مال حرام وكسب غير شرعي (وبحسب نسبة الاختلاط، تأتي نسبة البغض).

كما جاء في تفسير آية ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ﴾ أي مشاركة إبليس فيهما.

وهذا محسوس تاريخياً، وملموس ومشاهد حالياً، فيمن بغض عليّاً ـ وقد أثبتت باحصائيات ودلائل ـ 

ونستند:

أ ـ قول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيّ يوحى الرسول| «لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق، أو ولد زنيّة، أو حملته أمّه وهي طامث » (20) ـ والطمث هو: الحيض ـ 

وقال| لعلي× : «يا علي من أحبني وأحبك، وأحب الأئمة من ولدك فليحمد الله على طيب مولده، فإنّه لا يحبّنا إلّا من طابت ولادته، ولا يبغضنا إلّا من خبثت ولادته » (21)، ومقتضى الحديث: حب الجميع، لا بعض دون آخر.

وقد جعل الله علياً ـ رمز الولاية ـ ميزاناً لطيب الولادة وعدمها، كما جعله ميزاناً بين المؤمن والمنافق.

قال رسول الله|: «يا علي لا يحبك إلّأ مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» وقد روى القاضي أبو الحسن محمد بن أبي يعلى الحنبلي عن محمد بن منصور قال: كنّا عند أحمد بن حنبل (امام الحنابلة) فقال له رجل: يا أبا عبد الله ما تقول في هذا الحديث الذي يروي: أنّ عليّاً× قال: أنا قسيم النار؟ فقال: وما تنكرون من ذا؟! أليس روينا: أن النبيّ| قال لعلي «لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق»؟ قلنا بلى، قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنّة، قال: وأين المنافق؟ قلنا: في النار، قال: فعلي قسيم النار (22).

وهناك الأحاديث الجمّة المروية بطرق متعدّدة في كافة المذاهب، ما تشير إلى هذه الموازين في علي×.

فبغضهم^ يُدخل النار لا محال، وقد روي الحاكم باسناده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله|: «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلّا أدخله النار» (23).

ويستنتج أن طاعة علي ومحبته طاعة للرسول ومحبته وهي طاعة الله ومحبته وقد كذب من ادعى أنه عابد لله ولم يطع ويحب علياً، ويكفي ما رواه الكشفي الترمذي الحنفي وغيره: «قال النبي| حاكياص عن الله تعالى: من عرف حق علي زكي وطاب، ومن أذكر حقه لعن وخاب، أقسمت بعزّتي أن اُدخل النار من عصاه وأن أطاعني...» (24)، لأنه لا يمكن اطاعة الله إلّا بولاية علي للأدلة القرآنية الكثيرة والأحاديث النبوية المستفيضة.

ب ـ وجميل ما نقله المؤرخون (من أبناء العامة) من امتحان الأولاد بحبّ علي ليعرفوا نسبته إلىأبيه (زوج المرأة)، قال الصدّيقي: كنّا نبور (أي نختبر) أولادنا بحبّ علبي بن أبي طالب×، فإذا رأينا أحداً لا يحبّه علمنا أنّه ليس منّا وأنه لغير رشده (25).

وروى أبو محمد عثمان الحنفي عن الشافعي أنه قال: سمعت مالك بن أنس يقول: ما كنّا نعرف الرجل بغير أبيه إلّا يبغضه علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه (26)، وغيرهما من المؤرخين في نصوص متغايرة تعطي معنى واحد.

وهذا القانون الإجتماعي والمعيار الوراثي (من نقل الجينات والصفات) وغيرهما من موازين، جعله الله في علي ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ ....

فالمؤمن من يحبّ عليّاً مهما كلّف الأمر وآلت به الظروف، والمنافق لا يحبّه مهما القيت عليه من فضائل الإمام.

قال الإمام علي في نهج البلاغة: (... لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي ـ هذا ـ على أن يبغضني، ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني، وذلك أنه قُضى فانقضى على لسان النبي الأمي| أنّه قال: «يا علي لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق».. ) (27).

