akdak

المقالات

قسم الفقه

التبادر دليل الوضع‏

181

الشيخ محمد علي الأراكي

لا شكّ أنّ فائدة الفراغ عن معنى اللفظ من أيّ طريق كان هو عدم حاجة المكلّف في مقام العمل إلى إجراء الأصل من البراءة والاحتياط ونحوهما، فلو علم أنّ معنى لفظ الصعيد في قوله: «فتيمّموا صعيدا» هو مطلق وجه الأرض الشامل للرمل والطين مثلا لم يحتج عند وجدانهما مع التراب الخالص إلى الاحتياط بالتيمّم به، ولا عند وجدانهما مع فقده إلى الاحتياط بالتيمّم بهما ثمّ القضاء بعد ذلك مثلا.

 

ولا شكّ أنّ تبادر معنى من لفظ من حاقّه بحيث علم أنّه لا قرينة في البين أصلا شاهد قطعيّ بأنّ استناد هذا التبادر إلى الوضع، ضرورة عدم مناسبة بين شي‏ء من الالفاظ وبين شي‏ء من المعانى قبل الوضع أصلا.

ثمّ إنّ هذا التبادر يكون على قسمين:

الأوّل: أن يكون عند العالم باللسان ويكون المستعلم هو الجاهل به كما لو شاهد شخص من العجم أنّ شخصا من العرب قال لصاحبه: جئني بالخبز، فأتاه بالطعام المعهود فيعلم أنّ لفظ الخبز موضوع لجامع هذا الطعام، وهذا القسم لا إشكال فيه.

الثاني: أن يكون التبادر عند نفس المستعلم فيكون الشخص الواحد مستفتيا ومجيبا معا، وقد استشكل على هذا القسم بأنّه لا شكّ أنّ تبادر المعنى من اللفظ يتوقّف على العلم بأنّه معناه؛ ضرورة أنّ الترك لا يفهم معنى اللفظ العربي قطعا، فلو كان العلم بأنّه معناه متوقّفا على التبادر لزم الدور.

وقد أورد إمام المشكّكين نظير هذا الإشكال على الشكل الأوّل الذي هو أوضح الأشكال، بيان ما أورد هو أنّ العلم بالكبرى بكلّيتها متوقّف على العلم بالنتيجة فلا بدّ أوّلا من العلم بأنّ العالم مثلا حادث لأنّه من أفراد المتغيّر، فبدون العلم بحدوثه كيف يحصل العلم بأنّ كلّ متغيّر حادث؟ فلو كان العلم بالنتيجة متوقّفا على العلم بالصغرى والكبرى ونتيجة الاستدلال بهما لزم الدور.

والجواب عن هذا الإشكال في الشكل الأوّل بالفرق بين الموقوف والموقوف‏ عليه بالإجمال والتفصيل، بيانه أنّ استعلام وجوب إكرام زيد بالخصوص مثلا من أجزاء علمه، وأنّ كلّ عالم واجب الإكرام لا ينافيه علم المستعلم بأنّ كلّ عالم واجب الإكرام؛ لأنّ من الواضح أنّ العلم بذلك لا يتوقّف على العلم بوجوب إكرام كلّ فرد فرد من العالم تفصيلا، فالموقوف عليه هو العلم بوجوب إكرام زيد إجمالا وبعنوان أنّه فرد للعالم، والموقوف هو العلم بوجوب إكرامه تفصيلا وبعنوان أنّه زيد.

والجواب عنه في التبادر أنّ ما يتوقّف عليه التبادر هو العلم الارتكازي وما يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيلي.

توضيح ذلك في عكس ما نحن فيه وهو ما إذ كان المعنى معلوما واللفظ غير معلوم هو أنّه مثلا لو فرض أنّ لك صديقا اسمه الحسن لكنّك نسيت اسمه فلا شكّ أنّك حينئذ كلّما عرضت على ذهنك لفظا غير لفظ الحسن كلفظ محمّد وأحمد وعلى وحسين ونحوها يأباه الذهن حتّى إذا عرضت عليه لفظ الحسن يقبله سريعا ويحكم بأنّه اسم هذا الصديق، فثبت أنّ هنا علمين، علما ارتكازيا حاصلا قبل القبول، والدليل على وجوده هو الامتناع والقبول المذكوران، وعلما تفصيليّا حاصلا بعده، فما يتوقّف عليه القبول هو الأوّل، وما يتوقّف على القبول هو الثانى.

فنقول فيما نحن فيه مثلا: لو فرض أنّك كنت من الأعراب أو مأنوسا بلغتهم واستعملت لفظة الماء في كلامك مرارا غير شاكّ في معناه أصلا لكن عرض لك كثرة المجالسة مع العجم، وكثر التشكيك بين علمائهم فضلا عن عوامهم في بعض أقسام الماء فاشتبه الأمر بسبب ذلك عليك أيضا، فشككت أنّ لفظ الماء موضوع للطبيعة الخاصّة فيما إذا كانت خالصة عن غيرها بالحسّ لا بالدقّة العقليّة أو لما هو أعم من ذلك بحيث يشمل وقية منها فيها ربع من التراب، فلا شكّ أنّك حينئذ كلما عرضت على ذهنك لفظا غير لفظ الماء كلفظ الحمار والفرس والشجر ونحوها ليكون اسما لغير الخالص يأباه الذهن، ومتى عرضت عليه هذا اللفظ لم يأب منه، فهذا الامتناع وهذا القبول يدلّان على أنّ لفظ الماء موضوع للأعمّ من الخالص؛ إذا المفروض أنّك كنت في السابق عالما بمعنى اللفظ بوجه صحيح.

