akdak

المقالات

قسم القرآن الكريم

الطريق إلى فهم القرآن

145

عبد الله اسكندر المالكي

لا يستطيع الصحابة معرفة جميع أسرار القرآن الكريم في المرحلة العصيبة التي نزل بها إلا بالقدر اليسير الذي يفرضه الواقع آنذاك، ولذلك فإن النبي (ص) لا يمكنه تبيان الجزء الأكبر من التفسير باستثناء آيات الأحكام التي يحتاجها الناس وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به... إن علينا جمعه وقرآنه... فإذا قرأناه فاتبع قرآنه... ثم إن علينا بيانه) القيامة 16- 19.

وهذا يعني أن الوقت الذي نزل فيه القرآن الكريم لم يكن وقت بيان إلا أن هذا لا يمنع الصحابة من فهم المراد بواسطة الأدوات المتوفرة لديهم وإن كانت على بساطتها، أما ما نُقل عن عبدالله بن مسعود من أنهم يقومون بدراسة وتفسير بعض الآيات النازلة ثم ينتقلون إلى غيرها فهذا ليس من الصحة في شيء، وقد بين رسول الله بعض الأحكام التي تهم الحياة العامة آنذاك دون الخوض بالتفاصيل التي لا يدركها الصحابة، وقد وردت روايات صحيحة تثبت هذه الحقيقة، فمما روي عن عمر بن الخطاب إنه كان على المنبر فقرأ: (أو يأخذهم على تخوف) النحل 47. ثم سأل عن معنى التخوف فقال له رجل من هذيل التخوف عندنا بمعنى التنقص ثم أنشده:

تخوف الرحل منها تامكاً قرداً... كما تخوف عود النبعة السفن

ومما أخرجه أبو عبيدة عن طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما "فاطر السماوات" حتى أتاني اعرابيان يتخاصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها والآخر يقول أنا ابتدأتها. وقد قال الذهبي في التفسير والمفسرون: يفهم أصحاب النبي القرآن في جملته أي بالنسبة لظاهره وأحكامه أما فهمه تفصيلاً ومعرفة دقائق باطنه بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن بل لا بد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبي (ص) فيما يشكل عليهم فهمه وذلك لأن القرآن فيه المجمل والمشكل والمتشابه وغير ذلك مما لا بد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها، ويضيف الذهبي: ولا أظن أن الحق مع ابن خلدون حيث يقول في مقدمته إن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه نعم لا أظن الحق معه في ذلك لأن نزول القرآن بلغة العرب لا يقتضي أن العرب كلهم كانوا يفهمونه في مفرداته وتراكيبه وأقرب دليل على هذا ما نشاهده اليوم من الكتب المؤلفة على اختلاف لغاتها وعجز كثير من أبناء هذه اللغات عن فهم كثير مما جاء فيها بلغتهم إذ الفهم لا يتوقف على معرفة اللغة وحدها، بل لا بد لمن يفتش عن المعاني ويبحث عنها من أن تكون له موهبة عقلية خاصة تتناسب مع درجة الكتاب وقوة تأليفه. انتهى.

من هنا نفهم أن الطرق التي اتبعها الصحابة في التفسير بعد النبي (ص) تتمثل في فهمهم البسيط للأحاديث وتطبيق البعض منها على أسباب نزول الآيات وما أخذوه من أهل الكتاب وما يفتح لهم عن طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله. علماً أن ما نقل عن النبي لم يتناول جميع آيات القرآن الكريم وإنما تناول البعض منها الذي يشكل عليهم الوصول إلى فهمه بأساليبهم البدائية لذلك فإن هذا الإشكال يأخذ بالازدياد كلما بعد الناس عن عصر التنزيل أي إن الذي أشكل على التابعين كان يفوق ما أشكل على الصحابة لذلك احتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى اتخاذ طرق أحدث لفهم المراد من المقاصد القرآنية ولهذا فإنهم أحدثوا زيادة المقدار المتوفر لديهم من الروايات والإسرائيليات حتى اختلط الغث بالسمين، ثم جاء عصر التدوين في أواخر عهد بني أمية وأول عهد العباسيين، وأنت خبير من أن هذه الفترة قد أجبرت الكثير من المفسرين على أن يحصلوا على رضا الحكام وبالتالي أخذ التفسير يفرض على الضعاف منهم فرضاً، وحسب المتطلبات الآنية.