وبما أن علياً دائماً وأبداً مع الحق وفيه الحق ومنه الحق وله الحق، فنجد مبغضه يكره الحق ويحاربه.

قال رسول الله|: «علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» (28).

والنبي يوصي عمّار بن ياسر بقوله: «تقتلك الفئة الباغية وأنت مع الحق والحق معك يا عمار إذا رأيت علياً سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع علي ودع الناس فانّه لن يدخلك في أذى، ولن يخرجك من هدى» ـ وعمّار قتله معاوية وجيشه في صفين . (29)

والإمام علي× يمثّل أصل الكوثر وأساسه ومحورهن فمن صدق بهذه العطية (الكوثر) للرسول فقد صدق وأمن بعلي ومن ابغضه فقد أنكر الكوثر في كل معانيها (الدنيوية والاخروية) ونكران الكوثر ليس بالعداء المباشر للرسول والأئمة فحسب، بل كل من رضى بعمل من ظلمهم ـ ولو بعد دهور وانقضاء عهود وعصور ـ بل سكت عن عملهم، بل لم يظهر جرائمهم ويكتمها ـ ولو بأي ذريعة كانت ـ فهؤلاء جميعاً مشتركون بنكران كوثر الرسول وكوثر الإسلام، ويدخل ضمن رضاه بعملهم و«من رضي بعمل قوم فهو منهم».

 

الاعجاز عموماً

 

لنزول هذه السورة المباركة وقع عقائدي واجتماعي وتبليغي واعجازي وغيرها.

فالعاص بن وائل حينما شنئ الرسول بقولته، انتشر صداها في أوساط المشتركين، وازدادوا ربحاً في محاربة النبي وصحبه واضيف رقماً (أبتر) على الأرقام الاُخرى مثل: ساحر، مجنون، كذاب، كاهن، و... فلما اشتهرت هذه الدعاية (النبي أبتر) بين الناس (مبغضاً فيروّجها) و(محبّاً فيكتمها)، واصبحت أشبه بواقع يشاهده ويحسّه الجميع في موت أبناء الرسول.

فأراد الله تعالى أن يُبيّن للمجتمع وللأجيال فضل الزهراء (بنت الرسول)، قبل ولادتها كمقدّمة لمقدمها، لتستقبلا الاُمة الإسلامية عبر العصور.

تستقبل الكوثر المعطاء، وهذه البركة الكثيرة بوجودها لكل الأزمان، كخير وشفاء وشفاعة، وزاهرة لأهل الدنيا: حينما يُملءُ قلب المحب بنور الإمامة فيزهو بها‘. وزاهرة يوم القيامة: إذ تخرج لتلتقط شيعتها وتفطم محبيها من النار.

وفي الجنة: تُزهرها بابتسامتها ـ حين ترى محبيها فيها ـ فيشع زهوها نوراً وقاداً لأهل الجنة فيغمروا بنعيمه.

وإلى ما هنالك من البركات الملكوتية، والهبات الرحمانية للأمة المرحومة.

فجاءت هذه السورة (الكوثر) لتظهر عظمة العطية (فاطمة الزهراء‘).

 

للمسلمين أجمع

 

بما أن القرآن الكريم ـ كلّه ـ قانون ثابت يستفيد منه كل جيل، ولك الأزمان، ولكل مكان؛ فينبغي تفسيره بما يلائم كل عصر ومصر.

فلو قيل أن هناك آيات تخاطب الرسول|، فهي ـ أيضاً ـ تخاطب الجميع (كأمة مسلمة نزل القرآن لها).

ولو كانت مخصصة بالرسول بالذات لاكتفى الله تعالى ابلاغها له خاصة عن طريق الوحي ـ مثلاً ـ من دون تنزيلها في القرآن كدستور لكل العصور.

