akdak

المقالات

قسم الادعية والزيارات

غوائل الذنوب

589

ألسيد مهدي الصدر

إنّ بين الأمراض الصحيّة التي يعانيها الإنسان ، وبين الذنوب التي يقترفها شبَهاً قويّاً في نشأتهما ، وسُوء مغبّتهما عليه .

فكما تنشأ أغلَب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحيّة التي وضَعها الأطباء ، وقايةً وعلاجاً للأبدان ، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهيّة ، والنُظُم السماويّة ، التي شرّعها اللّه تعالى لإصلاح البشَر وإسعادهم .

وكما يختصّ كلّ مرضٍ بأضرارٍ خاصّة ، وآثارٍ سيّئة ، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المَرَضيّة ، كذلك الذنوب ، فإنّ لكلّ نوعٍ منها مغبّةً سيّئة ، وضرراً فادحاً ، وآثاراً خطيرة ، تُسبّب للإنسان ألوان المآسي والشقاء .

ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الإساءة والأذى ، فإنّ الذنوب أشدّ نكايةً ، وأسوأ أثراً من الأمراض ، لسهولة معالجة الأجسام ، وصعوبة مباشرة النفوس .

لذلك كانت الذنوب سموماً مُهلكة ، وجراثيم فاتكة ، تعيث في الإنسان فساداً ، وتُعرّضه لصُنوف الأخطار والمهالك .

انظر كيف يَعرض القرآن الكريم صوَراً رهيبةً مِن غوائل الذنوب ، وأخطارها الماحقة في سلسلةٍ مِن آياته الكريمة :

قال تعالى : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء : 16] .

وقال تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام : 6].

وقال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف : 96] .

وقال تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال : 53].

وقال تعالى : {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى : 30].

وقال تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41].

وهكذا جاءت أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) مُحَذِّرةً غوائل الذنوب ، ومآسيها العامّة وأوضحَت أنّ ما يُعانيه الفرد والمجتمع ، مِن ضروب الأزَمَات ، والمِحَن ، كشيوع المظالم  وانتشار الأمراض ، وشُحّ الأرزاق ، كلّ ذلك ناشئ مِن مقارفة الذنوب والآثام ، وإليك طرَفاً منها : عن الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : عجِبتُ لِمَن يحتمي مِن الطعام مخافة الدّاء ، كيف لا يحتمي مِن الذنوب مخافة النار ؟!!) (1) وعن الرضا عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : يقول اللّه تبارك وتعالى : يابن آدم ما تنصفني ، أتَحَبّب إليك بالنِّعَم ، وتَتَمَقّت إليّ بالمعاصي ، خيري عليك مُنزَل ، وشرّك إليَّ صاعد ، ولا يزال ملَكٌ كريمٌ يأتيني عنك في كلّ يومٍ وليلة بعملٍ قبيحٍ   يابن آدم لو سمِعْت وصفَك مِن غيرك ، وأنت لا تعلَم مَن الموصوف ، لسارعت إلى مقته )(2).

وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبِه نكتةً سَوداء ، فإنْ تاب انمَحَت  وإنْ زاد زادَت ، حتّى تَغلِب على قلبِه فلا يُفلِح بعدها أبداً ) (3) .

وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( إنّ العبدَ يسأل اللّه الحاجة ، فيكون مِن شأنه قضاؤها إلى أجلٍ قريب أو إلى وقتٍ بطيء ، فيذنب العبدُ ذنباً ، فيقول اللّه تبارك وتعالى للمَلَك : لا تقضِ حاجته   واحرمه إيّاها ، فإنّه تعرّض لسخَطي ، واستوجَب الحرمان منّي ) (4) .

 

وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( كان أبي ( عليه السلام ) يقول : إنّ اللّه قضى قضاءً حتماً ألاّ يُنعِم على العبدِ بنعمةٍ فيسلُبها إيّاه ، حتّى يُحدِث العبدُ ذنباً يستحقّ بذلك النقمة ) (5) .

وقال الرضا ( عليه السلام ) : ( كلّما أحدَث العِباد مِن الذنوب ما لم يكونوا يعلمون ، أحدَث اللّه لهُم مِن البلاء ما لَم يكونوا يعرفون ) (6) .

وقال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( إذا غضِب اللّه عزّ وجل على أُمّةٍ ، ولَم يُنزِل بها العذاب ، غلَت أسعارها ، وقَصُرت أعمارها ، ولَم يربَح تِجّارُها ، ولَم تَزكُ ثِمارها ، ولم تَغزَر أنهارها ، وحُبِس عنها أمطارها ، وسلّط عليها شرارها ) (7) .

وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( وجدنا في كتاب رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : إذا ظهر الزنا مِن بعدي كثُر موتُ الفجأة ، وإذا طُفِّفَ المِكيال والميزان ، أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص ، وإذا منعوا الزكاة ، مَنعَتْ الأرضُ برَكَتها مِن الزرع والثمار والمعادن كلّها ، وإذا جاروا في الأحكام ، تعاونوا على الظلم والعدوان ، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوّهم ، وإذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار ، وإذا لم يأمروا بالمعروف ، ولم ينهَوا عن المنكر ، ولم يتّبعوا الأخيار مِن أهل بيتي ، سلّط اللّه عليهم شرارهم ، فيدعو أخيارهم فلا يُستجاب لهم )(8) .

