akdak

المقالات

القسم الاجتماعي

الانفاق والحياة الطوبى

302

---------

الانفاق والحياة الطوبى

 

أن يترك الانسان الانفاق فتلك مصيبة، وأن يعتاد عليه فذلك عمل صعب، إذ ليس من السهل على أحد منّا تجاوز شحّ نفسه أو ينتصر على البخل الذي يمثل صفةً أساسية فيه؛ إنه ليس من السهل أن يناقض الانسان ذاته.

 

إن الناس كثيراً ما ينشغلون بأعدائهم، بل وبمنافسيهم، وقد يعتبر البعض أصدقاءهم أعداءً، ولكن المشكلة؛ كل المشكلة أن أعدى أعداء الانسان ليس هذا الذي يحسبه عدواً، ولا ذاك الذي يعتبره منافساً، وإنما أعدى أعدائه هو نفسه التي بين جنبيه. فهذا العدو يتميز بالفطنة والمكر والاختباء والتلون، ولا يمكن كشفه ببساطة ويسر؛ إنه يجري في الانسان مجرى الدم من العروق، فكيف له الانتصار عليه؟

 

وعلى هذا الأساس؛ كان أشجع الناس من غلب هواه، وإنها لعمري شجاعة بالغة وبطولة عظمى وانتصار كبير يسجله المرء إذا ما تمكن من التغلب على هواه وكبح جماحه، لأنه قد انتصر نصفه على نصفه الآخر.

 

وهنا تكمن المشكلة الكبرى، إذ أن مما يتحسس منه ابن آدم ويصعب عليه أن يتجاوزه، أنه قد جبل على التخوّف من المستقبل والموت والزوال، فتراه يتشبّث بهذه الحياة الزائلة، حيث يريد لنفسه كل شيء، لعل هذا الزائل يمنحه البقاء. وكان من طبيعة الانسان أنه كلما تقادم به العمر، كلما ترسخت فيه صفة البخل والحرص والطمع وحب الدنيا بصورة عامة؛ فهو يبني القصور ويضع اللبنة على الأخرى ويشتري العقارات لعله يخلد فيها، ولعل بقاء أبراجه الضخمة تكون سبباً في بقائه يوماً آخر أو سنة أخرى.

 

هذا هو إحساس الانسان، فكيف يمكن تجاوزه؟ بل كيف يمكنه التحرر من قيود الماديات؟

 

وقبل كل شيء لابد من التنبه أن القرآن الكريم وفي معرض اجابته على هذا التساؤل، حيث يحدثنا عن أولئك الرجال الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، إنما يستفيد من صيغة المجهول، إذ يقول: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ...» (الحشر/9) نظراً الى أن الانسان- وفق القانون القرآني الأصيل هذا لا يستطيع أن يقي شحَّ نفسه بنفسه أو يصونها دون البخل والحرص والطمع، بل هو بحاجة ماسّة الى من يأخذ بيده فيحفظه ويصونه من هذه الأمراض المتكرسة فيه، وهذا الحافظ والصائن إنما هو الله سبحانه وتعالى.

 

عقدة الـذات

 

في بعض الأحيان يجد الانسان صعوبة بالغة في تجاوز هواه وذاته، ولكنه إن لم يحقق النصر عليهما، وانشغل في تحقيق مصالحه الخاصة، وانغمس الآخرون كما انغمس هو في الأنانية وحب الذات.. كان المجتمع إذ ذاك عبارة عن مجموعة من الوحوش الكاسرة، وإذا كان ذلك تفشى الظلم وساد منطق القوة في المجتمع، حيث ينهش البعضُ البعضَ الآخر وينهار كل شيءٍ.

 

أقول: إن الانفاق صعب، وعدم الإنفاق أصعب، فياترى كيف يتمكن المرء من الانفاق فيخطو خطوة نحو التكافل الاجتماعي؟ وكيف له محاربة عدوّه الداخلي وهو النفس، فتكون يداه مبسوطتين قادرتين على البذل والعطاء؟

 

وقبل الإجابة، ينبغي الإشارة الى موضوعين أساسيين؛

 

الأول: هو أن حديثـي هذا لا يشمل الأفراد الذين يتوجّب عليهـم الإنفاق فحسب، بل هو يعم من ينبغي عليهم التحدّث الى الناس ونصحهم بالإنفاق؛ بمعنى ضرورة تقديم برنامج متكامل لإقناع الآخرين بجدوى الإنفاق، حيث تنتشر العدالة ويتقدم المجتمع.

 

أما الموضوع الثاني: فهو أن الإنفاق لا يعني جدلاً إنفاق المال فقط، فالله تبارك وتعالى قال في أكثر من مقام: «وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم»، (المنافقون/10) «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» (الشورى/38).. فالإنفاق قد يكون بانفاق الطاقات والامكانيات الأخرى، فمن لا يستطيع إنفاق المال قد يكون بإمكانه حثّ الآخرين على الإنفاق، ومن يعجز عن منح المال بوسعه أمر الناس بالمعروف أو نهيهم عن المنكر أو التخطيط لمشاريع ثقافية أو سياسية تهدف الى خدمة المجتمع وتطويره. وهذه وغيرها صور للإنفاق في سبيل الله تعالى، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "الدال على الخير كفاعله".([45])