رغم أن بعض الآيات تبين فضل الرسول، فهي بالحقيقة لنا كي نتخذ الرسول ـ بفخر ـ قدوة واسوة ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، وكذا نستفيد منها لأمور أخرى ـ أيضا ً ـ 

 

رؤى اجتماعية

 

﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ ﴿انّا﴾ الربوبية المطلقة ﴿ أَعْطَيْنَاكَ ﴾ أيها الإنسان ﴿ الْكَوْثَرَ ﴾ الخير الكثير، من بدن وتركيبه العجيب (من عين ودم و..) ، ومن نفس ومكوناتها الدقيقة، ومن روح الذي لا يعرف وصفه إلّا هو، وسخّر لنا كل شيء من شمس وهواء وتراب وحيوان ونبات و... وفضلنا على كل المخلوقات واكرمنا ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ وغيرها من النعم التي لا تحصى ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾.

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾.

فصل أيها الإنسان صلاة الشكر، وواصل شكرك لله بالقول واردفعه بالعمل الصالح، وخير الأعمال الصلاة واتبعها بعمل دؤوب ولتكن كل أعمالك خالصة لله (فصل لربك) للذي ربّاك فهو ربك فصل له وحده لا شريك له، أزل كل شائبة تقف دون الوحدانية الحقيقية، وتحول بينك وبين ربك، فإنّ الله يغار أن يشرك معه شيء آخر فلا رياء لأحد ولا حياء من أحد على حساب النيّة الخالصة لله ربك بلّغ لله ولا تخشى أحداً ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ﴾. ادعو لله ولا تخف أي لائم، تقدّم للعمل بكل جرأة ولو كان فيه نحر رقبتك واعطاء دمك فلابد لك من تواصل العمل لربّك ولو آل الأمر للشهادة في سبيله ونحر نفسك في ساحة العمل والكدح والكفاح والجهد والجهاد، كما تُنحر الإبل في ساحة المسلخ.

وهذا النحر مقابل عطية الله لك، ومع ذلك فإن الله اشترى نفسك ونحرك بمبلغ ثمين وكبير (فنفسك تنحر مقابل الجنّة وما فيها) ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ ﴾.

والنحر هذا ولو بأتعاب بدنك وإرهاق نفسك بالأعمال الصالحة، بل اعطي كل شيء لله، لأنّ الله أعطاك كل شيء، وافضل عطية هي نفسك

(ويشار غلى الإنسان الكامل بالرقبة ـ النحر ـ كما في ﴿فك رقبة﴾ أي إنسان).

﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ﴾.

إنك حينما تكون لله خالصاً مخلصاً في جهادك في عملك في عطائك وفي أخلاقك وفي تبليغك دينك، فسوف يعينك الله ما دمت معه، وسوف ينصرك ربّك نصراً عزيزاً ويجعل كيد عدوّك أبتر، ويثبت أقدامك في ساحات الجهاد، أو العمل التبليغي، أو التحدّي لأجل دينك، فإنّ عدوّك مهزوم لا محال ومبتور مقابل جهدك وجهادك ومناصرتك لدين الله ﴿ إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾.

إنك حينما تنطق بكلمة واحدة ترجوالله بها فسوف يعلو نتاجها ويثمر عطائك، بينما عدوك ينطق آلاف الكلمات وتصرخ اذاعاته فانّها سوف تتبعثر وتذهب هباءً منثوراً كالريح.

وهذا ما لمسناه في المبلّغين لله وفي سبيل الله في بعض الدول بعملهم المنفرد ولوحده مع قلّة المال والناصر، وبمقابلهم يقف مئات المبشّرين (النصارى) والدعاة (الوهابيين) ومغرياتهم المالية والمادية وكثرة عددهم، لكن المبلّغ المؤمن الرسالي يغلبهم ويثمر عمله لأنّه لله وما كان لله ينمو ويزكو، ويستهوي قلوب الناس لأنّه ﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾، ووحدته ما زادته إلّا اصراراً وتثبيتاً ﴿ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ إذ أسلم نفسه قرباناً ولو نحر الله مقابل عطية الله المستفيضة له، وبوفائه هذا سوف يوفيه الله في الآخرة حتى يرضى ﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى﴾ ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾.

سبحانك اللهمّ ربي الرحمن الرحيم.