وعن المفضّل قال : قال الصادق ( عليه السلام ) : ( يا مفضل ، إيّاك والذنوب ، وحذِّرها شيعتنا ، فواللّه ما هي إلى أحدٍ أسرع منها إليكم ، إنّ أحدَكم لتُصيبه المَعَرّة مِن السلطان ، وما ذاك إلاّ بذنوبه ، وإنّه ليصيبه السقَم وما ذاك إلاّ بذنوبه ، وإنّه ليُحبَس عنه الرزق وما هو إلاّ بذنوبه ، وإنّه ليُشدّد عليه عند الموت وما هو إلاّ بذنوبه ، حتّى يقول مَن حضر : لقد غُمّ بالموت) .

فلمّا رأى ما قد دخلني ، قال : ( أتدري لم ذاك يا مفضل ؟ ) ، قلتُ : لا أدري جُعلت فداك .

قال : ( ذاك واللّه أنّكم لا تؤاخَذون بها في الآخرة ، وعُجّلت لكم في الدنيا )  .

وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( توقّوا الذنوب ، فما مِن بليّةٍ ، ولا نقصِ رِزقٍ ، إلاّ بذنبٍ ، حتّى الخَدْش ، والكبوَة ، والمصيبة ، قال اللّه عزّ وجل : {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى : 30] .

وربّما لبّس الشيطان على بعضٍ الأغراء ، بأنّ الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة ، لأشقّت المنهمكين عليها ، السادرين في اقترافه ا، وهُم رَغم ذلك في أرغَد عيش وأسعَدِ حياة .

وخفِيَ عليهم أنّ اللّه عزَّ وجل لا يُعجزه الدرك ، ولا يخاف الفوت ، وإنّما يُمهِل العُصاة   ويُؤخّر عقابهم ، رعايةً لمصالحهم ، عسى أنْ يثوبوا إلى الطاعة والرشد ، أو يُمهَلَهم إشفاقاً على الأبرياء والضُّعَفاء مِمّن تضرّهم معاجلةُ المذنبين وهُم بُرَءاءُ مِن الذنوب .

أو يُصابِر المجرمين استدراجاً لهم ، ليزدادوا طُغياناً وإثماً ، فيأخُذهم بالعقاب الصارم ، والعذاب الأليم ، كما صرّحت بذلك الآيات والروايات .

قال اللّه تعالى : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [آل عمران : 178].

وقال سُبحانه : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر : 45].

وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا أرادَ اللّهُ بعبدٍ خيراً ، فأذنَب ذنباً ، أتبَعهُ بنقمةٍ ، ويُذكّره الاستغفار ، وإذا أراد بعبدٍ شراً ، فأذنب ذنباً ، أتبعه بنعمةٍ ، ليُنسيه الاستغفار ، ويتمادى بها وهو قول اللّه تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 182] بالنِّعَم عند المعاصي ) (9) .

وقال الإمام موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) : ( إنّ للّه عزّ وجل في كلِّ يومٍ وليلة مُنادِياً يُنادي : مهلاً مهلاً ، عبادَ اللّه عن معاصي اللّه ، فلولا بهائمٌ رُتّع ، وصبيةٌ رُضّع ، وشيوخٌ ركّع  لصُبّ عليكم العذاب صبّاً ، تُرَضّون به رضّاً )(10) .

وقد يختلِج في الذهن أنّ الأنبياء والأوصياء معصومون مِن اقتراف الذنوب والآثام ، فكيف يؤاخذون بها ، ويعانون صنوف المِحَن والأرزاء ؟.

وتوجيه ذلك : أنّ الذنوب تختلف ، وتتفاوَت باختلاف الأشخاص ، ومبلغ إيمانهم ، وأبعاد طاعتهم وعبوديّتهم للّه عزَّ وجل .

فرُبّ متعةٍ بريئة ، يتعاطاها فردان : يحسبها الأوّل طيّبةً مباحة ، ويحسبُها الثاني جريرةً وذنباً  حيث ألهته عمّا يتعشّقه مِن ذكر اللّه عزّ وجل وعبادته .

وحيث كان الأنبياء ( عليهم السلام ) هُم المَثل الأعلى في الإيمان باللّه ، والتفاني في طاعته والتولّه بعبادته ، أعتُبر تركُ الأولى منهم ذنباً وتقصيراً ، كما قيل : ( حسَنات الأبرار سيّئات المقربّين ) .

هذا إلى أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.

وقد تكون المحن والأرزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتَحن ، وجَلَده على طاعة اللّه ، ونافذ قَدَرِه ومشيئته ، وقد تكون وسيلةً لمضاعفة أجر المبتلى ، وجزيل ثوابه ، بصبره على تلك المعاناة  وتفويض أمره إلى اللّه عزّ وجل .

__________________

1- البحار : م 15 ، ج 3 ، ص 155 ، عن أمالي الصدوق .

2- البحار : م 15 ، ج 3 ، ص 156 ، عن عيون أخبار الرضا للصدوق .

3- ، 4 - الوافي : ج 3 ، ص 167 ، عن الكافي .

5- الوافي : ج 3 ، ص 167 ، عن الكافي .

6- الوافي : ج 3 ، ص 168 ، عن الكافي .

7- الوافي : ج 3 ، ص 173 ، عن التهذيب والفقيه .

8- الوافي : ج 3 ، ص 173 ، عن الكافي .

9- الوافي : ج 3 ، ص 173 ، عن الكافي .

10- الوافي : ج 3 ، ص 168 ، عن الكافي .