هذا فيما إذا كان الشكّ في أضيقيّة المفهوم وأوسعيّته، وكذا فيما إذا كان الشكّ في أصل المعنى فيعرض المعاني على الذهن واحدا بعد واحد مع اللفظ، فإذا قبل الذهن واحدا منها يحكم بأنّه معنى اللفظ.

هذا إذا كان جهل المستعلم مسبوقا بالعلم فيكون القبول وعدم القبول عنده موجبا لحصول العلم له بمعنى اللفظ، وليس برهانا ودليلا عقليّا حتّى يلزم به الخصم، وأمّا إذ كان جهله ابتدائيّا غير مسبوق بالعلم أصلا فحينئذ لا يمكن حصول التبادر عنده، فالمقصود من التبادر الذي ذكر أنّه علامة للحقيقة إنّما هو التبادر عند أهل اللسان لغيرهم والتبادر عند المستعلم الذي كان عالما في السابق.

ثمّ إنّ أصالة الحقيقة المعبّر عنها بأصالة عدم القرينة أيضا مقيّدة عند الشكّ في أنّ استناد التبادر إلى حاقّ اللفظ أو إلى القرينة، فلو شكّ أعجمي عند قول عربي لعربيّ آخر: جئني بالأسد، وإتيانه برجل شجاع في أنّ لفظ الأسد موضوع لمطلق الشجاع أو للحيوان المفترس واريد الرجل الشجاع بقرينة من حال أو مقال قد اختفت عليه، وبعبارة اخرى في أنّ استناد فهم المخاطب إلى حاقّ اللفظ أو إلى القرينة المخفيّة، فحينئذ يحكم بمقتضى أصالة الحقيقة المفروغ عن حجيّتها بناء العقلاء بأنّ هذا اللفظ موضوع للمعنى الأعمّ وأنّ استناد فهم المخاطب إلى نفس اللفظ.

فإن قلت: إنّ القدر المتيقّن من حجيّة هذا الأصل والمسلّم من بناء العقلاء على العمل به إنّما هو في صورة الشكّ في المراد بمعنى أنّه لو علم أنّ لفظ الأسد مثلا حقيقة في الحيوان المفترس ومجازا في الرجل الشجاع وشكّ في أنّ مراد المتكلّم هو الأوّل أو الثاني بالقرينة المخفيّة فحينئذ يحكم بمقتضى هذا الأصل بأنّ المراد هو الأوّل، وأمّا في صورة الشكّ في الوضع والعلم بالمراد فلا يصحّ التمسّك به، وبالجملة أنّ هذا الأصل حجّة في الشبهة المراديّة لا في الشبهة الوضعيّة.

قلت: قد استعمل شيخنا العلّامة قدّس سرّه نظير هذا حيث ذكر ما حاصله أنّه لو ورد أكرم العلماء وعلم من الخارج بأنّ زيدا لا يجب إكرامه، سواء كان عالما أو جاهلا وشكّ في أنّه عالم حتّى يكون العالم المذكور مخصّصا، أو ليس بعالم حتّى لا يكون كذلك، فحينئذ يحكم بمقتضى أصالة عدم التخصيص بعدم عالميّته، إلى غير ذلك من الموارد المتفرّقة في مكاسبه، ويظهر من ذلك ميله قدّس سرّه إلى حجّية الاصول اللفظيّة في غير موارد الشبهة المراديّة من موارد الشبهة في التصرّفات اللفظيّة ونحوها.

ويظهر ذلك أيضا من سيّدنا المرتضى قدّس سرّه حيث إنّه قائل بظهور الاستعمال في الحقيقة من دون فرق بين كونه في معنى واحد أو معنيين وأكثر، كما أنّ كلام من قال بأنّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ناص في عدم حجيّة أصالة الحقيقة في غير موارد الشبهة في المراد.

وبالجملة فإن ثبت حجّية الاصول اللفظيّة في غير مورد الشبهة المراديّة فهو المطلوب وإلّا فحيث إنّ دليلها لبّي، لا بدّ أن يقتصر فيها على القدر المتيقّن منه من موارد الشبهة في المراد، وحينئذ فتبادر المعنى من اللفظ عند العالم بالوضع إنّما يصلح علامة على الحقيقة للجاهل في مورد العلم باستناده إلى نفس اللفظ، وأمّا في مورد احتمال الاستناد إلى قرينة خفيت عليه فلا يتحقّق العلامة؛ لعدم إمكان إحراز جزئها أعني ثبوت الاستناد إلى نفس اللفظ بأصالة عدم القرينة.