 

رؤى روحية

 

﴿إنّا﴾ الله الخالق ﴿أعطيناك﴾ أيها العبد ﴿الكوثر﴾ كوثر القرب منّي ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ فصل على الدوام وبلا انقطاع لأني ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ ﴾ لربك خالصاً، وكن دائماً من الشاكرين لله على نعمائه الكوثرية ﴿أن أشكر لي﴾ وإيّاك، أن تغفل عن شكر الله فهو يعتبر من الكفر بالنعم ﴿ومن كفر لنفسه﴾، وما دمت تشكر فإنّ النعم تفاض عليك وتكن كوثراً ﴿ولئن شكرتم لأزيدنّكم﴾.

ولا ينبغي له الشكر والعبادة إلّا عند لمس الخير وما هو فيه كلّه خير وهو لا يدري فيكون مذبذب في عبادته وشكره ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ﴾ فلا إلى العابدين ولا غلى التاركين، أو تكون عبادته قليلة ﴿ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ وما ذلك إلّا من دافع الشيطان ليترك الإنسان ذكر ربّه، واتعب نفسك وانحرها في سبيل الله ربك مقابل الكوثر التي أعطيناكها، فانك تغلب الشيطان ﴿ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ فإن كنت دائماً تواصل عبادة الله فإن شيطانك سيبتر وما هو عليك بمسيطر ﴿ أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ... إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ ﴾ ان غاويك وان محرّضك على عمل الباطل، ولو قد زينه لك ليريكه حسنا وأنت تعلم ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ﴾ و ﴿... زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾.

فأنه سوف يضمحل ويتقهقر مقابل نحرك نفسك بتركك المغريات والمتزينات وقد علمت ﴿ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾.

وأحببت ربك في كل شيء فلا تحب شيئاً مقابل حب الله ورضاه وقد عرفت ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ كلّها من ترغيبات الشيطان فنحرت نفسك بتركها لأجل حبّ الله، وبذلك فإن شانئك الشيطان وحيله هي مبتورة ﴿ان شانئك هو الأبتر﴾.

وفي هذا الصراع الداخلي والخارجي بينك وبين إبليس الذي لم يسجد لك سوف ينصرك الله عليه بعدم سجودك لابليس، ويعينك ويساعدك في هذه المعركة الضارية والمصيرية التي تلازم حياة الإنسان في كل مراحل مسيرته حتى المحطة النهائية في أنفاسه الأخيرة.

 

رؤى عرفانية

 

﴿انّا﴾ الحق الذي تهوى إلي قلوب العارفين وانا الكهف الذي يلوذ به المحصنون ﴿أعطيناك﴾ أيّها العابد العارف بحق العبودية ﴿الكوثر﴾ في لذة العبادة ﴿ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ وكوثر راحة الروح واطمئنان النفس واستقرار الذهن واستقامة البدن. الكوثر والنعم التي لا تحصى من لسان تذكر به ربك وتسبّح بحمده ومنحك الجوارح الكاملة كي تمشي إلى الله ووهبك الفؤاد لتعي حقيقة عبادة الله، وقلباً لتطمئن بذكر الله ﴿ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ وجعله حرمه الخاص ليسكن فيه ربك وحده لا يشترك معه فيه أحد. ويستنير بنور الله، ويداً تساعد بها عباد الله بالبرّ والتقوى، وجميع ما في بدنك هبة لله لأنّه هو أعطاكه ووهبه لك، وتمنحه لله لأنه منحك إيّاه، وتسخّره له لأنّه سخّره لك.

﴿فصل لربِّك﴾ وتتوجه إلى الله بكل كيانك وبكافة أحاسيسك إلىالذي ربّاك فأحسن تربيةً، فنظرك إلى الله وحده وتنظر كل ما في الكون هو لربّك لترى الله قبل كل شيء وترى الله في كل شيء وترى الله بعد كل شيء وترى الله مع كل شيء، أحبب كل شيء حبّاً لله، لأنّه انعكاسة لله، وهي مخلوقات الله جل جلاله، وأن الله أحب كل شيء ـ من إنسان وحيوان وجماد ـ ولذلك خلقهم، فهو سبحانه وجه للأشياء، والأشياء وجه لله، فلا حب إلّا حبّه.