ثم توالت الفترات التي هي أكثر اهتماماً في تفسير القرآن الكريم وأخذ المفسرون يشرعون في تفسير كتاب الله تعالى كل حسب توجهه واطلاعه وقد عد الزمخشري مايقارب خمسة عشر علماً لمن أراد الخوض في كتاب الله تعالى ولما كان من الصعب الإلمام بجميع هذه العلوم التي هي عسيرة على الزمخشري نفسه، كان لا بد أن يتجه كل مفسر إلى تفسير القرآن الكريم حسب ما يملكه من أدوات لذلك فقد نجد أن كتب التفسير أخذت هذا الاتجاه أي إن كل مفسر يضع ما لديه من اختصاص في تفسيره حتى يكاد المتلقي يذهب بظنه أن القرآن نزل لغرض واحد ليس إلا.

فحين اطلاعنا على تفسير الثعلبي نرى ميوله القصصية قد طغت على جميع التفاصيل التي اعتمدها لبيان الآيات، وكذلك الحال في علم البلاغة التي كان الزمخشري يميل إليها حتى أصبح الكشاف من المراجع المهمة لأهل البلاغة حتى يومنا هذا، أما عند اطلاعنا على التفسير الكبير أو (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي فقد نجد أن علم الكلام وتفاصيل النظريات الفلسفية وأقوال المحققين قد أخذ منه الاهتمام الأكبر وكأن التفسير قد نال آخر الدرجات في تفرعاته وردوده على المخالفين إلى عقيدته ومناقشة آراءهم، حتى ذكر أبو حيان في البحر المحيط نقلاً عن أحد العلماء قوله إن تفسير الفخر الرازي فيه كل شيء إلا التفسير. ومنهم من أخذ الجانب الفقهي كالقرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" ومنهم من جمع بين هذا وذاك وخرج بتفسير فيه نوع من الشمولية كما هو الحال في مجمع البيان للطبرسي الذي جمع بين اللغة والرواية وكذلك الحال مع تفسير جامع البيان للطبري، وفتح القدير للشوكاني، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير.

وقد اختصرت بحثي في هذا المقال على مطولات التفسير دون ذكر كتب أخرى ربما لا تقل أهمية عن المطولات كالميزان للطباطبائي والبحر المحيط لأبي حيان وما إلى ذلك من كتب التفسير التي لها أهمية كبيرة في مختلف العصور. إلا أن المطولات تبقى هي الأصل والمرجع لجميع المفسرين وعلى اختلاف اتجاهاتهم حتى يومنا هذا فلا يستطيع المفسر أن يخوض في هذا العلم إلا أن يكون للمطولات النصيب الأكبر فيما يذهب إليه، وقد تتفاوت أهميتها وأفضليتها حسب الميول والطباع التي يتصف بها المتلقي، فمنهم من يرى أن الكشاف هو الأفضل ومنهم من يجد نفسه في التفسير الكبير وهكذا.

وهناك نوع من المتعصبين الذين يجعلون أبناء الفرق التي ينتمون إليها فوق كل اعتبار وهؤلاء نترفع عن الحديث عنهم. ومع كل هذه الاتجاهات إلا أن الأفضل والأمثل والأرقى والأجود في التفسير هو القرآن الكريم نفسه، كما قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناَ لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل 89. ولما كان فيه تبيان كل شيء فهل من المعقول أن لا يبين ما فيه من أسرار تصعب على المفسرين أنفسهم ولأجل التقريب فإن النسّابة العارف بأنساب القبائل أليس الأولى به أن يعرف نسب قبيلته أكثر من غيرها وإن كان في المثال قياس مع الفارق.

من هنا يظهر أن أفضل الطرق لفهم غوامض القرآن الكريم تتمثل في الرجوع إليه ودراسة أسراره والتفريق بين محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، لأن ما أجمل منه في موضع فصل في موضع آخر وما قيد في موضع أطلق في موضع آخر وهكذا.

فمن أراد الهدى فلا يحصل عليه إلا عن طريق كتاب الله. كما قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) البقرة 185. وهذه الآية الكريمة تبين أن في القرآن الكريم هدى لكل الناس ويتفرع على ذلك الهدى بينات من الهدى والفرقان، وهذا ليس تكراراً للهدى وإنما الأول فيه عموم وشمولية لكل الناس، أما الهدى الثاني فهو الذي يمد العلماء بالبينات لمعرفة أسراره، لذلك قال تعالى: (وبينات من الهدى والفرقان) و (من) ليست للتبعيض وإنما لابتداء الغاية، أي: إنهم على مساس وملاصقة تامة للهدى. وهذا نظير قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) يس 9. وكان بالإمكان الاستغناء عن (من) ويكون التقدير: "وجعلنا بين أيديهم سداً وخلفهم سداً" وبهذه الحالة يستقيم الكلام إلا أن دخول (من) أفادت ملاصقة السد وقربه المتناهي لهم فتأمل.