[فى ان عدم صحّة السلب علامة الحقيقة]

ثمّ إنّ عدم صحّة السلب علامة الحقيقة كما أنّ صحّة السلب علامة المجاز، وإشكال الدور جار هنا، وجوابه هو ما تقدّم من الفرق بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل أو بالإضافة إلى العالم والمستعلم.

[فى ان الاطّراد علامة الحقيقة ام لا]

ثمّ إنّهم ذكروا الاطّراد علامة للحقيقة وعدم الاطّراد علامة للمجاز، ويحتمل أن يكون المراد بالاطّراد أحد معنيين:

الأوّل: شيوع تطبيق اللفظ على أفراد مفهوم بين أهل اللسان، مثاله لو راى هنديّ أنّ فارسيّا قال لخادمه: «ببر اين چغندر را به خانه» فأطلق مفهوم لفظ «چغندر» على هذا الشي‏ء الخارجي، فعند ذلك يحتمل هذا الهندي أن يكون هذا الشي‏ء مصداقا حقيقيّا للمفهوم الحقيقي لهذا اللفظ، وأن يكون مصداقا ادعائيّا له من باب الحقيقة الادّعائيّة التي أثبته السكّاكي، وأن يكون هذا اللفظ مستعملا في‏ المفهوم المجازي بقرينة قد اختفت عليه ويكون الإطلاق باعتباره.

فإذا صبر أيّاما متردّدا في السوق وتتّبع محاورات أهله وعثر على مقدار شائع كبير من هذا الإطلاق أعني إطلاق مفهوم لفظ «چغندر» على أمثال الشي‏ء السابق فلا شكّ أنّ هذا مورث للقطع بالاحتمال الأوّل وعدم الأخيرين، ضرورة أنّ الحقيقة الادّعائية لو سلّمت فإنّما هي في مقامات يطلب فيها البلاغة كمقام إنشاء الخطبة والشعر ونحوهما، لا في مثل محاورات أهل العرف الصادرة منهم في ليلهم ونهارهم المتعلّقة بامور معاشهم ومعاملاتهم ونحوها.

وعدم سماع السامعة للقرينة اللفظيّة إنّما هو في مورد أو موردين أو ثلاثة أو أربعة لا في عشرة موردا، وكذا خفاء القرينة الحاليّة بأن يكون متحقّقة بنجوى بين المتخاطبين أو معهودة بينهما في السابق بحيث لم يطّلع عليها المتتبّع إنّما هو في خمسة أو ستّة أو عشرة موردا لا في عشرين موردا.

وكون قرينة حاليّة عامّة في البين بحيث كان جميع أهل البلد بأصنافهم المتشتّتة مطّلعين عليها يتوقّف على جامع كأن يأمرهم شخص نافذ الكلمة على جميعهم باستعمال هذا اللفظ في معناه المجازي الفلاني بحيث صار ذلك قرينة عامّة يستغنى بها في استعمالات هذا اللفظ عن قرينة اخرى. ولا يخفى أنّ هذا من الاحتمالات التي لا يعتنى بها العقلاء كاحتمال سقوط السقف.

وبالجملة، فشأن القرينة الحاليّة أن يكون بين اثنين أو ثلاثة أو أربعة لا بين جميع الناس، والحاصل أنّه يحصل القطع بعدم القرينة بقول مطلق بسبب شيوع إطلاق مفهوم اللفظ على مصداق مفهوم، ولازم ذلك هو القطع بعدم المجازيّة.

فإن قلت: يحتمل أن يكون في البين شهرة ويكون الاستناد إليها ومع هذا الاحتمال كيف نقطع بعدم المجازيّة.

قلت: إنّا نفرض هذه العلامة في مورد كان عدم الشهرة فيه مفروغا عنه بسبب كخبر مخبر صادق، ولا محلّ لها بالنسبة إلى غير هذا المورد، كما لا محلّ للتبادر بالنسبة إلى العالم بالوضع، وعلى هذا المعنى يكون عدم الاطّراد عبارة عن عدم بقاء اللفظ الذي اطلق مفهومه على مصداق مفهوم كلفظ الأسد المطلق مفهومه على مصداق الرجل الشجاع في الاستعمالات المتأخّرة المعثور عليها بالتتبع على حاله في الاستعمال الأوّل، بأن ينكشف قرينته في الاستعمال الخامس أو السادس أو العاشر.

الثاني: شيوع استعمال اللفظ في المعنى وعدم اختصاصه بمقام دون مقام، وهذا المعنى يختصّ بالحقيقة؛ لأنّ المجاز سواء كان لغويّا أم عقليّا يحتاج إلى القرينة والعلاقة التي يصحّ معها الاستعمال، فاستعماله لا يطّرد في جميع المقامات بل في خصوص مقامات وجود العلاقة المذكورة والقرينة، ومطلوبيّة الفصاحة كاختصاص التأكيد في الكلام بمقامات خاصّة بخلاف المعنى الأوّل؛ فإنّه ثابت في المجاز أيضا لكنّه فيه مع إدراك العلاقة المذكورة والقرنية، وقد عرفت أنّه في الحقيقة كاشف عن عدم القرينة.