فصل بالاتصال إلى الله مصدر القوّة والقدرة، مصدر المعرفة والعطية لتصل إلى الملكوت الرحمانية والألطاف الرحيمية، صلّ لربّك الذي أولاك بالتربية وأنت في عالم الأزل وعالم الذرّ ثم وأنت في عالم الروح، الذي ربّاك وانت جنين ثم صغير وها أنت كبير وفي كل المراحل من (ألستية) وقبولها غلى عالم (اللاهوت) والخضوع له وهو يربيك ويرعاك ويتفضّل عليك بالفيوضات ومن بعد عالم الحياة إلى عالم الفناء الدنيوي بعوالم العروج ليفنى كل (الأنا) و(الغير) واللذة والحس ليفنى كل وجود ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ ويندك بوجوده سبحانه ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ﴾. صلِّ لربك بالدعاء بخشوع، وبالتضرّع بخضوع، والتبتل مقطوع، لتزول عنك الحجب الظلمائية القاتمة، ولتُكشف لك الحجب النورانية المشرقة، ولسفرك إلى الحق تعالى جواز هو: ﴿انحر﴾ انحر كل شيء لربّ الأشياء، أنّها نحيرة للبقاء وهي نحيرة للرجوع من الفناء إلى البقاء ﴿انا لله وإنّا إليه راجعون﴾ انها نحيرة السُلّم لتسلم عند السمو والصعود إلى المعبود وترقي الرقي في المقامات بقدسيته، والتدرّج في المدرج الإلهي، وانحر في التنقل بالأحوال (من حال إلى حال) في كنفه تعالى بالانات (من آن إلى آن).

والانغماس في غمرات أسمائه الحسنى (يبحر من إسم حسن إلى غسم حسن بنحر).

انحر عمرك كلّه بالأحدية في سبيل الله وكسب مرضاته، اتعب جوارحك واذبحها في سبوح الساحة اللامتناهية، فإذا نحرت سوف ينتحر عدوّك القرين الشيطان ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، وسوف تضمحل عدوتك النفس الأمارة بالسوء ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ فان لآهيّك عن ذكر ربك يبتر ﴿ان شانئك هو الأبتر﴾، أنه أبتر باغوائك، أبتر عن غفلتك وانشغالك بالدنيا الدنيئة، أنه هو الهزوم أمام اصرارك والتزامك ومواصلتك.

 

رؤى حسيّة

 

﴿انّا اعطيناك﴾ يا رسول الله وأعطينا اُمّتك ﴿الكوثر﴾فاطمة ففيها النعم كلّها، فيها انس الدنيا «فاطمة أمّ أبيها» والرسول أب اُمّته المؤمنة «يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمّة» ففاطمة أُمّ للاُمّة  بل أم أب الاُمّة، فيها رائحة الجنة «...فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة» (30).

ومنها أولادك المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس «... ولد فاطمة فاني أنا أبوهم وعصبتهم» (31).

وفيها صورة سور القرآن فهي كل القرآن ومن جلال وجهها يترسم جلال الله فيه والنور الإلهي «انّه| إذا أراد السفر كان آخر عهده بفاطمة، وإذا رجع كان أوّل عهده بها» (32)، أعطيناك فاطمة فهي الشفاعة كلّها ومنها وفيها «... جعل الله مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمّة أبيها...» (33)، وهي الكثرة (بصيغتها المبالغية حسب تعبير القرآن).

ولا يمكن سرد شيئاً عنها فهي سرّ الأسرار وكفى.

﴿فصلِّ﴾ يا رسول الله صلاة الشكر ﴿لربِّك﴾ الذي ربّاك وأدبك «أدبني ربي فأحسن تأديبي» واشكره عمليا على هذه النعم السابغة، نعم الدنيا ونعم الآخرة ﴿انحر﴾ يا رسول الله الحسين ولدك على عرصات كربلاء لأجل بقاء الدين وديمومة الكوثر المعطاء، انحر ما ياتي من هذه الكوثر فالحسين جاء منها، انحر يا رسول الله ـ لهذه العطية الكبيرة ـ انحر علي بن أبي طالب في محراب مصلّاه في بيت الله لأجل العقيدة والذي هو نفسك ﴿وأنفسنا﴾ «علي نفسي وأنا نفسه»  (34)، انحر نفس العطية (الكوثر) (فقد كانت شهادة فاطمة لأجل الامامة وتثبيت أركان الإسلام) انحر المعصومين جميعاً ولدك من الكوثر (فما منهم إلّا مقتول بالسيف أو بالسم).

انحر شيعتك في مشارق الأرض ومغاربها (وها  هم الأولياء ينحرون بين الفيء والآخر لأجل دينهم ولأجل ولائهم الصادق للرسول). أترضى يا رسول الله أن تنحرهم جميعاً مقابل هذه العطية الغالية ... أجل يا رب أرضى واُصلّي صلاة الشكر على النعمة فأنا لك من الشاكرين، وانحرهم أجمعين، فأنت يا رب وهبت لي ولهم الحياة وقد وهبناها إليك فتقبلها يا رب فهي بضاعتك رُدت إليك وبفضلك يا رب قبلتها بقبول حسن، واشتريتها، إذ بلطفك ورحمتك جعلتنا نحن البائعون ـ ما لا نملك ـ وأنت المشتري، خذ يا رب حتى ترضى.

فما دمت قبلت يا رسولي فأن أعدائكم وشانيكم مبتورين ﴿ان شانئك هو الأبتر﴾، أن العدو في الدارين (الدنيا والآخرة) خاسر لأنّه شانئك فما كان من الجهة المعنوية فهو: مدحور مبتور. فها هو دينك منتشر بلا انقطاع ﴿ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ﴾، وها هو نسلك المؤمنون متكاثرون ويتكاثرون ويملؤون البقاع وهم يبلّغون رسالات ربّهم بالعشي والأبكار.

ومن الناحية المادية: فسأمهلهم قليلاً ليبقوا في غيّهم وضلالهم يعمهون ﴿ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ﴿ومهلهم قليلاً﴾.

ثم يأتي ولدك المهدي «المهدي من ولد فاطمة» (35) و «... لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي...» (36) وسيأخذ ثأري فهو (ثأر الله) ﴿انّه كان منصوراً﴾ حتى ممن مات وأصبح رميماً فسأحييهم والرجعة موعدهم في الدنيا ﴿امتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا﴾ والمحاكمة العادلة تنتظرهم، والعقوبة بالقصاص مصيرهم، ليظهر دينك على الدنيا كلّها ولو كره المبتورون، وخصوصاً ممّن ظلم وآذى الزهراء، أو من رضي بفعلهم، أو سكت عن ذكر ظلمهم...، وأمّا في الآخرة فسوف أصليهم الجحيم بعد محاكمة أمام الملأ، وسأُنزل بهم أشد عقاب بما عتوا في الأرض فساداً، والعاقبة الحسنى للمتقين من اتبعك باحسان واتخذ الكوثر بصلاة الشكر الحقيقي بالنحر*.

 

الكوثرية

 

المطاف الأخير وليس الطواف الأخير حول سورة الكوثر هو : ان الموالين والمحبين مشمولين تحت مظلّة الكوثر، فهم من الكوثر التي أعطاها الله لرسوله|.

وهؤلاء الموالون لا يبتعدون عن ولاية الإمام علي بن أبي طالب× مهما كلّفهم ذلك حتى لو عذّبوا واُبعدوا وشرّدوا وضيّق بهم وعليهم العيش، بل حتى لو نحروا، فغنّ الصلاة للربّ عندهم تعني اطاعة الله عز  وجل في اتخاذ عليّاً وليّاً ﴿ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة وهم راكعون﴾ وعندئذ يكون الدين كاملاً ببيعة علي، وإتمام النعمة الكوثرية ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ ﴿ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون﴾.

ولذا عندنا لا يجوز ـ شرعاً ـ البراءة من علي بأي حال من الأحوال ولأي ظرف من الظروف، ولو تقطع بالمناشير وتثرّم بالسكاكين، ومهما كانت الضغوط النفسية والمعنوية والعائلية فهو لا يتخلّى ولا يتبرّأ من ولاية علي. فنحن مأمورون بالنحر دونها، ومن هنا يوجد تفسير ورد عن الرسول| في ﴿انّا أعطيناك الكوثر﴾ هي: ولاية علي بن أبي طالب×.

ومعناه ان من استلم هذه العطية فعليه صلاة الشكر اللساني والشكر العملي بالالتزام بسيرة الإمام علي× والتحمّل ولو نحر. فإن أعداءه مبتورون مهما تفرعنوا وتجمهروا ، ويكون من مصدقين الرسول| في قوله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (38).

روى الحنفي في ينابيعه عن ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة أن رسول الله قال: «يا علي ان الله قد غفر لك ولذريتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك ولمحبي شيعتك فابشر...، وأنت وشيعتك تردون عليَّ الحوض رواء مرويين مبيضّة وجوهكم، وإن عدوّك يردون عليّ الحوض ضماءً مقمحين» (39).

أعاذنا الله من أن نكون غير طائعين الرسول وعاصيه في ترك ولاية علي ﴿فان عصوك فقل اني برئ ممّا تعملون﴾ ولا نكون من شانئ الرسول المبتورين الذين يتّبعون الذين ﴿نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهو عنه ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصية الرسول﴾ رزقنا الله التمسك بهدي الرسول ومسلك علي وشفاعة الكوثر الزهراء ﴿فمن تبعني فانّه مني﴾.

 

الخلاصة

 

الكوثر: عطاء في عالم الذر حيث إضفاء النور على المحبيّن. وفي عالم الأرواح حيث اصفاء على الموالين، وفي عالم الدنيا حيث اعطاء البركة على الشيعة التابعين، وفي عالم المحشر حيث الشفاعة والنجاة ممّن تفطمهم أجمعين، وفي الجنّة حيث الاكرام والضيافة عند المعصومين.

فالكوثر بقاء وعطاء غير مجذوذ ولا محدود، وهو كوثر متنامي غير متناهي.

ملاحظة:

أ ـ لم نذكر أرقام الآيات والسور.

ب ـ مصادر الأحاديث ، حاولنا جادين أن تكون من مصادر أبناء العامة ـ السنّة ـ لتكون أبلغ في التبليغ.

الهوامش

1 ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال/ الصدوق.

2 ـ سعادة الدارين/ النهباني.

3 ـ اعلام الدين/ الديلمي، باسناده عن أبي أيوب الأنصاري.

4 ـ الطبري عن عائشة.

5 ـ الطبري عن ابن عمر.

6 ـ الدر المنثور عن أنس.

7 ـ أسباب النزول/ الواحدي.

8 ـ الفصول المهمّة/ ابن صبّاغ المالكي وذكره كثيرون منهم الصفوري في نزهة المجالس، والسيوطي في الجامع الصغير، النهباني في الفتح الكبير وغيرهم العديد.

9 ـ الروضة الندية/ مصطفى رشيد الدمشقي غيره الكثير ومنهم ذكره ضمن حديث طويل يشيد بفضلها عند الله ورسوله.

10 ـ كنز العمال/ المتقي الهندي، وغيره، وهناك أحاديث جمّة مختلف في التعبير وتتوحّد في المضمون.

11 ـ مسند الإمام زيد، وغيره من المصادر والتي تتضمن المعنى كما ورد في أمالي الصدوق ومصادر أخرى.

12 ـ المعجم الكبير/ الطبراني وتاريخ ابن عساكر، وغيرهما.

13 ـ المعجم الكبير / الطبراني، وما يشبهها من روايات في كتب السيرة المختلفة.

14 ـ المعجم الكبير/ الطبراني، وغيره.

15 ـ الاحتجاج/ الطبرسي.

16 ـ الملاحم والفتن/ ابن طاووس.

17 ـ الخصال.

18 ـ شرح  نهج البلاغة / ابن أبي الحديد المعتزلي.

19 ـ الملاحم والفتن/ ابن طاووس عن عواثة.

20 ـ علل الشرايع/ الصدوق في حديث طويل مسند إلى جابر عن أبي أيوب الأنصاري.

21 ـ آمالي الشيخ الصدوق.

22 ـ طبقات الحنابلة/ ابن أب ييعلى الحنبلي.

23 ـ المستدرك / الحاكم النيشابوري ، والذهبي في تاريخ الإسلام، والسيوطي في الخصائص الكبرى، وابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة وغيرها الكثير بما يزيد على 200 مصدر.

24 ـ المناقب المرتضوية/ الترمذي الحنفي، والخطيب الخوارزمي في المناقب، وغيرهما.

25 ـ النهاية/ ابن أثير، والزبيدي في تاج العروس، والهروي في الأربعين وغيرهم.

26 ـ الفرق المفترقة/ عثمان العراقي الحنفي.

27 ـ نهج البلاغة.

28 ـ فرائد السمطين/ إبراهيم الشافعي، وما يقاربه في المضمون نقله الطبراني في الأوسط، والهيثمي في الصواعق المحرقة، وذكر في كتاب غاية المرام وفضائل الصاحبة وغيرهم بما يزيد عن حدّ التواتر.

29 ـ المناقب/ الخوارزمي ، وغيره من كتب الحديث.

30 ـ أمالي الصدوق وما يشابهه في المضمون وأكثر تفصيلاً بالتفضيل، ذكره العديد من المحدّثين من أبناء العامة منهم الطبري في ذخائر العقبى، الذهبي في ميزان الاعتدال، العسقلاني في لسان الميزان، النيشابوري في المستدرك وغيرهم.

31 ـ ذخائر العقبى/ المحبّ الطبراني، وغيره، وأمّا ما جاء لفظه: «ان الله جعل ذريّة كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب علي بن ابي طالب» فقد رواه الكثير من المحدّثين منهم: المناوي في فيض الغدير، والرزقاني في شرح المواهب، والخطيب في تاريخ بغداد، والهيثمي في مجمع الزوائد وغيرهم العديد.

32 ـ السنن الكبرى/ البيهقي، وما ذكرناه بشكل مقتضب والحديث أكثر تفصيلاً وقد ذكره جمع غفير من أصحاب المصنّفات منها: الرزندي في نظم درر السمطين، والصبان في اسعاب الراغبين، وابن المؤذن في الأربعين، وأبو السعادات في فضائل العشرة، وأحمد بن حنبل في مسنده، والخطابي في معالم العترة وغيرهم.

33 ـ تجهيز الجيش / الدهلوي، وأخبار الدول وآثار الأول/ الدمشقي وغيرهما.

34 ـ رواه المحدّثون بعدّة طرق عن الرسول|، وفي أنّه أخوه ووصيّه وخليفته ومنه وغيرها من العبائر بما زينة بها كتب الحديث وكتب السيرة منها كفاية الطالب، ومناقب ابن مردويه، وحلية الأولياء، الوسيلة، الفردوس.

35 ـ التاريخ الكبير/ البخارى، وتاريخ الرقة/ القشيري، والمقاصد الحسنة / السخاوي وتذكرة الحفاظ/ الذهبي، والسيرة الحلبية/ ابن برهان الحلبي، والسنن/ السجستاني وغيرهم.

36 ـ الحديث طويل أخذنا مورد الشاهد منه وهو مروي عن ابن عبّاس عن النبي| ذكر في كتب فرائد السمطين والينابيع ومودة القربى وغيرها.

37 ـ الصواعق المحرقة/ ابن حجر الهيثمي، والحنفي في الينابيع ، وغيرهما.

38 ـ انظر موسوعة الغدير للشيخ الأميني وكم فيها من مصادر التي ملئت الآفاق والتي تروي بيعة الأمير علي بن أبي طالب بأمر الرسول من الله تعالى يوم غدير خم عندما رجع الرسول من حجّة الوداع.